كـــل شـــيء بحســـاب
يقولون ان الأمر بدأ يفلت وكانوا الضامنين بأنه سيبقى تحت اليد والعين. الآن لا يمر يوم بدون مناوشة على حدود الفصل الجديدة، أهي تمارين لفحص القوى او «ترسيم» لخطوط التماس، أم مقدمة لفرز سكاني. لا يستكثر أحد ذلك بدون ان يكون غافلا او ساذجا. في بيروت لا تفعل الاشتباكات الصغيرة سوى هذا وعلى الأغلب سيجر ذلك نزوعا الى تفريغ المناطق من اقلياتها،
على الأقل لن يُنظر بعين الرضا الى وافد جديد من الاقلية. لعلّ هذا بدأ على مستوى سوق العقارات، لا أعرف اذا كان في هذا الباب احتياط لمنع الاختراق وصيانة الاكثرية لكن جانباً كبيرا من التجارة العقارية هو على سبيل تصحيح من هذا النوع. من أراد من الاقليات ان ينجو من حيرة مقلقة نزح. أزعم ان هذا يتم بإيعاز الاكثرية المتراصة هذه لم تعد تقبل بسهولة «غريبا» والأرجح ان هناك من نشط مبكرا لتنبيهها. الارجح ان امرا لهذا جاء من فوق، فدروس الحرب الاهلية لا تزال طرية و«الوعي» الديموغرافي جزء من ثقافتها التي لم تنطو. اذا كان لهذه الاشتباكات مقاصد من هذا النوع فهي بالتأكيد ليست حرة. ولا طائشة، يمكن ان نتخيل انها مدروسة واعية. لقد دخلنا في الحرب الاهلية من الباب الخلفي او نحن في نوع من السوبر حرب. اننا نعجل الى النتائج قبل ان تفرضها وقائع غير محسوبة او متوقعة. في هذا حساب مسبق او وعي مسبق، وعليه يمكن للفرز ان يحصل بعملية حسابية اكثر منها حربية. قد لا تحتاج عملية التفريغ الى مجزرة وقد تحدث بمجرد انذار ولربما لا تحتاج لاكثر من التذكر، لا يغيب عن بال أحد صعوبة العيش بين ظهراني اكثرية متراصة معبأة وقد يجد من نفسه وازعاً ونذيراً. لربما كان هذا أحد اسباب انتعاش السوق العقاري في حين ان الكساد يعم الباقي. الرصاص يفعل فعله بالطبع، رصاص طائش ولا يطيش، افراغ خزان مسدس في الجو وربما، بصدفة غير اكيدة، امام مؤسسة او مركز للأقلية. سيقولون انه فلتان، لكننا نعرف انهم ضمنوا بأن الأمر سيبقى تحت اليد والارادة. لن نقول انهم كانوا مغرورين او انهم ضمنوا بتسرع، او ان «الآخرين» أخرجوهم واخرجوا ناسهم عن طورهم، لن نصدق الا ان الفلتان ايضا محسوب. لم يغد متواترا على هذا النحو لولا انه تم بايعاز. لقد وصل الأمر الى «الاقربين» الى «النواة المحركة» بأن تنطلق، بعض الفلتان غدا مطلوبا. اشتباكات على حدود الفصل والنتيجة الاولى تثبيت خطوط التماس، على هذا ان يتم الان بدون دماء ما أمكن، او بقليل من الدماء. لا نعرف اذا كنا صرنا حقا في ما بعد الحرب أو أننا قطعنا، من دون ان ننتبه، شطرها الاكبر. لا نعرف اذا كان ممكنا بعد ان تندلع «على البارد». فهذه ليست حربا جديدة ولو اختلف قطباها الرئيسان. انها طور ثان من حرب لا تزال دروسها وخلاصاتها حاضرة. لا يزال «وعيها» مهيمنا. وربما يفعل الحساب في هذه الناحية اكثر مما يفعل الدم. الفوضى التي يتكلمون عنها او يخشونها ليست، على الاطلاق، طابع الصراع. يمكننا، على العكس، ان نقول بأن كل شيء يتم بنظام مفرط وبعمل حسابي. انهم يعرفون الآن ان التنظيم الدقيق والاستباق والوعي من اسلحة الحرب الحالية، بل هي من اكثرها مضاء. هناك ماكينة حزبية سريعة وحديثة ومتراصة، وعلى الآخرين ان يتخذوها مثلا وان يسعوا الى تقليدها ولو باستعداد اقل. لن يبلغوا شأوها بالتأكيد، لكن الفوضى مع ذلك مقتل ومن يترك الحبل على غاربه ولا يفعل شيئا للجمع والتنسيق خاسر بالتأكيد. لنقل ان «التنظيم» جزء اساسي من القوة الرمزية التي تعمل في هذه الحرب ما دام اشهار السلاح الفعلي لا يزال مؤجلا او لا يزال حضوره الطاغي رمزي. التنظيم، أي التراص والتعبئة والانتظام، هو الان وجه المجابهة الغالب، لذان لن يقول لنا أحد بأن الأمر فلت منه وان