إني أثق بعدالة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان
فيصل الشيخ محمد
قيل الكثير حول قرار القاضي الدولي دانيال فرانسيس بإطلاق سراح الضباط اللبنانيين الأربعة الذين كانوا محتجزين على خلفية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري منذ العام 2005، بناء على طلب المدعي العام الدولي دانيال بلمار.. قيل الكثير بين مرحب وممتعض، ودبّجت المقالات والتحليلات، وأقيمت الاحتفالات والتكريمات، وأطلقت التصريحات النارية منها والمستهجنة من هنا وهناك.
وما قيل وردد هو حالة طبيعية كردة فعل للممتعضين والمرحبين.. فكل فريق كان يغني على ليلاه، حتى وإن تجاوز في بعضها الخطوط الحمر، وهذا أمر عادي في لبنان الديمقراطي، ففي لبنان يذهب الرأي الآخر والمخالف إلى أبعد مدى دون حرج من الآخر وهذه هي حلاوة اللعبة الديمقراطية التي لا يعرف لذتها وحلاوتها إلا المرضى في الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
أريد أن أقول إن ما قام به القاضي دانيال فرانسيس من إطلاق سراح الضباط الأربعة، بناء على طلب المدعي العام دانيال بلمار، يؤكد أن المحكمة غير مسيسة، وبالتالي فعلى الجميع أن ينتظروا بصبر وأناة وعقلانية ودون تشنج أو مزيد من الفرح سير أعمال المحكمة، وما يمكن أن تكون عليه قراراتها اللاحقة.
فإطلاق سراح الضباط الأربعة لا يعني البراءة الخالصة، واحتجازهم لا يعني الاتهام الخالص، وهذا ما صرح به القاضي بلمار، الذي أكد أنه إذا ما ثبت لديه ما يشير إلى تورطهم بأي شكل من الأشكال، فإنه سيوجه مذكرة قبض بحقم ويسوقهم على المحكمة في لاهاي كمتهمين.
وأنا هنا أتوجه إلى كل الفرقاء في لبنان الشقيق أن لا يجعلوا من قضية الضباط الأربعة مشكلة لبنان الأولى، وهم مقدمون على عملية انتخابية مفصلية، وتحتاج هذه العملية إلى مزيد من الاحترام وعدم الاتهام بين كل الفرقاء، وأن لا تكون قضية الضباط الأربعة ورقة مساومة وضغط بينهم خلال الانتخابات، احتراماً للعدالة ولروح الشهيد رفيق الحريري ولهؤلاء الضباط الأربعة أنفسهم، ليخرج لبنان من هذه العملية معافىً وعلى أحسن حال، وليدعوا أمر المحكمة لعدالة القضاة الذين تصدوا لهذا الأمر وقبل بهم اللبنانيون جميعاً، بكل أهوائهم ومشاربهم وأطيافهم.. وما إطلاق سراح الضباط الأربعة إلا مقدمة ورمزاً لنزاهة القضاء الدولي وعدالته، وأن المحكمة بذلك أثبتت عدم انحيازها لأي طرف من الأطراف وليست مسيسة، وتسير في الطريق الصحيح، وعلى كل الأطراف صاحبة الشأن والعلاقة أن تتعاون مع هذه المحكمة إلى أبعد الحدود، حتى تتحقق العدالة ويُساق القتلة والمخططون والمنفذون والمدبرون والمتورطون لهذه الجريمة إلى قفص عدالتها، وينزل بهم الحكم العادل الذي يترقبه ويتمناه الجميع في لبنان وغير لبنان.
وما جعلني أثق بهذه المحكمة ونزاهة قضاتها.. كون المحكمة في بلد محايد، ويقوم على أمرها قضاة مشهود لهم بالنزاهة وعدم الانحياز أو الكيل بمكيالين، أو الرضوخ لأية ضغوط ومن أية جهة كانت دولية أو إقليمية أو محلية، بعكس القضاء في بلداننا العربية الذي لوثته يد الجبروت والطغيان، وأفسدته الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
وتحضرني في هذه المناسبة – زيادة في الاطمئنان والوثوق بعدالة المحكمة الدولية – مجريات المحكمة التي أقيمت للمجاهد السوري إبراهيم هنانو، والتي كانت تضم قضاة عسكريين فرنسيين أيام احتلال فرنسا لسورية، ويريد الاحتلال إدانة هذا البطل المنافح عن وطنه، وإصدار أشد العقوبات بحقه.. وسارت المحكمة على الشكل التالي:
عقدت المحكمة جلساتها في 15 آذار من عام 1922 وتواصلت حتى 25 آذار من نفس العام، وقد طالب النائب العام الفرنسي المحكمة بإعدامه قائلاً: (لو أن لهنانو سبعة رؤوس لطلبت قطعها جميعاً).
ولكن القاضي الفرنسي قرر عكس ما كان يشتهي النائب العام، فقد برأ هنانو وأمر بإطلاق سراحه، معتبراً (ثورته ثورة سياسية مشروعة) معلناً (استقلالية السلطة القضائية الفرنسية عن السلطة العسكرية). وأطلق سراح المجاهد البطل إبراهيم هنانو وسط دهشة كل من حضر مرافعات النائب العام والمحققين الفرنسيين.
وإذا ما تابعنا الصورة وما كان عليه موقف القاضي العسكري وهو على منصة القضاء، وموقفه وهو في مكتبه خارج تلك المنصة، لأصبنا بالدهشة: كم لمنصة القضاء عند هؤلاء من هيبة وقدسية واحترام!!
بعد انتهاء المحاكمة وإطلاق سراح هنانو، حاول محاميه فتح الله صقال أن يدخل إبراهيم هنانو إلى مكتب رئيس المحكمة ليشكره على حكمه، فاعتذر القاضي الفرنسي عن استقبال هنانو في مكتبه قائلاً: (أنا لا أصافح رجلاً تلوثت يداه بدماء الفرنسيين.. عند الحكم كنت على منصة القضاء، أما الآن فانا مواطن فرنسي)!!
خاص – صفحات سورية –