صفحات ثقافية

بَعيداً عنْ كلّ ‘خيانة مزدَوجَة’

null
محمد بنيـس
نشر الشاعر الصديق عبده وازن في جريدة ‘الحياة’، يوم الإثنين الماضي 11. 05 2009، كلمة عن ترجمة حسن حلمي لمختارات موسعة من شعر هلدرلين، صادرة عن دار توبقال (الدار البيضاء). جاءت الكلمة انتقاداً لاعتماد المترجم لغة وسيطة هي الإنكليزية في حق الشاعر الألماني الكبير. ونظر عبده وازن إلى الأمر من زاوية ما أصبح المال الثقافي يقدمه من دعم لم يعد من المبرر معه الإقدام على مثل هذه ‘العادة’ السيئة. بل إن حسن حلمي من بين المترجمين العرب الذين ‘يرفضون التوقف عن ارتكاب مثل هذه (الفعلة) التي تخطئها حركة الترجمة في معظم أنحاء العالم’ على حد تعبير عبده وازن. وتساءل، من جهة أخرى، وقد كتبت التقديم :’ هل يحق للشاعر ـ الصديق ـ محمد بنيـس أن يصف ترجمة حسن حلمي لمختارات الشاعر الألماني الكبير هلدرلن بـ(الحدث) ما دامت لم تتم عن اللغة الألمانية؟’. ويضيف بأنني بدوت وكأنني أحتفي بها ‘ كترجمة إبداعية توازي الترجمات الكبيرة والنادرة التي عرفتها العربية.’ فيما هو هذا الإطراء، من جانبي، لا يعدو أن يكون ‘مبالغة شديدة وربما تجاهلا بفعل الترجمة في معاييره الثابتة وشروطه’.
هذا هو المبدأ النظري الذي استند إليه عبده وازن في انتقاد ترجمة حسن حلمي وطريقة تقديمي لها. وأنا أشكره على انتباهه لهذه الترجمة وإعلان رأيه الصريح فيها وفي التقديم، خاصة عندما يتعلق الأمر بشاعر في مستوى هلدرلين. إثارة هذه المسألة النظرية مفيدة في حياتنا الثقافية، ومفيدة في الفصل بين الصداقة والمعرفة. ومن هذا المنظور أبدي أنا الآخر رأيي، في حدود مبررات ما كتبته في التقديم، تقديراً لحرص عبده وازن على أخلاقيات الترجمة الشعرية من اللغة الأم، التي أتفق معه فيها. وأترك لحسن حلمي مكان التعبير الشخصي عن رأيه، إن رغب فيه. إبداء الرأي في معنى ومسؤولية التقديم لهذه المختارات ضروري، هنا، حتى لا نذهب ضحية التباسات مصدرها عدم اعتبار الزمن الثقافي، أي السياق الذي نقوم فيه بأفعالنا الثقافية. وإذا كنت، في أكثر من مناسبة، بسطت رأيي في الترجمة الشعرية، فأنا، هنا، أتوقف عند الذي أجده مباشرا في المناقشة.
الخصيصة الأولى لزمننا الثقافي عدم التطابق بين المال الثقافي وامتلاك العالم العربي أغلب اللغات الأجنبية. عدم التطابق هو ما كان ميشيل فوكو أوضحه في الفرق بين الأزمنة المتعددة للبنيات في الزمن الواحد. إن المال الثقافي حديث العهد (ولم تستفد منه هذه الترجمة حتى الآن)، لكن تكوين مترجمين عارفين بأغلب لغات العالم لا يعود للمال الثقافي بل للتكوين الجامعي العربي، الذي لم يوفر لنا ما توفر لفرنسا (التي يستشهد بها عبده وازن) في شروط تاريخية وثقافية وجامعية مختلفة تماماً عن شروط المعرفة باللغات في وضعنا. فلا تزال الفرنسية والإنكليزية اللغتين المعروفتين أكثر من سواهما في حقول قراءة الأعمال الأجنبية والبحث والتأليف والترجمة عبر العالم العربي.
وثمة خصيصة أخرى لا يمكن تناسيها. لم أكن في تقديمي لترجمة حسن حلمي متغافلاً ولا متهاوناً. ذكرت في التقديم بالحرف ما يلي: ‘كنت أحس دائما بالحاجة إلى ترجمة جديدة لشعر هلدرلين. وأثناء زيارتي في كانون الثاني (يناير) 1996 بيت تسيمر في توبنغن، الذي هو متحف هلدرلين، كنت طرحت سؤالا على مديرة المتحف يتعلق بترجمة شعر هلدرلين، من حيث اللغات والأعمال. وما كان فاجأني في أجوبتها هو أن أغلب ترجمات هلدرلين تتم عبر لغات وسيطة. هذا الجواب هو ما ظللت أحتفظ به، وفي ضوئه أقرأ اليوم ترجمة حسن حلمي.'(ص. 23.) إنها إحدى خصائص زمننا الثقافي، الذي يشترك العرب فيه مع العديد من سواهم في العالم. وعدم اعتبار هذا العنصر في قراءة تقديمي للترجمة من بين ما يؤدي إلى فهم التقديم بما هو مبالغة. بل هو من صميم عدم العناية بالزمن الثقافي الذي نشتغل في شرائطه، أي بالتعبير عن التزامي بكامل المسؤولية تجاه ما هو أساسي في الزمن وفي الترجمة على السواء.
وأذكر خصيصة أخرى توضح السياق الأوسع. هناك ترجمات أعمال من العربية وإليها تتم، في العصر الحديث، عبر لغات وسيطة. أعمال يطول حصر لائحتها. وأعطي نماذج محدودة للتدليل فقط. هناك ترجمات عديدة لكل من أعمال نجيب محفوظ وأدونيس ومحمود درويش ومحمد شكري تمت وتتم عبر لغات وسيطة، هي الإنكليزية أو الفرنسية. هذه أسماء وأعمال تمثل الثقافة العربية اليوم في العالم. وإذا كنت أقتصر عليها فذلك معناه أن أسماء وأعمالا أخرى تخضع لنفس القانون. ذلك أن لغات كثيرة لا يتوفر فيها مترجمون من اللغة العربية مباشرة، ولا يريد ناشرون وقراء الانتظار حتى يتعلم بعض أبناء لغتهم العربية. وبالمقابل، هناك ترجمات أعمال من لغات أجنبية إلى العربية عبر لغات وسيطة. من النماذج الواضحة ما قام به المهدي أخريف عندما ترجم أغلب أعمال بيسوا البرتغالي من الإسبانية، أو بول شاوول الذي ترجم مؤخراً شعر بابلو نيرودا من الفرنسية، ولم يحدث في يوم أن ذكر لي أنه يعرف الإسبانية، فضلاً عن انه لم يتطرق بتاتاً في مقدمته لا للغة ولا للطبعات التي اعتمدها في ترجمته. والمترجمان معا شاعران أفلحا في إنجاز ترجمات رفيعة تغتني بها الثقافة العربية. فلماذا لا يعمم عبده وازن انتقاده على جميع هذه الترجمات، ويعاملها بمثل ما عامل به ترجمة حسن حلمي التي سارت وفق ما سارا عليه، وصرحت بأصولها المتميزة في الثقافة الأنغلوساكسونية، وتقديمي لها بعد المعاينة والمقارنة؟
وأضيف خصيصة رابعة. وهي أن المعرفة بلغة أصلية لا تعني فوراً وحتماً تقديم ترجمة أفضل من تلك التي تتم عبر لغة وسيطة. المثل هو ترجمة فؤاد رفقة نفسه، الشاعر العارف بالألمانية والمتمرس بالشعر الألماني. كنت أتمنى أن يقوم عبد وازن بالمقارنة بين الترجمتين، من جوانب متعددة. وأنا هنا سأقتصر على قصيدة واحدة هي ‘ذكرى’ لما تمثله من قيمة استثنائية في العمل الشعري لهلدرلين. ترجم فواد رفقة المقطع الأخير من القصيدة على النحو التالي:
لكن الرجال ذهبوا الآن
إلى الهند،
هناك على الذروة الهوائية،
على جبال الكروم، حيث تحت
تأتي ‘الدوردوكنه’
ومع’كارونه’ عريضا كالبحر
يخرج النهر. غير أن البحر
يأخذ الذاكرة ويمنحها،
وبحماسة يسكن العيونَ الحب،
وما يبقى يؤسسه الشعراء.

أما ترجمة حسن حلمي فهي :

الرجال الآن رحلوا
إلى الهند…
من قمم تعصف فيها الرياحُ
وتلال تكسوها الكرومُ
حيث يهبط الداردون
في رفقة الجارون العظيم؛
شاسعاً كالمحيط
يتدفق النهر نحو الآفاق.
لكن البحر يأخذ الذكرى ويمنحها
والحب بدوره يأسر النظرات
لكن ما يبقى يؤسسه الشعراء.
أترك الأبيات التي وقع خلاف كبير بشأن ترجمتها بين المترجمين (من بينهم الفرنسيون الذين استشهد أو لم يستشهد بهم عبده وازن). أقصد الأبيات الثلاثة الأخيرة. إنه الخلاف الذي لا يحل حتى من داخل الألمانية نفسها. ما عدا ذلك، نلاحظ، عند المقارنة بين الترجمتين، أن فؤاد رفقة لم يفهم على الإطلاق معنى الداردون والجارون، النهرين المخترقين لفضاء منطقة مدينة بوردو وحقول الكروم، ولم يفهم أن الكروم توجد في بوردو، أشهر مدينة في العالم بنبيذها، وأن البحارة من بوردو يرحلون إلى الهند، حسب ما يتخيله هلدرلين. عدم فهم تسبب في إفساد القصيدة برمتها. وهو ما صوّبه حسن حلمي بمعرفة دقيقة. لذلك كنت أتمنى أن يعتني عبده وازن بمثل هذا التدقيق الذي لا يصدر إلا عن إلمام بالمكان الذي كتبت من خلاله قصيدة هي إحدى القصائد المرجعية في الشعرية الهلدرلينية.
جاء في تعليق عبده وازن على ترجمة حسن حلمي:’ قد تكون ترجمة حسن حلمي جميلة ومتينة ومسبوكة وخلواً من الأخطاء اللغوية والهنات، وقد يمكننا قراءتها كنص رديف على هامش النص الأصل، لكنها تظل ناقصة وعرضة للشك والطعن لأنها غريبة عن النص الأم واللغة الأم.’ وأنا أتساءل عما إذا لم يكن من الموضوعية والإنصاف التصريح بأن ترجمة فؤاد رفقة ناقصة ويحيط بها شك كبير، لا لأنها غريبة عن النص الأم ولا اللغة الأم، بل لأن معرفة اللغة الأم لا تؤدي إلى النجاة من ‘خيانة’ النص الأم. أما التعليق على كيفية التعامل مع قراءة هيدجر فيحتاج إلى كلام ليس هنا مقامه.
وأخيرا أقول إن المقدمات التي تبدو صحيحة في الوعي النظري بالترجمة الشعرية لدى عبده وازن تخلص، في زمننا الثقافي، إلى نتائج مجانبة للصواب ومجحفة في حق ترجمة حسن حلمي، التي كنت سعيداً بأن أطلع عليها وأستمتع بتقديمها. وإذا كنت أخطأت في تعيين مكانتها، وهو ما لا أستبعده، فأنا أعتقد أن عدم العناية بزمننا الثقافي كثيراً ما يغلق أمامنا وأمام العربية آفاق المغامرة والانفتاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى