إدوارد سعيد الموسيقي
حسن مدن
المطلعون على سيرة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد يعرفون عمق اهتمامه واطلاعه الموسيقيين. فقد كان عازفاً ماهراً على البيانو ودارساً للموسيقا ومحللاً لها، فناً ودوراً وأثراً.
في هذا النطاق لاحظ سعيد أن أجهزة الأمن في السجون “الإسرائيلية” كانت، في نطاق التعذيب المنهجي الذي تمارسه ضد المعتقلين الفلسطينيين، تبث أشرطة موسيقية لبتهوفن مع الاستعانة بسماعات ضخمة ورفع درجة الصوت إلى حده الأقصى لإجبارهم على الاعتراف.
كان “الإسرائيليون” يطلقون على هذا النوع من التعذيب تعبير “الضغط البدني المعتدل”. في نتيجة ذلك أصبح بتهوفن، هذا الموسيقي العظيم الذي نشعر بالمتعة الروحية والاسترخاء ونحن نسمع موسيقاه اسماً مكروهاً لدى بعض المعتقلين لأن سماع موسيقاه يرتبط عندهم بفكرة التعذيب.
أشار إدوارد سعيد إلى هذه المعلومة وهو يناقش فكرة أن الموسيقا يمكن أن توظف لأغراض غير إنسانية، وهو بهذه الروحية في السجال كان يفعل الشيء نفسه الذي فعله في دراساته الأدبية والفكرية، خاصة في اختلافه مع بعض نظريات النقد البنيوي التي أنكرت الدلالة الاجتماعية للنص، واشتغلت عليه مستقلاً عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يأتي فيه.
سيبدو لافتاً للكثيرين منا أن إدوارد سعيد الذي كان مولعاً بمصر، وعاشقاً للهجة المصرية التي يعتبرها من أرشق وأجمل اللهجات العربية على الإطلاق، لم يكن ميالاً لاستطرادات أم كلثوم الغنائية، ربما بسبب تنشئته الموسيقية المبكرة التي جعلته مأخوذاً بالموسيقا الكلاسيكية الألمانية، وهي بعيدة في روحها عن الموسيقا العربية والشرقية.
بعد وفاته نشر لادوارد سعيد كتاب بعنوان: “الموسيقا في أعلى تجلياتها”، حوى مجموعة مقالاته عن الموسيقا والنشاط الموسيقي، وخاصة منها تلك التي نشرها في المجلة اليسارية “نيشين” الأمريكية بعد أن أصبح محررها الثقافي والفني، وكان ذلك دافعاً إضافياً لتكثيف دراساته الموسيقية واهتمامه بالموسيقا التي كان الاستماع اليها، بالنسبة له، وسيلة للتغلب على القلق والهموم ومقاومة المرض بعد اكتشاف إصابته ب “اللوكيميا”.
تروي مريم سعيد، أرملة الراحل، أن زوجها اتصل قبل وفاته بابن عم له يعمل قساً وسأله عن المكان الذي يتحدث فيه الإنجيل عن أن “الساعة آتية وهي الآن”، وبعد ما استمع لإجابة ابن عمه التفت إليها وقال إنه قلق من أنها لن تعرف أي موسيقا ستعزف في جنازته.
تريثت مريم قبل الإجابة، لكنها أدركت أنه كان يخبرها بأن هذه هي بداية النهاية، وأنه كان يموت.