صفحات سورية

عرب الثراء المالي والفقر الاجتماعي

null

نصر شمالي

تستدعي الحياة الطبيعية أو الحركة الطبيعية لرأس المال المالي توفّر عدد من الشروط الداخلية والخارجية التي من دون توفّرها لا يمكنه تحقيق تجدّده وتطوّره ونموّه، وبالتالي تحقيق جدواه الاجتماعية الطبيعية الداخلية الوطنية أو القومية أولاً،
وتحقيق جدواه الطبيعية الخارجية الأممية الإنسانية ثانياً، ويأتي تكامل رأس المال المالي مع مجتمعه الخاص، الوطني أو القومي، في مقدّمة الشروط التي ينبغي توفّرها كي تكون حياته أو حركته طبيعية ومجدية، فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل ثم في الخارج، ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات مكنوزة في الصناديق الخاصة لفرد أو أفراد، توظّف علي مضض ومن دون مضض في ميادين الإقراض، أو في ميادين الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، وأن نتخيّل في المقابل تريليونات تتفاعل مع قدرات واحتياجات مجتمعها الخاص المكافئ لقوتها وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل حياته، وتتعامل مع الرساميل المالية الدولية بندّية وجدارة، عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي الذي يتحقّق بالتكامل بين رأس المال المالي وبين مجتمعه الخاص، والفقر الحقيقي الذي يتحقّق بالفصل بينهما طوعاً أو كرهاً.

إنّ رأس المال المالي في حدّ ذاته لا يشكّل معياراً لثراء أو فقر مجتمع ما من المجتمعات، فهناك مجتمعات تفتقر تماماً إلي الأموال النقدية، أو السيولة النقدية، لكنها بثرواتها التاريخية المادية والبشرية المتراكمة، أعظم ثراء بما لا يقاس من مجتمعات تمتلك رؤوس الأموال المالية الخرافية التي توفّرت عرضاً، لكنّها لا تمتلك الثروات التاريخية المادية والاجتماعية المتراكمة، فالفقير بالمعني التاريخي للكلمة هو الذي لا يملك أيّاً من شروط العيش في حدّه الأدني لو فقد ثروته المالية النقدية القابلة حقاً للفقدان، بينما الغنيّ هو الذي تمكّنه قدراته البشرية والمادية المتوارثة المتراكمة من العيش الكريم المستقر نسبياً في جميع الأزمنة والأحوال.

نقول ذلك ونحن نتابع بأسي تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ونري رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية وتبدّد أرقاماً عظيمة منها كالغبار وفي مثل لمح البصر، فقد صدر قبل أيام عن سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في الشرق الأوسط ، أي العربية تحديداً، تكبّدت خلال ساعات خسائر جسيمة نتيجة اندفاعها إلي الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية الدولية التي تعثّرت بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الامريكية. وعلي سبيل المثال ذكرت مصادر سوق الرّبا الإنكليزي بعض المبالغ العربية، الضائعة في بعض ميادين الاستثمار الأوروبية والامريكية، فكان ما ذكرته، كمثال، في حدود ثمانية مليارات دولار تبخرت علي الفور، أمّا عن ردّة فعل العرب أصحاب هذه المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والامريكية المتعثّرة لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!.

إنّ المعلومات تتحدّث عن أنّ الصين تمتلك أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند تمتلك أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل الهند تقريباً، بينما روسيا تمتلك 500 مليار دولار فقط! فإذا تحدّثنا عن الصين فإننا نتحدّث عن الثروة والمجتمع كله، وإذا تحدّثنا عن الهند فالحال مثل الصين، وكدلك روسيا، أمّا إذا تحدثنا عن العرب فإننا نتحدّث عن الصناديق السيادية في دول تفتقر إلي المجتمع الكافي، أي عن رأس المال المالي العربي من دون مجتمع عربي يكافئه ويتكامل معه، ومن دون وطن قادر علي استيعاب حركته وفعالياته، أي من دون الشروط الضرورية للحياة والحركة الطبيعية التي يحتاجها رأس المال المالي الوطني أو القومي، ولذلك نراه وقفاً علي إرادة أشخاص وليس مجتمعات، وعاجزاّ عن الفكاك من شبكة الدولار والاستقلال، بينما الهند والصين قادرتان علي ذلك، بل إنّ صندوق التقاعد في كوريا الجنوبية بدأ يبيع ما يملكه من سندات أمريكية ويستبدلها بسندات مسعّرة باليورو الأوروبي، علماً أنّ هذه المؤسسة الكورية الجنوبية تمتلك أصولاً تقدّر قيمتها بنحو 220مليار دولار!

إنّ الصناديق السيادية العربية المفصولة عن عمقها الأزلي الطبيعي الجغرافي والاجتماعي، بل العاجزة عن نجدة الشعب الفلسطيني في محنته المصيرية ولو بمجرّد الغذاء والدواء، أي العاجزة عن الدفاع عن نفسها في فلسطين، تغدو ملزمة بربط مصيرها بالدولار الأميركي المترنح، وبأن تكون مجرّد احتياطي متطوًع لمجتمعاته ومؤسساته ودوله، ويستمرّ ذلك في وقت يتعرّض فيه الدولار للهزائم أمام العملات المدعومة بأوطانها ومجتمعاتها ومؤسساتها، ويبدو عرضة لخسارة دوره القيادي كعملة رئيسية للتجارة الدولية!

يقول معهد ماكنزي غلوبال في تقريره الأخير عن أسواق المال والعملات الرئيسية أنّ السوق الأوروبية تضمّ 15 دولة، وأنّ عدد سكانها حوالي 318 مليون نسمة، وأنّ حجم سوقها باليورو صار متجاوزاً حجم سوق الولايات المتحدة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 300 مليون نسمة، فحجم السوق المالية الأوروبية المتفوّقة علي السوق المالية الامريكية زاد عن الأربعة تريليونات دولار بمائتي مليار في العام 2006، وقياساً بذلك تعالوا ننظر إلي التريليونات العربية النفطية التي تعدّ اليوم علي أصابع اليد الواحدة، والتي ستتضاعف ثلاث مرّات علي الأقلّ خلال السنوات القليلة القادمة، ولنلاحظ أولاً أنّ لها تاريخياً وواقعيّاً كتلتها البشرية والجغرافية مثل الأوروبيين والأمريكيين، بل إنّ كتلتها أكثر انسجاماً وتكاملاً وعراقة، لكنّها منفصلة عن هده الكتلة، عن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة وعن أمتها العربية التي تعدّ أكثر من 300 مليون نسمة، فهي كتلة بحجم الكتلة الأوروبية من جهة وبحجم الكتلة الامريكية من جهة أخري، مع التفوّق عليهما من حيث التجانس والعراقة!

وهكذا تبدو مأساتنا التاريخية ملخّصة علي النحو التالي: عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي، وهو التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم جميعاً، وحضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى