وجهاً لـوجه مع الفكر الأصولي
خالد غزال
المقدمة
يتحدد تعبير “الأصولية” الوارد في هذا الكتاب في وصفه منظومة الأفكار والمفاهيم التي تستند إليها الإيديولوجيا، سياسية أكانت أم دينية، فتشكل “هويتها الفكرية”، وترشد ممارستها النظرية والعملية. تستند هذه الأصولية في وصفها ايديولوجيا، إلى ثوابت نظرية ومسلّمات تنطلق منها، أهمها تشكيل رؤية شاملة للعالم ، تدّعي بموجبها امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها، وتؤمّن لها اصطفائية تميّزها عن البشر الآخرين. تعطي هذه الرؤيا الشمولية الأصوليات وهماً واعتقادا ايمانياً ترى بموجبه أنها قادرة على تأمين حلول لمشكلات البشرية وخلاصاً لها من معضلاتها ، سواء استندت هذه الحلول إلى الذات الإلهية أم إلى العقل والعلم. قد لا تشكل الأفكار الأصولية في ذاتها خطراً كبيراً إّذا ما بقيت في ميدانها النظري، لكنها تتحوّل إلى قوة مادية مهدّدة للمجتمع عندما تنجذب إلى مشاريع سياسية وتأخذ على عاتقها إنقاذ المجتمع وفق الرؤيا التي تستند إليها. تحمل الأصوليات، في معظمها، مشروعاً سياسياً يهدف إلى قولبة المجتمع بدءاً من الفرد وصولاً إلى المجموع، ويتسم هذا المشروع بالرؤية المتشدّدة التي ترفض الخيار الديموقراطي وتسعى إلى تكريس وحدانية السلطة، وترفض الآخر والتعددية في مختلف أشكالها. بناء على ذلك تبدو مشاريع الأصولية مفعمة بالتعصّب، يهيمن على فكرها جمود عقائدي يمنع التواصل والإحتكام إلى العقل وحق الآخر في التعبير، وصولاً إلى تكفير من لا يتوافق مع أطروحات هذه الأصولية. تسببّت الأفكار التي حملتها الأصوليات، في الماضي وراهناً، عندما توافر لها الإمساك بسلطة ما، في اعتماد العنف وسيلة لتحقيق مشاريعها وأهدافها. في هذا المجال لا تُقرأ الحروب العالمية والأهلية في معزل عن هذه الأفكار والمفاهيم التي تحرّك السلطات الحاكمة وتحدد لها منهجها في السلطة، وهي حروب أدّت إلى تدميرالمجتمعات عالمياً وإلى تمزيق النسيج الإجتماعي في كل بلد على حدة.
تكتسب مناقشة الأصوليات في المجتمعات العربية أهمية كبيرة في الظرف الراهن بالنظر إلى الموقع الذي تحتله في الحياة السياسية والفكرية والإجتماعية. تستوجب الأصولية الإسلامية أوسع مناقشة لأطروحاتها لأنها تمثل القوة الصاعدة والمؤثرة في مجمل الحياة السياسية العربية، وذلك بعدما خلت لها “الساحة” إلى حدّ كبير في أعقاب انهيار مشاريع التحديث العربية وإفلاس منظوماته الإيديولوجية، القومية العربية منها والإشتراكية والليبيرالية، وهو انهيار بدأ منذ مطلع السبعينات ولا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم، بحيث يشكل صعود الأصوليات الإسلامية أبلغ تعبير عنه.
إلى جانب تأكيد الدور الذي تلعبه سلباً “الهوية الفكرية” للأصوليات، إلاّ أنّ تحفظاً لا بد منه يتعلق بكون هذه الأصوليات لا تختزل الاديان التوحيدية أو الإيديولجيات الواردة في هذا الكتاب. ليس صحيحاً أنّ الأديان الإسلامية والمسيحية واليهودية تُختزل كلها في الجانب الأصولي، بل أنّ هذه الأديان تحمل في جوفها من القيم والمبادئ الإنسانية والسموّ الروحي ما يتناقض بشكل جوهري مع “الدوغمائية” والجمود اللذين وقفت عندهما هذه الأديان، وبما يتناقض أيضاً مع الأسلوب الذي تتبعه هذه الحركات في تنفيذ أهدافها، ولا سيما في الجانب العنفي منه. ينطبق الأمر نفسه على ايديولوجيات مثل الشيوعية أو العلمانية أو العلمية، حيث يشكل الجانب السلبي من المنظومة الفكرية لها حيزاً محدوداً لا يلغي الجوانب الإيجابية التي تحملها هذه المنظومات من حيث علاقتها بالإنسان وتقدمه.
إنّ تسليط النقد على “الهوية الفكرية” لهذه الأصوليات يهدف إلى تعيين مداخل مناقضة لها، تساهم في السجال الدائر اليوم حول كيفيّة تجاوز المجتمعات العربية لتخلّفها ولعجزها عن الدخول في العصر، وهو ما يستوجب بناء مشروع نهضوي جديد يفيد من سلبيات الماضي ويكون مفتوحاً على الحداثة بجميع مكوّناتها. يرتهن هذا المشروع بشرطين أساسيين: الاول يتصل بضرورة تحقيق الإصلاح السياسي في المجتمعات العربية على قاعدة اعتماد الديموقراطية سبيلاً لهذا الخلاص، وهو أمر يفرضه نمط العلاقة الجدلية القائمة اليوم بين الأنظمة الإستبدادية الحاكمة في العالم العربي وبين هذه الأصوليات، بحيث تتغذى كل واحدة من الأخرى، وتعطي المشروعية لبعضها. أمّا الشرط الثاني فيحتم ضرورة الإصلاح الديني، وهو موضوع يستوجبه نمط السلوك الذي تفرضه علينا الأنظمة اللاهوتية للأديان التوحيدية لجهة قراءة النصوص المقدسة، وتلزمنا بالتموضع داخلها والأخذ بنصوصها الحرفية بصرف النظر عن الزمان والمكان اللذين صدرت فيهما. يتطلّب هذا الإصلاح الديني قراءة تاريخية للنصوص المقدسة وتبيان ما هو راهن منها يمكن الإفادة منه، وما تقادمه الزمن فيتم تجاوزه. كما تفرض هذه القراءة التمييز بين ما هو متجاوز للزمان والمكان في الدين، وهو المتصل بالجانب الروحي والإنساني والأخلاقي، وبين الأحكام الإجتماعية التي كان كل نبيّ يجد نفسه ملزماً الجواب عن قضايا تواجهه من قومه في سياق نشر الدعوة، وهي أمور تجاوزها الزمن ولا يفترض استحضارها واستنساخها وإسقاطها على الواقع الراهن، كما تسعى الأصوليات الدينية الى وضعها موضع التنفيذ اليوم وفرضها على مجتمعاتها.
يضمّ الكتاب أربعة فصول، يتناول الأول “المشترك بين الأصوليات الدينية وغير الدينية”، فيشير إلى بعض المفاهيم الفكرية التي تشترك فيها هذه الأصوليات وتتقاطع مع بعضها في التعبير عنها. قد لا تكون هذه القضايا شاملة لما ترمز إليه الأصوليات، بالنظر إلى الخصوصيات التي تتمتع بها كل واحدة منها. ما جرى هو محاولة للجمع بين القواسم المتقاربة في ما بينها.
يتناول الفصل الثاني “أصوليات غير دينية” جرى استنساب اربع منها هي: الأصولية النازية – الفاشية، الأصولية الشيوعية، العلمانية الأصولية، والأصولية العلمية. توجد أصوليات غير دينية أوسع من الإختيار المحدد في هذا الكتاب، لكنّ ما هو وارد يؤشر إلى الدور الذي لعبته هذه الأصوليات في التاريخ البشري الحديث، حيث لا يزال أثر هذا الدور متواصلاً في شتى الميادين.
أمّا الفصل الثالث فيلقي الضوء على “الأصوليات الدينية”، وهي تحديدا مقتصرة على الأديان التوحيدية الثلاثة، أي اليهودية والمسيحية والإسلام. لا يعني هذا الإختيار إنكار كون سائر الأديان غير التوحيدية بعيدة في تعاليمها ومبادئها عن الأصولية، بل على العكس، تتساوى مع الأديان التوحيدية في هذا الجانب. فالبوذية والهندوسية والكونفوشية والزرادشتية، كلها تتقارب في نظرتها إلى الحياة والكون في مسألة أنّ كل ديانة منها تحمل وحدها الحقيقة المطلقة، وانها الفئة المصطفاة والمتميّزة عن غيرها من الأديان. أتى الإختيار موصولاً بواقع المجتمعات العربية التي تسود فيها الأديان التوحيدية فقط.
أعطي الفصل الرابع عنوان “وجهاً لوجه مع الفكر الأصولي”، وتضمّن قراءة في فكر عدد من المفكرين والفلاسفة الذين صبّت أطروحاتهم في مقارعة الفكر الأصولي منذ بداية التاريخ الإسلامي حتى اليوم. جاءالإختيار مقتصراً على المجتمع العربي – الاسلامي، من دون نسيان أنّ المسيحية واليهودية شهدتا في صفوفهما مكافحين ضد الأصولية ودعاة إصلاح ديني. قد يكون التركيز على المفكرين العرب والمسلمين متصلاً بالدور السلبي الذي تلعبه الأصولية الإسلامية اليوم في هذه المجتمعات، ولكونها قضية حياتية ومصيرية في مجتمعاتنا. جرى اختيار مفكرين انتسبوا إلى مختلف العصور، لا يعني الإختيار عدم وجود آخرين كان لهم دور في التصدي للمقولات الأصولية، بل على العكس يزخر التاريخ العربي والإسلامي بمناضلين في هذا الميدان دفع كثير منهم حياته ثمناً لآرائه وتصدّيه للفكر الأصولي. من الزمن الإسلامي الأول، جرى اختيار المعتزلة كفرقة كانت لها قراءة خاصة للنص الديني، كما جرى اختيار كل من ابن خلدون وابن باجه وابن رشد بالنظر إلى ما تميزوا به في تقديم فلسفة تتناقض مع الفكر الأصولي في الطرح والإستنتاج. وفي عصر النهضة العربية – الإسلامية خلال النصف الأول من القرن العشرين، جرى اختيار كل من الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين ومعروف الرصافي ومحمد أحمد خلف الله. أمّا من المحدثين فقد جرى اختيار ثلاثة هم نصر حامد أبو زيد، محمد أركون وعبد المجيد الشرفي.
إنّ الغوص إلى قلب الأصوليات بفكرها وممارستها وتطلّعاتها المستقبلية موضوع شائك ومعقد وواسع جداً. فما جرى تقديمه في هذا الكتاب ليس سوى محاولة في ملامسة ايديولوجيات تحكمت وتتحكم اليوم بحياتنا الفردية وبمجتمعاتنا وتسعى إلى فرض نمط محدد من السلوك على الإنسان العربي يتلاءم مع أطروحاتها. هذه المحاولة تحوي بالتأكيد الكثير من النواقص والثغر لأنّ الموضوع الذي تقاربه يحتاج إلى مجلدات في الشروح والبحث حتى يمكن الإلمام به في شكل فعلي.
المشترك بين الأصوليّات الدينيّة وغير الدينيّة
تحمل كلّ أصوليّة من الأصوليّات الدينيّة وغيرالدينيّة ميّزات خاصة بها نابعة من طبيعة المفاهيم والنظريّات التي تقوم عليها ايديولوجيتها، ممّا يعني خصوصيّات في الفكر وكيفيّة التعبير. قد لا تتساوى الأصوليات الدينية مع غيرها من الأصوليات غير الدينية في تقديم أطروحاتها وكيفية الدفاع عنها، أو في القيم التي تحملها ووسائل التعبير عن مضمونها، وفي ممارستها العمليّة، وحتى بما قد تتسبّب به من أخطار على البشرية،. إلاّ أنّ هذا التمايز لا يمنع من اشتقاق قواسم مشتركة تجمع بين هذه الأصوليات في منبتها الدينيّ أو العلمانيّ وغير الدينيّ، وهي قواسم قد تتفارق أحياناً لدى بعض الأصوليات، إلاّ أنها تظل تجد تعبيرها في جذور كل واحدة منها.
الاصطفائية وامتلاك الحقيقة واحتكارها
قد يكون ادعاء الأصولية امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها لها، والتي تعطي بواسطتها أجوبة عن كل شؤون الكون وميادينه، إضافة الى الإصطفائية التي يحملها أصحاب هذه الأصولية، من أهم الخصائص المشتركة للأصوليات وأخطرها فكراً وممارسة. في الأديان تتجذّر هذه القضية بشكل جليّ من خلال ادّعاء كل دين، بل وكل طائفة فيه، أنها تحمل مفاتيح فهم الدين وحقائقه، وأنها “الفرقة الناجية” وحدها فيما تقيم الفرق الأخرى في الضلال والنار، وتالياً مصيرها الهلاك. يتجلّى ذلك في الأديان التوحيدية الثلاثة، سواء في الماضي أم في التاريخ الحديث. ينسحب الأمر على الأصوليات غير الدينية من شيوعية وفاشية وعلمّية وغيرها، وهي لا تقل تعصّباً عن امتلاك الحقائق المطلقة ممّا هي عليه لدى الأديان. يؤدي القول باحتكار الحقيقة إلى نوع من احتقار الفكر الآخر ونعته بشتى الأوصاف التي تحطّ من قيمته الفكرية والأخلاقية. ينجدل الإمتلاء بامتلاك الحقيقة المطلقة بالإصطفائية التي تتسم بها الأصوليات فتجعل المنتسبين إلى هذا الدين يرون أنفسهم مختلفين عن الآخرين في الأديان بل أفضل منهم تجاه الله والبشرية. الأمر نفسه تمثله أصوليات شيوعية أو فاشية حيث يعتبر الفرد، المنتمي إلى هذه العقيدة أو تلك، في موقع متميّز عن سائر البشر بل متفوّقا عليهم في جميع الميادين.
ينجم عن هذا الإعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة ومعها منطق الإصطفائية خلافاً لبقية البشر، نوع من الإستبداد في الرأي والتعصّب الأعمى. يساعد في هذه “الدوغمائية” كون الأصولي يتمسك بالنصوص الحرفية والولاء الكامل لها، بما لا يسمح بوضعها على محك النقد والتمحيص أو إخضاعها للبرهان والتجربة. فالنص يحمل قداسة من غير المسموح التعرّض لها بسوء، والنص على صواب دائماً ولو كانت الحقائق الواقعية تعانده، وهو منطق جعل “النظرية على صواب والواقع على خطأ” لدى كثير من معتنقي هذه الأصولية، وذلك خلافاً لمعطيات العلم والواقع نفسه. يتسربل الأصولي بالنص وحرفيته ويرفض تكييفه مع معطيات الواقع والتاريخ، فالنص الديني صحيح منذ نزوله زمن التوراة والأنجيل والقرآن، بحيث لا أهمية لآلاف السنين من التطورالبشري وما يمكن أن تعدّله في هذه النصوص. النظرية عند الشيوعيين والفاشيين صحيحة بالمطلق وتحوي الحقائق كاملة بصرف النظر عما يثبته الواقع من معطيات مغايرة. ينجم عن تقديس النصوص تحوّل الأصولية إلى عقيدة جامدة فتصير مفاهيمها افكاراً “محنّطة” تقبع خارج التاريخ ، وقد يترتّب عليه ممارسات تصل إلى حدّ تكفير الشخص المخالف لما تقول به هذه الأصولية. يختصر الفيلسوف الفرنسي فولتير تحديده للأصوليين بالقول: “أناس مقتنعون بأنّ الروح القدس الذي يملأهم هو فوق القوانين”.
معاداة الديموقراطية ورفض الآخر واستخدام العنف
ترتبط هذه المقولات الثلاث بشكل وثيق وتؤدي الواحدة منهما إلى الأخرى لدى وضعها في الممارسة. تحمل كل ايديولوجيا أحادية الجانب عداءً اصليّاً لفكرة الديموقراطية، تتساوى في ذلك العقائد الدينية أو غير الدينية. يعود ذلك في أصوله إلى أنّ الحقيقة التي تقول بها هذه الايديولوجيات متعالية ومطلقة بل مغلقة بشكل كبير، مما يضع معتنقها في حال من التعصّب لما تقول به ورفض الآخر الذي لا يؤمن بها، وبحيث تبدو صفات التعصّب الثقافي ومحاربة حريات التعبير ورفض الإقرار بالتعدديّة في السياسة والفكر من الصفات المشتركة لهذه الأصوليات. في هذا المعنى تبدو الحركات الأصولية جميعها في حالة عداء للديموقراطية بما هي الإعتراف بالآخر والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات والإقرار بحرية الرأي والتعبير والتسامح الديني والمحافظة على السلم والإحتكام إلى التسويات السلميّة للإختلافات، وصولاً إلى الإنضواء تحت سلطة القانون العام، لأنّ كلّ أصولية ترى في نفسها قانوناً له ديناميته الخاصة، ولأنّ الآخر عندها مرفوض من حيث المبدأ. أمّا المجتمع الذي يسعى إليه الأصوليون فلن يتمتّّع فيه الآخرون بحقوق المساواة، فالإصطفائية التي تحملها كل حركة أصولية، عندما يتاح لها وضع قيمها موضع التطبيق في المجتمع، تؤدي بشكل آلي إلى هذا التمييز بين البشر، وهو موضوع يتخذ شكلاً أكثر خطورة عندما تتمكّّن هذه الأصولية من تسلّم السلطة.
لا يقتصر رفض الديموقراطية وعدم الإعتراف بالآخر على مجرد الكلام، بل إنّ ترجمة هذا الموقف يتحوّل في التطبيق إلى ممارسة عنفيّة متعددة الشكل. ينجم عن رفض الآخر والتعصّب للعقيدة، موقف يقول بالتكفير والنبذ وإهراق الدم على صعيد الفرد، لكنّ الأخطر عندما يتحول هذا الإقصاء إلى المجتمع ككل فيتسبّب في حروب أهلية ودينية، وهذا أمر سجّله التاريخ لدى كلّ الديانات التي كان رفض فئة لأخرى فيها يتسبّب بحروب مذهبية، فدفعت الشعوب في العالم أثماناً باهظةً من الضحايا لقاء هذا الإقصاء الديني من هذه الجهة أو تلك، والذي كان يتّخذ في كل مكان شكلاً خاصاً به. ولم يكن الأمر أقلّ بشاعة لدى الايديولوجيات النازية والشيوعية التي “ضحّت” بالملايين من البشر المخالفين لما تقوله من”حقائقها” وذلك بأشكال بشعة من التصفيات الجسديّة والتطهير العرقي والنفي والإبادة الجماعية ممّا تعرفه شعوب البلدان التي وصلت فيها هاتان الايديولوجيتان إلى السلطة. فبإسم نظرية “العنف الثوري” جرت ممارسة أشكال مريعة من إذلال الإنسان وتحطيمه على يد نظريّات قامت في الأصل من أجل الإنسان وتحرّره ومنع استغلاله.
الخلاصيّة، المهدويّة وعبادة الشخصية
في كتابه “البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثماني ديانات”، يتطرّق الكاتب العراقي فالح مهدي إلى مقولة المنقذ في الأديان الذي يتّخذ في كل دين شكلاً محدداً، لكنه في الجوهر يتشابه مع سائر الأديان. تؤمن الأديان جميعها، دينية أكانت أم وثنية، بحتميّة ظهور شخصية قدسيّة على الأرض تعيد إليها السلام وتقرّ العدالة بعدما امتلأت الأرض جوراً وفساداً وظلماً”. تتلاقى الأديان التوحيدية الثلاثة على القول بمجيء المهدي المخلّص للبشرية والمنقذ لها من الشقاء، سواء أكان المسيح أم المهدي المنتظر، ولا تتورّع هذه العقائد عن تحديد فترات زمنية في كلّ مرحلة من التاريخ، وتسبغ على هذا المنقذ الصفات الأسطورية والخيالات بما يجعله أملاً تنتظره البشرية بفارغ الصبر. تركّز الأديان على الجنّة في وصفها ملاذ الخلاص النهائي للإنسان والهدف الذي يسعى كل فرد للوصول إليه. أمّا في العقائد غير الدينية، فقد شكّل العنصر الجرماني “المهدي المنتظر” لدى الشعوب الألمانية والإيطالية، حيث سيقوم على عاتق هذا العرق تحرير البشرية وتنقيتها من الضعفاء والشعوب غير الصالحة للحياة، بكل ما يعنيه من إصطفاء جنس بشري يتمتع بالتميّز عن سائر الشعوب. لم تكن الشيوعية أقل إيماناً بالخلاصيّة الدينية وبالمهدوية أيضاً، فقد شكّلت البروليتاريا الطبقة “المصطفاة” لتحرير الشعوب من الطبقات التي تقوم باستغلالها وتحقّق للإنسان الخلاص عبر الوصول إلى الشيوعية التي تمثل الجنّة لدى هذه العقيدة.
تتشابه عبادة الشخصية التي عرفتها العقائد الأصولية مع مثيلتها في العقائد غير الدينية. تتخذ هذه العبادة أشكالاً متعددةً وإذا كانت تتمايز في مفاصل مختلفة، إلاّ أنها تصبّ في النهاية في مجرى واحد. إنّ الإيمان بقدرة هذا المنقذ على تحقيق الخلاص يتحوّل إلى نوع من التقديس للشخصية، بحيث يصبح من الصعوبة بمكان الفصل بين العقيدة والشخص. فالإيمان بالعقيدة يحتّم الإيمان بقائلها والمنظّر لها. تتخذ المسألة أبعاداً لاهوتية في الأديان بحيث يكون عسيراً جداً الإيمان باليهودية والمسيحية والإسلام من دون قبول قدسية موسى والمسيح ومحمد، بكل ّ ما يترتب على ذلك من عبادة شخصياتهم بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الإيمان الديني. لم تكن العقائد الأصولية “العلمانية” أقلّ وثوقيّة بزعيمها و”ملهمها” عبر قيادتها التي تحولت إلى شخصية معبودة، سواء أتى الأمر من خلال النظرية وما تقدمه في هذا المجال، أم عبر العمل الذاتي للقائد نفسه، الجاهد في تحويل شخصيته إلى شخصية مقدّسة. هكذا عرف التاريخ أشخاصا تحوّلوا إلى “زعماء – آلهة” أجبروا مريديهم على عبادة شخصيتهم على غرار ما كان لدى الأنبياء، وهو أمر تجسّد في النازية عبر هتلر وموسوليني، وفي الشيوعية من خلال نماذج ستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وغيرهم من السابقين والراهنين.
الماضي في وجه الحاضر
من سمات الأصوليات وضع الماضي في وجه الحاضر واعتبار القديم يمثل الطّهارة والصفاء فيما الحديث يحمل الفاسد والشرور على صعيد القيم الأخلاقية والإنساينة. لا تهدف مقاومة الجديد إلى تقويمه أو إعادة بنائه بمقدار ما تهدف إلى نفيه وإحلال ماض “زهري” أقرب إلى الأسطورة والخيال. يترافق رفض الجديد باستحضار التراث برموزه وتواريخه البطولية بما يوحي ضرورة إستلهامه بل وإسقاطه على الواقع الراهن. يستعاد هذا الماضي “الطاهر” في الأديان من خلال العودة إلى المراحل الأولى لظهورها حيث اتسمت جميعها بالمثاليّة في العقيدة والسلوك وخدمة البشرية، مما يجعلها مثالا يستوجب الأخذ به في قراءة الحاضر. هكذا يستعيد اليهود المراحل التأسيسية للموسويّة، وتقف المسيحية عند العقود الاولى للتبشير بالمسيحية واستلهام النماذج التي مثّلها تلامذة المسيح، ويرى الإسلام إلى مرحلة الرسول والخلفاء الراشدين في وصفها العصر الذهبي للدين الإسلامي ونموذج الحكم الصالح، بما يستوجب إعادة بناء الدولة الإسلامية على النموذج “الراشدي”. وتستحضر الفاشية بطولات الشعوب الجرمانية وتدعو إلى إعادة التمثل بها وجعلها ملهمة للشعوب الألمانية في استعادة المجد والقوة الغابرتين. وتفتش الشيوعية في تاريخ الشعوب عن التمرد الذي حصل هنا وهناك من العبيد والمظلومين لترى فيهم نواة النضال “البروليتاري” الحديث الذي أتى يكمل هذه الرسالة في تحرير البشرية وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان.
المؤامرة واختراع العدوّ
ندر أن ابتعدت أصولية من الأصوليات عن تصوير نفسها هدفاً لمؤامرة ولعدوّ خارجي متربص بها يسعى إلى منعها من إكمال رسالتها. نظرية المؤامرة ضرورية لكل أصولية لأنها تساعد في شحنها بعوامل استنفار تبرّر لها أفعالا تبدأ من النبذ والرفض وتصل إلى الإضطهاد والقتل لخصم هذه الأصولية. يحمل التاريخ البشري ما لا يحصى من الأمثلة على استحضار العقائد الحاكمة أو غير الحاكمة للمؤامرات، والتي تهدف إلى الإنقلاب على هذه العقيدة والقضاء عليها. وتحتاج الأصوليات إلى المؤامرة والعدو الداخلي أو الخارجي لإحياء الشعور بالتهديد الذي يطال العقيدة مما يستوجب حشد القوى وزيادتها ووضعها في حال دائمة من التأهب والاستنفار والإستعداد للتصدي والمواجهة، وهي حال من التعبئة النفسية المتوترة تجعل الأصولي في وضع مؤهّل فيه لإستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للدفاع عن عقيدته، وهو أمر يساعد ايضاً في تحصين الهوية الخاصة بالأصولي والمهددة بالإبادة أو الإلحاق. استخدمت الأصوليات جميعها نظرية المؤامرة ووجود الأعداء للقيام بأوسع عمليات تطهير وإعدام وتهجير ونفي ووضع في أقبية السجون. نجم عن نظريات المؤامرة تكبّد البشرية مئات الآلاف من الضحايا، ودفعت الحركات الثورية أو النضالية الآلاف من كوادرها في عمليات تطهير تحت حجة وجود المؤامرة. ولا تزال هذه النظرية تلعب دوراً اليوم في الحروب أو مكافحة الحروب والثورات والأعمال الإرهابية والمتطرّفة.
يصف جيل كيبيل في كتابه “يوم الله، الحركات الدينية – التوحيدية والأصوليات الثلاث” هذه الحركات بكونها تقوم على “بعث مقولات الفكر الديني لتطبيقها على العالم المعاصر، ووضع مشروعات لتحويل النظام الإجتماعي وتغييره ولجعله متوافقاً مع أوامر التوراة أو القرآن أو الأناجيل وقيمها، بصفتها الضمان الوحيد في تفسيرها لمجيء عالم من العدالة والحق. فكل واحدة من الثقافات الدينية استخلصت حقائق نوعية خاصة تفضي، حين تؤدي إلى إعادة تأكيد شديد للهويّة، إلى استبعاد إحداها للأخرى، وهي مشروعات تقترن وتتباين ثم تصبح متناحرة تناحراً عميقاً”. ينطبق هذا الوصف على الأصوليات غير الدينية بصرف النظرعن بعض التمايزات في هذا الجانب أو ذاك.
في الختام، إنّ الأصوليات، كلها من دون استثناء، تحوّلت على مدى التاريخ إلى حركات سياسية سعت إلى الوصول إلى السلطة واستخدمت الدين في صراعاتها السياسية والإجتماعية، إنها أكثر التجليّات لمشروع سياسي يجري فرضه على الشعب بدءاً من الفرد وانتهاءً بالدولة، مشروع لا ينبع من قيم أنتجتها عملية توافق ديموقراطي، بل من رؤية متشددة للدين أو للإيديولوجيا. يمثل وضع الدين، بما هو قيم روحية وأخلاقية وإنسانية، في خدمة السياسة، واحداً من العوامل التي تزيد من عنف هذه الحركات وحافزاً للحروب والتصفيات والدمار في كل مكان يتاح فيه لهذه الأصولية الوصول إلى السلطة أو شبه السلطة ¶
* يصدر قريباً عن “دار الطليعة” في بيروت و”رابطة العقلانيين العرب”.
النهار