عن انْهيَاراتنا الثقافيّة
محمد بنيـس
هي الانهيارات التي تتسارع، اليوم، وتيرتُها من بلد عربي إلى آخر، بدون تمييز. وأخص الأوضاع الثقافية بمرتبة الانهيارات العُليا. حتى ما كنّا نأمل فيه ثقافياً ذات يوم لم يعد يتحمّل أملنا. لم يعدْ يستطع أن يكون أملاً بكل بهَائه. في الجهات المختلفة، وبذات المنطق، نشاهدُ كيف يهوي فعلٌ بعد فعْل، نحو الأسفل الذي لا قعْرَ ولا قرار. كنْ من شئت وانظر إلى انهياري، يصرخُ فيك أملك وتصرخُ ثقافتك.
نماذج من هذا الانهيار تتجمّعُ وقائعُها وأخبارُها في حياتنا الثقافية. من بلد إلى بلد. ومن مؤسسة ثقافية إلى أخرى. كأنما الطوفان يقتلع الصروحَ من جذورها ويقذف بها إلى الهاوية. اختر البلد الذي تشاء ودقـق النظرَ في التفاصيل الخفية حيناً والمُعلنة حيناً آخر. لن تعثر على غير ما يؤلم ويفجع. حرية التعبير التي تزداد ضيقاً، بأشكال هي نفسُها التي شرّعت لها الأصوليات الدينية مثلما شرّعت لها الأصوليات الدنيوية، شرّع لها الظلاميون مثلما شرّع لها دكْتاتوريو التحديث. أو أوضاع المؤسسات الثقافية، الرسمية منها وتلك التي تدعي الاستقلالية عن السلطة ولها من الأسماء ما لا سبيل إلى اختصاره. إذ هي لجمع كلمة المثقفين وللدفاع عن القيم الثقافية حيناً، ولحماية المثقفين والسهر على أحوالهم المادية والمعنوية حيناً آخر. لك كلُّ الخيرات بأنواعها الموروثة عن العهد الستاليني أوعهد الاشتراكيات البائدة.
انهيارات ثقافية لا يعبأ بها المواطن العادي لأنها بدون معنى في حياته. وتحتل حيزاً متقلصاً من مساحات الأخبار، لأن الثقافة لا تبيع الصحافة ولا توفر ربحاً لوسائل الإعلام. لذلك فإن المثقفين هم المعنيون بها قبل غيرهم. أي أن لنا، من جديد، أن نسأل عن معنى حرية التعبير ومعنى هذه المؤسسات في بناء الثقافات الحديثة ونصيب العرب منها، في مرحلة التحديث الأولى، ثم في مرحلتنا الحالية. سؤال نتخلى به عن الخلط بين الفعل الثقافي وبين التنشيط، الذي أصبح عنوان ما تقبل عليه الدول عبر مهــــرجانات تسمى ثقافية أو ما تقوم به مؤسسات شبه رسمية من أفعال ترسخ ثقافة التنشيط بما هي ثقافة الفرجة والاستهلاك. بل علينا أن نطرح، مرة أخرى، معنى ذلك كله هذه في مآل الأوضاع الثقافية.
ذلك أن الانهيارات لم تعد تسمح لنا بالصمت، إن نحن كنا ننظر إلى فعلنا الكتابي والثقافي من ركن التحديث. هناك من المثقفين من يرى أن الممارسة الكتابية لا دخلَ لها في أوضاع الحياة الثقافية. وهو رأي يستند إلى قراءة لتاريخ التحديث الثقافي. ويحتاج للتأمل. على أنْ لا مفرّ من أن يواجه هذه الانهيارات الثقافية كلُّ واحد يشعر بأن أمر التحديث يعنيه، لأنه أمر ذات وأمر مصير، أيْ أمر رؤية متحررة للحياة، في أفق المغامرة والحرية. لا مفرّ. بمعنى أن الفعل الثقافي لا يزال يحمل قوة الضوء الذي ينقلنا من زمن العبودية إلى زمن التحرر. ينقلنا كأفراد مثلما ينقلنا كمجتمع. والفعل الثقافي الذي لا يملك رؤية نقدية ولا يحمل قدرة على إبدال باتجاه التحرر هو مجرد ما أصبحت قيم ثقافة الفرحة والاستهلاك تطلق عليه اسم ‘المنتوج’، إسوة بالمنتوجات الخاضعة للبيع والشراء، أي مجرد سلعة. وهذا أحدُ مظاهر العولمة الآخذ في الاستحواذ على العقول.
وأن لا تسمح لنا هذه الانهياراتُ الثقافية بالصمت إشارة إلى ما هو أساسي. تتراءى لي انهيارات زمننا، مع وجود الفرق، أشبهَ بما قاد الحضارة العربية سابقاً إلى الانهيار. كذلك أمر ما نحن اليوم عليه، من بعض الوجوه، بالمقارنة مع كان عليه مشروعُ التحديث الثقافي عبر العالم العربي حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. لسنا نعيش اليوم خطأ تقنياً. النظرة التي تقف عند مظاهر، وتقرأها معزولة عن بعضها البعض، هي وحدها التي تبقى مطمئنة على القادم. انتصاراتها تتوالد في كل آن. لستُ من هذا الصنف. ما ألاحظه سارياً في أكثر من حالة عبر العالم العربي، وما يتكرر ويشتد سعيرُه بدون توقف، وفي شروط الصمت المعمم، هو ما يحوّل الواقعة المعزولة إلى حالة معممة، ذات مفعول شامل.
بصفة الشمول يتبدد كل انتظار. ويتبدد كل حجْم من أحجام اللامبالاة. ولكن ما معنى ألا نصمت؟ هل نقف عند أبواب بيوتنا غاضبين، رافعين أعلاماً سوداء؟ أم نعلن عن برنامج استعجالي للإنقاذ، كما لو كنا كتيبة عسكرية تقود حركة انقلاب، أو قيادة عليا لتدبير أزمة الاقتصاد؟ أسئلة لن تتركنا محايدين ولن تتركنا في الوقت نفسه مطمئنين. وأبادر إلى القول بأن ما نحتاج إليه، قبل كل شيء، هو الإقدام على قراءة ما يجرى قراءة معرفية، نقدية، لكل من وضعية حرية التعبير، في مختلف أشكالها، ووضعية المؤسسات الثقافية، النابذة لنا والمغدقة علينا.
نحن بأشد الحاجة إلى الفكر النقدي، الذي يعود بنا إلى حيث نطرح السؤال من جديد. فالفكر النقدي، الذي لم نعد نبالي به، بسبب ما يستبد بثقافة اليوم في العالم، أنكرناه عندما أنكرنا السؤال. ومن ركن هذا الفكر يمكن أن ننطلق من جديد نحو إدراك ما لم نعد ندركه، أي هذه الانهيارات الهاربة بنا وتحدث في ظل صمت لا يشعر بأي حرج.
لنقل بأننا تخلينا عن معنى الثقافة ونحن نمارس الفعل الثقافي. تخلينا باختيار منا وبرضا وارتياح. خطواتنا القصيرة، المحسوبة، المطمئنة، هي خطوات من لا يريد أن تزعجه الأسئلة ولا أن يزعج أي طرف بالأسئلة. من يشتغل بالثقافة بدون فكرة تقود ما يشتغل به. ثقافة بدون فكرة. ولكن أليس هذا ما يجعل الجهل والاستبداد والعبودية العنوانَ المختارَ لمستقبلنا؟
القدس العربي