الشارع لم يعد في يده. الشارع، ما يعنونه بالشارع، هو القوة المزروعة هناك بأمر القيادة وعلى الأغلب النواة المباشرة والمتفرغة في قسم كبير منها. ما يعنونه بالشارع هو تماما الفصيل الهجومي والصفوة الاقتحامية. الشارع ليس بدون حدود، ان له من يمسكونه ومن الصعب على لبناني ان يصدق اليوم ان ثمة قوى عمياء فيه، ولنترك الكلام عن دوافع لا يمكن سبرها. انها ثلاث سنوات دراماتيكية مشحونة يوميا بحراك غير منقطع واستنفار وتحريض، وقت كاف لتجييش سياسي في الذروة وفرز كامل واحتواء تام ورقابة شاملة، بحيث لا معنى للكلام عن أي استقلال جماهيري او عفوية غير منضبطة. لا معنى للكلام عن قوى غير محسوبة الأغلب ان كل فرد هنا او هناك له، على نحو ما، خانته وبطاقته. الاغلب، بدرجة اساسية، ان الجهاز التحريضي والتعبوي كله ممسوك. لا بد ان جهاز الاشاعات نفسه غير طليق وتحت ادارة يومية، لا معنى للكلام عن الاندفاعات الحرة الا للذين يفضلون العيش تحت كمامات ايديولوجية، للذين يقتاتون من شعارات وكليشهات آبدة. لا معنى للكلام عن شيء خارج التجييش السياسي، وأشدد: التجييش السياسي، فكل ما هو مشترك وعام لا يمكن اجتراحه الآن. لا حراك الا في نطاق الانقسام الراهن وفي اطار الصراع السياسي الحالي، وكل حراك، بهذا المعنى لا يمكن ان يكون بريئا او فالتا او مستقلا. انه حراك يعلن في الغالب عن وجهته من اللحظة الأولى، فأيا تكن الحجة وأيا يكن السبب المعلن فان هذا لن يكون سوى العنوان، ومن اللحظة الاولى لا يبقى سوى المحمول الصراعي، سوى الاشتباك الأهلي، سوى مادة هذا الاشتباك ويافطاته واكسسواراته. انه، ايا كانت الذرائع والعناوين المعلنة، تمرين يومي على الصراع الاهلي وفي كل يوم جديد تزداد الكتلة طواعية واندماجا وانضباطا. وفي كل يوم جديد تزداد القدرة على الاحتواء وتزداد الرقابة شمولا. لا يبحث أحد عن قوى للظلام في هذه الجماهير المؤطرة المنخرطة، بقضها وقضيضها، كما يقال، في الانقسام الاهلي، ولا يمنع عديدها الكبير من ان يكون كل من افرادها تحت اتصال مباشر. «الرفاق» الذين يبحثون عن مسارب أخرى خارج حدية هذا الصراع لا يفعلون سوى ان يبدلوا في عناوينه في الوقت الذي يسمحون له بأن يسخر منهم ومن مدرسيتهم وطوباهم «الطبقية». الصراع الاهلي هو اخراج الاهل من أي اشتراك سياسي وكل ضابط عام وبالطبع يمكن لأي عنوان او مطلب ان يغدو من اواليات الانقسام والخروج، وبالطبع سيسير هذا المطلب في السباق الاهلي ذاته وبقواه وغاياته. الارجح ان هذا ليس مجهولا من «الرفاق» لكنها ليست الاولى التي يدخلون فيه الى الصراع من باب هذا العذر؟ وليست المرة الاولى التي تنطلي فيها الخدعة على اصحابها وحدهم.
لنقل ان «الفلتان» قد يكون عذرا آخر للقيادة السياسية، بعد ان وصل الجميع الى ما وصلوا اليه بضمان غير حقيقي. يمكن الان للقيادة ان ترفع عن عاتقها جريرة الطور الثاني من الحرب بحجة الفلتان. لن نصدق بالطبع ما يقال، كل خزان مسدس يفرغ في الجو هر في خدمة سيده، ولن نصدق انه «ابداع» صاحبه وفطرته وعفويته، ما دمنا نعرف انه حازه وحمله واستخدمه بتدبير معلوم وفي اطار معلوم. لن نصدق ان الناس يشتبكون على حدود الاحياء المتجاورة من تلقائهم وارتجالهم ما دامت هذه الاشتباكات تمرينا على التطهير والفرز السكانيين، ناهيك عن رسم الحدود الأهلية. لن نصدق ان الذين يرفعون مطالب من أي نوع تجري عليهم ولا تجري على جيرانهم الذين في ظرفهم وحالهم، فعلوا ذلك عفواً وان هذه الطليعة الهجومية نبتت من ضمير الشعب. لن نصدق إلاّ ان كل ما يجري هو في اطار الصراع وعلى عاتق من يديرونه. كل صغيرة وكبيرة محسوبة مقصودة. كل حراك او اختراق او تعد مصنوع بوعي وارادة. هناك دائما مسؤول.