صفحات العالمما يحدث في لبنان

استحالة إلغاء مفاعيل الاغتيال

وليد شقير
كان طبيعياً ان يرافق إطلاق سراح الضباط اللبنانيين الأربعة الذين كانوا موقوفين منذ آخر شهر آب (اغسطس) من عام 2005، رهن التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وسائر الجرائم المرتبطة بها، هذا القدر من الانفعال العاطفي، والفرح إزاء إخلاء سبيلهم من جانب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، سواء عند عائلاتهم أم أقاربهم وأصدقائهم والقوى السياسية المتعاطفة معهم في المعارضة اللبنانية.
لم يكن ممكناً، في ظل الانقسام السياسي الحاد في البلاد، على رغم محاولات بعض الفرقاء في الجهتين ورئيس الجمهورية ميشال سليمان التخفيف من حدته لضمان إجراء انتخابات نيابية بحد أدنى من الهدوء، ان تكون التعليقات وردود الفعل بعيدة من هذا الانقسام. وبصرف النظر عن النواحي القانونية المرتبطة بإنهاء توقيف الضباط الأربعة وما ترتبه على صعيد مواصلة المحكمة الخاصة أعمالها وتحقيقاتها، فإن الاجتهادات حول المغزى القانوني لخطوة قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرنسين بناء لتوصية المدعي العام دانيال بلمار، تأخذ هي بدورها بعداً سياسياً تحت مظلة الانفعالات والابتهاج بخروج الضباط، فيندمج الجانب الإنساني بالجانب القضائي والنواحي السياسية للقضية. وهذا الشعور باختلاط الأمور قد ينطبق ايضاً على بعض ردود الفعل من جانب الأكثرية. ولذلك فإن الركون الى تفسير القاضي بلمار، والذي نشر عقب قرار فرانسين، وقال فيه انه ادلى به قبل صدور القرار، يبدو بالمبدأ والأصل هو التفسير الذي يُفترض الركون إليه، (من الناحية القانونية) والذي شرح فيه المبادئ التي استند إليها للموافقة على إخلائهم. وهو انتهى الى الآتي: “على الناس ان يدركوا ان التحقيق يتجاوز نطاقه قضية الضباط الأربعة ليس إلا، وعليهم ان يدركوا انني سأطلب احتجازهم واتهامهم في حال أشار أحد خيوط التحقيق إليهم استناداً الى أدلة موثوقة…”.
وبعد مضي 24 ساعة، ما زال هذا التفسير من المصدر القانوني المعني، عرضة للتجاهل، بفعل فورة الانفعالات التي تواصلت بعد عودة الضباط الى منازلهم والرعاية السياسية التي احاطتهم من قبل “حزب الله” وبعض رموز المرحلة السياسية السابقة على جريمة الاغتيال.
لقد كان التوتر عند بعض قوى الموالاة إزاء قرار المحكمة خافتاً، وأظهر بعض رموزها على انه في حال انقباض وخيبة سعى زعيم تيار “المستقبل” النائب سعد الحريري الى تبديدهما في الكلام الذي قاله مؤكداً ان القرار دليل على عدم تسييس المحكمة وأنه يقبل به تأكيداً لالتزامه بالمحكمة. اما التوتر الذي شحنته الانفعالات في الجانب الآخر أي المعارضة فقد كان خليطاً من الصراخ والسباب والشتائم ضد رموز من الموالاة، لا تفعل سوى التذكير بأسلوب النظام الأمني القديم… ولكلا التوترين أسباب سياسية طبعاً. إلا ان أبرز ما يستنتجه المرء من حملة بعض رموز المعارضة على آل الحريري ورموز في الأكثرية، والقضاء اللبناني، هو ان خروج الضباط منطلق لتغيير في المعادلة السياسية بالنسبة الى المعارضين، يطاول كل الجوانب. وقد يكون مشروعاً ان يسعى المعارضون الى ذلك. وهم اصلاً يأملون بتحقيق هذا التغيير عبر الانتخابات النيابية التي يأملون بأن تعينهم الحملة الإعلامية التي أطلقوها اول من أمس، على ربحها.
لكن ما يفوت هؤلاء هو ان السلطة القائمة حالياً والمعادلة التي تحكم لبنان، بأبعادها المحلية والخارجية، هي نتاج أحداث لا يمكن العودة بها الى الوراء، أبرزها وأهمها اغتيال الرئيس الحريري، وإلغاء هذه التداعيات، هو مثل إعادة رفيق الحريري الى الحياة، أي الإلغاء المستحيل لحدث الاغتيال ولحقيقة من يقف وراءه، كحدث (زلزال) سياسي وليس كحدث جرمي وجزائي، تتولى المحكمة متابعته.
لقد تحدث بعض رموز المعارضة، وبعض الضباط الخارجين الى الحرية، كأنهم عادوا الى السلطة التي كانوا يمارسونها في العهد السابق، من كثرة الانفعال فأخذوا يتوعدون ويهددون ويأمرون. وذكّر هذا الأمر بالأيام التي أعقبت الجريمة حين سعت السلطة آنذاك الى إلغاء مفاعيل الاغتيال من كثرة ثقتها بسيطرتها الكاملة، وحين اعتبرت ان “الناس سيحزنون لأسبوع وتعود الأمور الى طبيعتها بعده”. والذي حصل هو تحول سياسي كبير بدءاً بالانسحاب السوري، مروراً بقيام المحكمة وانتهاء بانتخاب رئيس للجمهورية مختلف تماماً عن الرئيس الذي كان…
كثيرون يعتقدون أن من أوجه الشبه مع السلطة السابقة ان “حزب الله” بات الوكيل الفعلي في إدارة الوضع الأمني بسبب قوته العسكرية الهائلة، بدلاً من سورية. لكن اذا كانت التحولات السياسية التي شهدتها البلاد (بعد جريمة الاغتيال) لم تلغ قرينة البراءة للضباط، فهل ان قرينة البراءة عامل كاف للعودة الى الوراء؟
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى