مفهوم سيادة الدولة كأساس لحرية الاعتقاد الديني
ياسين الحاج صالح
إن العلمانية تعني الفصل بين الدين والسيادة، أي والدولة، وليس بين الدين والسياسة، فدون ممارسة للإكراه أو منازعة عليه، ودون منافسة على الولاية العامة، يتعين أن يتمتع الدين، أي مجموعات دينية ممكنة، بحرية سياسية غير منقوصة.
لم يتولد مبدأ حرية الاعتقاد الديني عن إعمال العقل المجرد بل عن تحولات في موقع السيادة العليا جرت في الغرب، وأثمرت بعد صراع مديد عن نزع السيادة من الدين لمصلحة الدولة-الأمة. ثم تعمم المبدأ عالميا بفعل تجربة الاختلاط العالمية الواسعة منذ قرنين على الأقل، والمرشحة لمزيد من الاتساع. هذا لا يعني أنه لم يجر تعزيزه بمبادئ فلسفية وحقوقية تضفي عليه الشرعية، ونكاد نقول «القداسة»، نريد فقط القول إن ذلك جرى تاليا لتحولات العلاقة بين الدين والدولة في الغرب. وتاليا، لا يكفي للاعتراض على المبدأ التحفظ على أسسه الفكرية والفلسفية (مركزية الإنسان الفرد وجدارته بالحرية…) فهو محمول على الدولة الحديثة والقومية والنظام الدولي. ومعلوم أنه صار قاعدة مقبولة عالميا، بل ركنا من أركان النظام السياسي والحقوقي العالمي، لا يكاد ينكره إلا العالم الإسلامي، ولعل جانبا من هجرة العقول من بلداننا يتصل بوضع هذا المبدأ، كما بأوضاع مبادئ حقوقية أخرى تتصل بالحريات السياسية والاجتماعية.
لكن ماذا يعني تقرير مبدأ حرية الاعتقاد الديني في العالم الإسلامي؟ يعني على الفور الفصل بين الدين والسيادة، ليغدو الانتهاك الأعظم الموجب للعقاب الأعظم هو انتهاك سيادة الدولة، أي التعدي على ولايتها العامة أو ممارسة العنف ضدها، أو في مجالها. وبينما ينظر إلى انتهاك سيادة الدولة كـ«كفر» قد تصل عقوبته إلى الإعدام، فإن تغيير الدين أو التخلي عنه أو زوال مركزيته من حياة الأفراد يغدو شأنا شخصيا، لا ينضبط بقانون عام. لم يتلاش الكفر إذن، لكن جرت علمنته، أي تحول سند الحكم في شأنه من الدين إلى الدولة، والاسم الذي يطلق على «الكفر العلماني» هو الخيانة الوطنية.
ويحاول مفكرون إسلاميون معاصرون مثل جمال البنان نصرة مبدأ حرية الاعتقاد الديني بالقول إن «الردة» التي يعاقب عليها بالإعدام هي تلك التي كانت بمنزلة انتهاك لسيادة الأمة الإسلامية، والتعاون مع أعدائها أو الخروج عليها. كانت الأمة إسلامية، والسيادة إسلامية، ولذلك كان ترك الإسلام معادلا للخروج على الأمة وانتهاك السيادة، وموجبا للعقوبة العظمى. أما اليوم فهو يندرج ضمن حقوق فردية لا تمس في شيء سيادة أمة المواطنين القائمة على وحدة الدولة والشعب والأرض، وعلى أسس علمانية مبدئيا، هذا مؤدى شرح البنا.
ويعني الفصل بين الدين والسيادة فصل الدين عن الدولة باعتبارها مقر السيادة. أي بالضبط (1) فصله عن الإكراه بالنظر إلى أن الدولة هي الجهة الوحيدة المخولة شرعاً بممارسة الإكراه المادي (والمعنوي: تخوين) في داخلها ضد أي مجموعة داخلية غير مفوضة منها، وفي خارجها ضد أي عدو متصور؛ و(2) فصله عن الولاية العامة على جميع الأفراد، «المواطنين». تبقى للدين ولاية خاصة من جهة، وغير قسرية من جهة أخرى، ينضبط بها من شاء طوعا.
نسوق هذه المقدمات للقول إن العلمانية تعني الفصل بين الدين والسيادة، أي والدولة، وليس بين الدين والسياسة، فدون ممارسة للإكراه أو منازعة عليه، ودون منافسة على الولاية العامة، يتعين أن يتمتع الدين، أي مجموعات دينية ممكنة، بحرية سياسية غير منقوصة. ونفترض أن دستور الدولة في أي من بلداننا يعتني بتثبيت هذين الأساسين، وإلزام جميع الفاعلين السياسيين المحتملين في بلداننا بهما.
هذا من باب تنظيم التفكير، وليس للقول إن مسألة العلمانية مسألة قوانين ودساتير وحقوق. ليس ثمة ما يخولنا الاعتقاد بأنها ستكون مختلفة عن أوروبا الغربية، عملية صراعية معقدة قلما يتطابق واقعها مع إيديولوجيات الفاعلين ووعيهم الذاتي.
من غير المتصور مثلا أن تستقر السيادة في الدولة بينما هذه عاجزة عن احتكار العنف داخلها (هذا حين لا تبادر هي ذاتها إلى منح مقاولات قمعية من الباطن لقطاعات من مجتمعها ضد قطاعات أخرى: موالين ضد معارضين مثلا)، أو عاجزة عن الدفاع عن كيانها بكفاءة. أو حين تكون ولايتها العامة مخروقة بأشكال متنوعة من المحاباة، أو بخاصة حين تتنازل عن بعض أوجه سيادتها الداخلية للدين (في مجالي القانون والتعليم بخاصة) من أجل أن تحتفظ بالسلطة «إلى الأبد». هنا يحصل عدم تطابق بين الدولة والسيادة، يفتح الباب لأشكال من «الشرك» في السيادة، أبرز المرشحين لممارستها والاستفادة منها في مجتمعاتنا هم القوى والتيارات الإسلامية.
ومن جهة ثانية، الفرصة محدودة لانكفاء الدين عن طلب السيادة دون أن يتطور للدولة ذاتها أبعاد فكرية وثقافية وتربوية، كي لا نقول روحية، تجعل منها منعقدا لولاء سكانها ومبدأ وازعا لهم. إن دولة ضعيفة الروح والمعنى يصعب أن تكون مقرا للسيادة والولاء العام، لكن من أين تأتي الروح للدولة؟ من ثقافة مجتمعها، ومن الإبداعات الفكرية والأخلاقية والجمالية لسكانها، ومن التجدد الثقافي والروحي العام في عالمها الثقافي. وفي عالمنا الثقافي لا فرصة لذلك دون تفاعل صراعي مركب مع الإسلام، ليس فقط لأن الإسلام عنوان لسيادتنا الرمزية ولاسمنا في العالم (إلى جانب اللغة العربية)، ولكن لأنه نظام للمعنى يطل على أبعاد العالم الثلاث، الكوني والاجتماعي والسيكولوجي، ولأن نظرتنا إلى العالم متكونة بصورة أساسية عبر الإسلام (واللغة العربية)، ما يعني أن من شأن الصراع الإيجابي معه (ولا أقول الصراع ضده) أن ينفتح على تشكل نظام للمعنى يحاكي غناه وأقدر منه على التفاعل مع العالم الحديث. وإنما بهذا يتشكل عمق ثقافي ذاتي لحرية الاعتقاد الديني والعلمانية، يرسخهما، ويعزز من كونهما محمولتين على الفكرة القومية والدولة الحديثة السيدة والنظام الدولي؟
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –