التعذيب: تاريخ الإنسانية الأسود ما زال مستمراً
سمير الزبن
رافقت ممارسة التعذيب المجتمعات البشرية منذ تأسيسها ككيانات، وهذه الممارسة التي باتت مدانة على نطاق واسع وتُحارب من جهات مختلفة حكومية وغير حكومية إلا أن الظاهرة ذاتها ما زالت موجودة على نطاق واسع في دول الجنوب. ورغم كل المحاولات والجهود لوقف هذه الظاهرة والحد منها، إلا أنها ما تزال واقعاً مظلماً، رغم إجراءات المنظمات غير الحكومية والحكومية على مدى ربع قرن من الزمن. فلا يزال التعذيب يعد مشكلة منتشرة وواسعة، ولقد أصبحنا مدركين وبشكل متزايد لتواصل التعذيب ليس فقط ضد المعارضين السياسيين بل أيضاً ضد المشتبه بارتكابهم جرائم جنائية. فعلى مدى تاريخ المجتمعات البشرية، كانت ممارسة التعذيب جزءاً من التكوين التاريخي، ورغم وحشية الحضارات القديمة في التعامل مع التعذيب، فإن القرن العشرين فاق في وحشيته كل العصور السابقة، ليس بتطوير آليات التعذيب فحسب، بل وبتطوير وسائل الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها عشرات ملايين البشر، والتي إذا قورنت أرقامها بوحشية الحضارات القديمة، فإنها قد تتفوق عليها مجتمعة.
[وباء التعذيب
تورطت كل المجتمعات البشرية في وباء التعذيب وما زالت الى اليوم متورطة فيه، وكانت هذه المجتمعات تبتدع وسائل تعذيبها التي تعتقد أنها تساهم في بقائها وقوتها، وتردع الآخرين عن ارتكاب الأخطاء وتجعلهم عبرة لمن اعتبر. وكم كان البشر متوحشين وهم يغرقون في ساديتهم عندما يوظفون عقولهم من أجل إبداع وسائل ليس لها وظيفة سوى إيقاع الأذى والألم بإخوتهم البشر الآخرين. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لتبرير التعذيب وتحويل من يمارس عليهم التعذيب الى شياطين وكفرة وخونة. إلا أنها في حقيقتها، كانت وسائل للدفاع عن السلطات القائمة ومحاولة لردع الآخرين عن الاقتراب منها أو من أسسها التي كانت تعتقدها. وكان التعذيب يعتبر حتى عند القدماء وسيلة لانتزاع المعلومات التي تمس قواعد المجتمع المعني أو سلطاته، ولكنها في نهاية الأمر تعمل على حماية مواقع الحكام وامتيازاتهم من أي خطر يهددهم.
وعلى الرغم من كل الجهود التي تبذلها العلوم الاجتماعية والإنسانية للكشف عن طبيعة هذه الظاهرة، وعن جذور العنف عند الإنسان، وعلى رغم كل الإنجازات التي تحققت ما زال موضوع التعذيب بحاجة الى المعالجة والدراسة. وكل ذلك لم يجعل المجتمعات البشرية أقل عنفاً، فهذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها كممارسة فردية، فهي ممارسة تنتظم ضمن آليات السلطة التي تمارس العنف، وبالتالي ينحدر الى التعذيب. وعلى هذا الصعيد ما زالت البشرية بعيدة عن أن تتعلم كيف تحمي أبناء جلدتها من التعذيب الذي يجري في كل مكان من العالم بمستويات متفاوتة، ولكنه يخترق جميع المجتمعات سواء تلك التي تعتبره ممارسة مشروعة أو تلك التي تعتبره ممارسة غير مشروعة. وبذلك ما زالت المجتمعات تعالج ما تعتقده جريمة بجريمة أكبر، بانتهاك إنسانية الإنسان من خلال التعذيب.
[ التاريخ الطويل للتعذيب
مارست الحضارات القديمة التعذيب سواء ما كان منها قد بني على الدين أو على أفكار فلسفية أو غير ذلك. وعلى الرغم من غياب صورة تفصيلية عن وسائل التعذيب التي كان أبناء تلك الحضارات يمارسونها، إلا أنهم مارسوا العديد من وسائل التعذيب. فنحن نعرف اليوم أن البابليين كانوا يخصون الأسرى، وكانوا يعدمون المجرمين بالرجم أو القطع الى نصفين أو بالحرق. في ذلك الزمن كان سجناء الحرب يُقتلون فور سجنهم أو فور القبض عليهم أو يتم اعتبارهم عبيداً وبذلك ينظر إليهم كأشخاص يمكن تعذيبهم.
في الدول اليونانية حرّمت قوانين تعذيب المواطنين الأحرار، ولكن العبيد والأجانب كانوا يخضعون للتعذيب، وكان ينظر الى العبيد على أنهم يمكن أن يكونوا بديلاً عن أسيادهم عندما يأتي أمر تعذيبهم. وكان تنفيذ التعذيب يحصل أمام الجمهور علناً، حيث كان يقوم بتنفيذه أحد الأطراف المختلفة في الدعاوى القانونية على طرف آخر. ولكن هذه القاعدة لم تكن مطلقة، حتى بالنسبة للمواطنين. ويُروى أن الفيلسوف اليوناني القديم زينون إيليا قد تورّط في مؤامرة لخلع الطاغية اليوناني نيارخوس وأنه خضع للتعذيب بعدها ليفصح عن أسماء المتعاونين في المؤامرة. وعندما لم يعد زينون قادراً على تحمل المزيد من التعذيب أبلغ الأشخاص الذين كانوا يعذبونه بأنه يمكن أن يبوح بأسراره فقط للطاغية نيارخوس بنفسه على انفراد، وعندما انحنى نيارخوس ليسمع همس زينون قبض زينون أذن نيارخوس بأسنانه وقطعها.
غرق الطغاة في الدموية والسادية، جعلتهم يطلبون آلات للتعذيب صممت خصيصاً لهم، مثل تلك التي صممت للطاغية اليوناني فالاريس، والتي كانت عبارة عن ثور نحاسي بحجم الثور الحقيقي وكان داخله مجوفاً ومزوداً بباب خلفي يوضع الشخص داخل هيكل الثور النحاسي وتشعل النيران تحت ذلك الهيكل، وهو مزود بأنابيب موسيقية داخل رأس الثور لتخفيف حدة صراخ الضحية الناجم عن الألم. كما أن الإمبراطور تيبيريوس صمم شخصياً أسلوب تعذيب بحيث يجبر الضحايا على شرب كمية كبيرة من النبيذ بعد أن يربط أعضاءهم التناسلية، ليضغط السائل المحبوس على مثاناتهم ويسبب لهم آلاماَ فظيعة. أما خليفته كاليغولا، فكان يستمتع بمراقبة تعذيب سجنائه خلال تناول الطعام، كما كان يأمر أيضاً بنشر ضحاياه بواسطة المنشار. أما الطاغية نيرون، فكان يأمر بربط كل مجرم بجلد ذئب وتسليم المجرمين للكلاب المفترسة المتوحشة التي كانت تقطعهم إرباً إرباً، وكان يتم إشعال بقية المجرمين بالنيران، بعد دهنهم بالزفت وإطلاقهم في أرجاء المدينة ليكونوا شعلة للذنب في ليل روما..
وفي العهد الروماني تم استخدام آلة التعذيب التي تسمى بالمخلعة على نطاق واسع. كذلك كان يتم تنفيذ عقوبة الإعدام بحرق المتهم حياً لتكون وطأة التعذيب أكثر إيلاماً ولمدة أطول، أو رمي الضحايا فريسة للحيوانات المفترسة.
وفي العصور الوسطى ابتدعت المحاكم الدينية العديد من وسائل التعذيب، وإذا كان أسلوب الحرق اعتمد على نطاق واسع، فإن هناك أساليب كانت جديدة، مثل وضع الشخص داخل جلد ثور ميت وإغلاقه عليه، وتركه يتعفن مع جلد الثور.
وفي الدولة العثمانية تم استخدام أسلوب خاص للتعذيب إضافة الى الوسائل الأخرى، وهي طريقة الإعدام بـ”الخازوق” وهي من أبشع طرق الإعدام على الإطلاق، ويستغرق موت الضحية وقتاً طويلاً.
إضافة لأساليب التعذيب الخاصة بقيت أساليب التعذيب التقليدية تمارس على مدى العصور بتطوير محدود. وهذه الأساليب متنوعة ومتعددة، تبدأ باستعمال القوة البشرية مباشرة أو بواسطة أدوات حادة أو غير حادة أو استخدام العصي على أنواعها. أو استخدام النار، وربما يكون الألم الناتج عن الحرق أكثر إيلاماً وحدة من أي وسيلة تعذيب أخرى. ولقد استنبط الجلادون على مدى قرون عدة أساليب متنوعة في استعمال الحرارة والنار حيث تم تصميم أساليب مختلفة، بعض منها تمثل آلات أو أدوات خاصة بالتعذيب، ولكن في معظم الحالات كانت المعاناة من الحرارة والنار كافية حتى بأبسط أشكالها. كما تم استخدام الماء الحار والماء البارد، والماء مع التيار الكهربائي، عدا التشويه الجسدي مثل قطع الأطراف أو الأصابع، أو الحبس المنفرد الذي أخذ يطبق بشكل واسع في العقود الأخيرة.
أضيف في القرن العشرين على هذه الأساليب، التعذيب بواسطة استخدام التيار الكهربائي، واستخدام أعقاب السجائر، وتم تطوير قائمة طويلة من أدوات التعذيب، منها الجديد ومنها تطوير لوسائل قديمة.
[ أدوات التعذيب
على مدى التاريخ البشري اخترع الطغاة وأعوانهم العديد من وسائل التعذيب، وكانت هذه الوسائل تتسابق على إيقاع أكبر ألم إنساني بالشخص الذي يقع عليه التعذيب، ومن أشهر هذه الوسائل:
المخلعة: وهي أشهر أدوات التعذيب وأكثرها استعمالاً على مدى العصور، ويعود استعمالها الى الحضارات القديمة، وتوسع الرومان في استخدامها. ورغم تعدد الأدوات التي تقوم بهذه المهمة، إلا أن المبدأ الأساسي لكل هذه الأدوات واحد، وهو الضغط على أطراف الشخص حتى تتفكك مفاصلة وتتمزق عضلاته، سواء كان ذلك عبر ربط الشخص بمجموعة من الخيول أو ربطه على لوح خشبي يقوم بذات الوظيفة.
وقد أخذت هذه الأدوات اسماء مختلفة في البلدان التي استخدمتها، فسميت بـ “الحصان الصغير” في فرنسا، و”السلم” فياسبانيا، و”الاطار” في المانيا، وسميت “بساط الريح” في الدول العربية في العقود الأخيرة.
اصفاد سكيفينتغتون: هذه اداة تعذيب تطورت واستعملت فقط في انكلترا، وكانت عبارة عن طوق حديدي كبير مقسم الى قسمين حيث تجبر الضحية الذي تربط يداه خلف ظهره على الركوع على النصف السفلي من ذلك الطوق، وعندها كان يعمل الجلاد على دفع الضحية الى الاسفل بحيث يطبق نصفي الطوق الأسفل والأعلى الى بعضهما بواسطة برغي كبير. ومع شد ذلك البرغي جيداً يضغط جسد الضحية الى بعضه بشكل اقوى بحيث يطبق صدره على ركبتيه، وبطنه على فخذيه، وفخذاه على ساقيه، وكان ذلك يؤدي بالتدريج الى خلع العمود الفقري من مكانه وتصدع عظام الصدر والاضلاع.
لولب الابهام: هذه الأداة في شكلها الأصلي، اداة ضغط شبيهة بزوح من كسارات الجوز. أما الأداة في شكلها المصقول فكانت تتكون من قضيبين حديديين قصيرين في احدهما ثلاثة قضبان حديدية اصغر حجماً تلائم ثلاثة ثقوب في القضيب الكبير الثاني. يتم وضع ابهامي يد الضحية أو اصابع يده بين القضيبين الحديديين الكبيرين على جانب القضيب الأصغر المركزي الذي يمكن عندها ضغطه بشكل لولبي محكم وشديد. كذلك استعمل لولب الابهام في الكثير من البلدان الأوروبية الأخرى وقد تطورت هذه الأداة في المانيا بتزويدها بالمسامير الحديدية التي تنفذ داخل الأظافر.
أداة الحذاء: لقد وصف التعذيب بواسطة هذه الأداة من قبل الأشخاص الذين شاهدوها قيد التطبيق بأنها تمثل “اشد الم ووحشية في العالم”. كانت الضحية تجلس على مقعد خشبي، وتوضع الواح الضغط على باطن وظاهر كل ساق. هذه الألواح كانت تربط الى بعضها بشدة ايضا حيث يتم لاحقا تمرير قطع خشبية او حديدية الى داخل الألواح بواسطة مدق حديدي، واذا كان التعذيب بهذه الأداة عادياً لا يتم ادخال اكثر من أربع قطع بين الألواح، أما اذا كان التعذيب غير عادي فلا يقل عدد تلك القطع عن الثمانية وكان الالم الناتج عن ذلك شديداً للغاية بحيث كان يؤدي ذلك التعذيب في بعض الأحيان الى تحطم ساقي المتهم.
وقد حصل تطوير لهذه الأداة بحيث برزت اداة جديدة اسمها “الحذاء الاسباني” الذي استعمل في بلدان كثيرة، بما فيها اسكتلندا وكان هذا الحذاء ايضا مصنوعا من الحديد، لكن زود بالية براغي وقلاووظ تعمل على ضغط الساق تحديداً. واذا تمكن الضحية من تحمل التعذيب بهذه الأداة الحديدية دون ان ينهار كان يتم تسخين حديد الحذاء بواسطة الفحم حتى يصبح الضحية غير قادر على تحمل الالم.
[ صرخات المعذبين
طبقت الاساليب الوحشية للتعذيب بكل تلاوينها على بشر من لحم ودم، ما زالت صرخاتهم تملأ التاريخ وتملأ سجون اليوم. فبعد اكثر من ستين عاما على لائحة الأمم المتحدة لحقوق الانسان التي تحرم التعذيب، وبعد حوالي عقدين من الاتفاقية الدولية لمعاهدة مناهضة التعذيب، ما زالت صرخات المعذبين تملأ العالم في كل مكان. وكأن البشرية ترفض الخروج من وحشيتها. فالوحشية في التعذيب التي مورست على مدى قرون من قبل الجلادين، لا تزال تطبق حتى يومنا هذا، واية مراجعة لتقارير حقوق الانسان تكفي لاعطاء صورة صارخة عن الوحشية التي ما نزال نعيش في ظلها. ولم تكف كل صرخات الألم وملايين الضحايا التي سقطت تحت جرائم التعذيب من ان تعلمنا الدرس الاساسي، ان نعامل الاخر بوصفه انسانا بصرف النظر عن جسامة الأفعال التي ارتكبها، رغم ان التعذيب كان دائماً يصيب الأبرياء.