انفصال الجنوب يوم إفريقي أسود
حسين العودات
تحيط بالسودان دول عدة، تشمل: ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وزائير وأوغندا وكينيا وإثيوبيا إضافة إلى مصر، وإذا انفصل جنوب السودان ستكون هذه الدول جميعها (باستثناء مصر وليبيا وتشاد)، دول جوار للجنوب تقع أراضيها على حدوده.
ومن الملاحظ أن معظم هؤلاء الجيران سعيد بانفصال الجنوب السوداني، كل لأسبابه، سواء كانت هذه الأسباب إرضاء للإدارة الأميركية وإسرائيل، أم طمعاً في عقد علاقات اقتصادية مميزة مع هذا الجنوب تعود على هذه الدول بالفوائد، أم أنها ستكون معبراً لأنابيب بترول الجنوب الذي سيستخرج وتأخذ عائدات مروره، خاصة أن «دولة الجنوب السوداني» المتوقعة لا شواطئ لها، وستكون هذه الدول ممراً للبضائع المستوردة إلى هذه «الدولة» أو المصدرة منها، أم أخيراً لأن بعضها (إن لم يكن كلها) يطمح لانحياز «دولة الجنوب» لاتفاقية تقاسم المياه بين دول حوض النيل، التي وقعتها قبل بضعة أشهر خمس دول، من دون مصر والسودان، وتحتاج لتوقيع دولة واحدة لتكون نافذة، أم لأسباب أخرى، بعضها لا يتجاوز الأحقاد أو الأهواء الشخصية.
ومهما كانت الأسباب، فإن معظم هذه الدول يتمنى انفصال جنوب السودان، وسيكون سعيداً لو تحقق هذا الانفصال، ويحاول بشكل صريح أو مضمر، تشجيع الجنوبيين على الانفصال، ويعد حكومة الجنوب المحتملة وقادته الحاليين بالمساعدات المادية والمعنوية، ويحرض آمالها بمستقبل «مزدهر بعد الانفصال». والخلاصة أن جميع هذه الدول لا تخشى من الانفصال، وتعتقد أنه سيكون حدثاً عادياً يمر بسهولة وسلاسة، وكأنه استقلال دولة إفريقية مجاورة كانت «مستعمرة». ويبدو أن واضعي سياسة هذه الدول لا ينظرون لأبعد من أنوفهم، ولم يفكروا في المخاطر التي ستواجهها بلادهم في حال انفصال الجنوب السوداني.
نشير بادئ ذي بدء، إلى أن حدود الدول الإفريقية، سواء منها التي كانت مستعمرة لإنجلترا أم تلك التي كانت مستعمرة لفرنسا (أي البلدان الفرانكفونية أو الأنجلوفونية) أم المستعمرات البرتغالية، هي حدود اصطلاحية وضعها المستعمر، لم تعتمد على المعايير الجغرافية (الطبيعية) أو البشرية (الإثنيات) أو التاريخية، أو الطائفية (وحدة الدين) أو اللغوية (يتكلم الأفارقة ألف لغة) أو القبائلية أو غيرها، التي تشكل عادة معايير حقيقية في رسم الحدود (كالجبال أو الوديان أو البحار أو المجموعات الإثنية أو الدينية أو القبائلية أو غيرها..)، ولم يأخذ المستعمر عند ترسيمها بعين الاعتبار سوى مصالحه فقط، وما يناسب هيمنته وتخفيف الأعباء عنه، أو كان يراعي مصالح شركاته المستعمرة والمستثمرة، أو احتياجات جيوشه أو ما يشبه ذلك. ولهذا لم تحترم هذه الحدود الوحدة الجغرافية للبلاد، أو التكامل الاقتصادي أو الوحدة البشرية أو اللغوية أو الإثنية، ولا حتى الوحدة القبلية، فطالما قسمت هذه الحدود القبائل وشطرتها بين دولتين أو أكثر، وهذا ما نلاحظه في تقسيم القبائل على طرفي حدود جميع الدول الإفريقية.
بعد أن استقلت الدول الإفريقية، في نهاية العقد الخامس ومطلع العقد السادس من القرن الماضي، طرح بعض الزعماء الأفارقة تصحيح الحدود وتعديلها لتستوعب معطيات الواقع، وتكون متوازنة أكثر ومنطقية أكثر ومنسجمة أكثر مع مصالح سكانها واستقرار مجتمعاتها، إلا أن هؤلاء الزعماء الأفارقة (وكانوا زعماء تاريخيين) وجدوا أن فتح هذا الباب سيؤدي إلى حروب أهلية وانقسامات وعدم استقرار، وربما حروب بين الدول، وتبين لهم استحالة إجراء تعديلات الحدود دون نتائج كارثية على جميع الدول، فسارعوا واتخذوا قراراً إجماعياً بتأكيد الاعتراف بالحدود التي رسمها المستعمر، كحدود نهائية وتثبيتها ورفض أي مقترح لتعديلها، لأن ذلك هو أهون الشرين، ويضمن استقراراً نسبياً لهذه الدول. وبعد هذا القرار رفض القادة الأفارقة أية محاولة للانفصال داخل هذه البلدان أو تدخل الدول في شؤون بعضها الآخر، حتى لو كانت لها إثنية أو قبيلة كبيرة جداً في البلد المجاور، تلاقي عنتاً وظلماً من النظام السياسي في ذلك البلد.
ومن هنا تأتي مخاطر انفصال جنوب السودان على بلدان إفريقيا جميعها، سواء المجاورة منها أم البعيدة، باعتبار أن هذا الانفصال سابقة سيكون لها ما بعدها، وبداية «مشروعية معترف بها» لإعادة النظر في الحدود بين الدول الإفريقية، واستطراداً «شرعنة» الحروب الأهلية، وصيحات التقسيم والانفصال في جميع بلدان إفريقيا ذات الإثنيات والقبائل واللغات والأديان المتعددة، والتي يسوّغ كل منها شعارات التقسيم أو الانفصال، ومخالفة لإجماع إفريقي تاريخي عمره أكثر من خمسين عاماً، ولعل ما يجري في ساحل العاج ونيجيريا الآن، هو نموذح يصلح لأخذ العبر.
من يضمن، إذا انفصل جنوب السودان، أن لا تستحسن مثل هذا الانفصال إثنيات أو أديان أو قبائل، في إثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير وتنزانيا وغيرها من دول الجوار أو من الدول الإفريقية البعيدة والقريبة (دول إفريقيا الغربية، وإفريقيا الوسطى، وإفريقيا الشرقية)؟
من البديهي أن انفصال جنوب السودان سيكون ذا أثر سلبي مباشر في هذه الدول جميعها، وسوف يحرض أقلياتها على طلب الانفصال، وربما يسهم في تفتيت المجتمع، وتهيئة الظروف الموضوعية لتدخل الجار في شؤون جاره، وتدخل البعيد الطامح والطامع، سواء كان مستعمراً سابقاً أم مهيمناً عالمياً أم باحثاً عن مجال حيوي لدولته، خاصة وأن معظم بلدان إفريقيا فقيرة وذات مجتمعات هشة مملوءة بالتناقضات ومحط أطماع جهات عديدة.
وفي ضوء هذه الظروف (والوقائع)، يصح الافتراض أن انفصال جنوب السودان سيكون له ما بعده سلباً على معظم دول إفريقيا، وليس من المبالغة القول إنه سيكون يوماً إفريقياً أسود، ومن يعش سوف يرى!
البيان