الخاسر الوحيد من حكاية الضباط الأربعة
نهلة الشهال
بدا لبنان بأكمله صغيراً حين صدر القرار بالإفراج عن الضباط الأربعة من لاهاي. بدا مليئا بـ«الحرتقات الضيعجية»، والقيل والقال البدائيين، والنكايات، والتشفي، والاستقواء باللحظة، والشغف بالغلبة. وراحت هذه الصورة البشعة تمتد مع تسرب الأنباء عما يوجد في خلفية المشهد: جريدة فرنسية كبرى، لوفيغارو، نشرت منذ أيام بعضا من ذلك. هناك إذاً معلومات كانت متوفرة لدى المسؤولين، تسمح بالشك في صلابة الشائعة-الرواية «الرسمية» التي هيمنت على امتداد أكثر من أربع سنوات، واستخدمت لإقامة حالة كاملة من الاستنفار، وإحداث تطورات ميدانية، ولتبرير احتجاز هؤلاء الضبــاط. وقـــد سُكت عنها، جرى تجاهلها لمصلحة سياسية! ماذا يتبقـــى مــن «الدولة» بعد ذلك؟ ألم يجعل الفريق الذي يُفتـــــرض أنه ينتمي إلى الرئيس المغتال، من شعار الدولة ومعه شعار «الحقيقة»، عناوينه؟ ما أفظع أن يقول السيد سعد الحريري عقب الإفراج عن الضباط، أنهم احتجزوا كل تلك المدة لأن الفريق الأخـــر، المعارض، لم يسهّل قيام المحكمة الدولية. كلام حمال أوجه، يفهـــم منه المغرضون أن الضباط كانوا رهائن، بينما قد يقصد الرجل أن سلطة الإفراج عنهم محصورة ببدء اشتغال المحكمـــة. فهــــل هذا دقيق أولاً؟ أم هو مجدداً تبرير متيسر؟ سوء الصياغة نفسه، وزلات الكلام، علاوة على استخدام الحجج – وإن «الشكلية»، على طريقة «لدي جواب عن كل شيء، وأنا على حق والآخرون هم المخطئون» – لتغطية الفجوات… كلها أساليب ذات دلالة، أي تعبر عن مناخ وعقلية قائمين. وما أفظع أن يكون الهاجس عند الافراج عن الضباط هو: من المستفيد؟ وهل يؤثر ذلك على نتائج الانتخابات النيابية المقبلة؟ عوضاً عن لحظة، ولو لحظة، من اليقظة، يقول فيها الجميع معاً: إلى الجحيم بالانتخابات! ماذا فعلنا بالبلد؟ كيف وصلنا إلى هذا الدَرَك!
لبنان الصغير مساحة – مما لا حيلة إزاءه – يدعي، أو يسعى، إلى تميز قيمي يعوض الجغرافيا. وهو يرتدي كل مظاهر ذلك التميز، من وجود تعدد في أنماط الحياة وحريات سياسية وثقافية وفردية، إلى وجود هياكل مؤسسات «موضوعية»، أي برلمان منتخب وفصل سلطات. فما الذي عطل الآلة، وسمح للفريق الحاكم بأن يصادر القضاء ويتصرف على سجيته؟ أسمع أصواتا تصرّح بأن ذلك بات ممكناً بعد ثلاثة عقود من الهيمنة السورية على لبنان، خرّبت أجهزته ونخرتها، وأرست قدراً لا يستهان به من الأحقاد. وبالمقابل، تصرّح أخرى بأنه نتاج النفوذ الغربي والأميركي تحديداً، الذي استبد بالبلد بفعل استقواء فريق به. ولكل صوت حججه وبراهينه، وهي فعلية إذا ما أخذت بالمطلق. ولكن هذا السجال هو استمرار للمنطق البشع الذي غالباً ما لجأ إليه اللبنانيون لممارسة التزوير وفــقدان الذاكرة معاً، والقائل بـ «حروب الآخرين على أرضنا».
فالسؤال الجوهري هو: أين الإرادة المحلية؟ كيف تبلورت، وبأي اتجاه؟ سؤال قد يبدو ساذجاً أو طوباوياً، ولكن لا بديل عنه، ولا تتوفر صيغة تقتصد الحاجة إليه. لا يوجد مثال واحد في العالم عن سياق تتخذه الأوضاع في بلد ما، أو في ظروف محددة، بلا موقف تتمكن من صياغته نخب ذلك البلد، سواء كانت النخب التقليدية المطابقة للبنية القائمة، أو نخب حديثة كالأحزاب، أو أفراد يمتلكون سلطة معنوية، كتاباً وفنانين، رجال دين، ومهنيين الخ… موقف توافقي، من علامات نضجه أنه يحوز على ثقل وتأثير (ألم تكن تلك صفة «الميثاق الوطني اللبناني»؟)، أو موقف يبقى ملكاً لأصحابه، وهذا اضعف الإيمان، ولكنه يُطرح بقدر عال من الوضوح، ويحاط بمقترحات عملية وإجرائية تمنحه صفة التيار المتشكل، دون تخلّيه عن هدف السعي إلى تعيين حيز التوافق الممكن مع الآخرين، واعتماد الديناميات، وأيضا الشكليات، اللازمة لإبقاء هذا الاحتمال قائماً.
فقدان هذا وذاك اكبر دليل على أن لبنان في حرب أهلية ممتدة، مرحلتها الحالية هي هذا الانشطار العمودي، الذي هو حرب أهلية باردة، سيما أنه لا علامات في الأفق لتبلور الإرادة المحلية وفق المواصفات تلك. الكارثة هي هذه، ومعها أن الفريق الذي يدعي بأنه الحداثي، الديموقراطي، الدولتي، وأنه لذا يتميز ثقافياً وليس سياسياً فحسب عن الفريق الآخر (الهمجي!)، هذا الفريق لا يمتلك من مضمون ادعائه سوى أناقة الكلام والهندام. بينما تبقى الحاجة تامة لما يتجاوز منطق الحرب الأهلية. إنه المفقود الأكبر، تُذكّر به حوادث في حجم الإفراج عن الضباط بعد احتجاز مديد بينما لا يوجد في ملفّهم «معلومات تتمتع بالصدقية الكافية» لتبرره أو تجيزه، وهم بالتالي «ليسوا مشبوهين ولا متهمين»، حسب قرار الإفراج الدولي: يا للفارق بين هذا وبين الضجيج الذي ساد حتى أسابيع قليلة، وبنيت عليه مواقف وحركت جموع وأثيرت غرائز وراح قتلى وجرحى وخربت بيوت واستشرى أكثر الفساد والرشوة والتعصب وعمى البصيرة، وأجاب الفريق المقابل باعتماد المنطق نفسه مقلوباً، فكان في اغلب ما قال وفعل سجين لعبة المرآة، وليس نقيضاً.
الضحية والخاسر من هذه الواقعة هو معركة الديموقراطية، ومعها معركة الحداثة. فهما يدوران في كل مكان من العالم حول الإبقاء على اكبر قدر من التمييز بين ثلاث دوائر متداخلة بالضرورة، هي الدولة والسلطة والفريق الحاكم. وعلامة الاستبداد، أياً كان شكله، هي تقلص التمييز وصولا إلى تطابق تلك الدوائر. هذا ما تقوله في نهاية المطاف قصة الضباط الأربعة.
سيقول قائل إنهم ليسوا ملائكة، وإنهم فعلوا في عهدهم هذا بسواهم.
فأين هم من لا يفعلون، وأين هم من يستنكرون مبدئياً، وليس حين تصل الموسى إلى رقابهم. تلك هي المسألة.
الحياة