نقد نقد الماركسية و القومية السائدة سوريا
مازن كم الماز
إذا كانت الماركسية هي النافذة شبه الوحيدة الممكنة للحداثة السياسية و الفكرية في أواسط القرن العشرين وما تلاها كما يقول الأستاذ ياسين الحاج صالح فقد كانت القومية هي الشكل الأساسي الممكن لنقد النموذج السائد من الماركسية يومها , كان الياس مرقص و ياسين الحافظ فكريا و سياسيا الحزب الشيوعي المكتب السياسي و حزب العمل الشيوعي و التنظيم الشعبي الناصري ( و بدرجة أقل الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي ) تمثل هذه المحاولة لنقد السائد يومها , سلطويا و على صعيد النخبة , في هذا النقد لعبت الدولة القومية الحديثة , و أخيرا الديمقراطية , دورا مركزيا في مشروع صياغة بديل عن النظام القائم , كان نظام عبد الناصر هو الأقرب إلى النموذج المثال يومها بالنسبة لياسين الحافظ , لكن سرعان ما جرى التخلي عن صيغة الدولة القومية لصالح دولة قطرية ما دامت تحمل صفات الدولة الحديثة , يعتبر مشروع البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي في سوريا – 2007 أن الدولة المدنية الحديثة هي البديل المفترض عن النظام القائم , في تحليل رائع يشرح الأستاذ ياسين الحافظ ( كل الإحالات إلى الأستاذ ياسين مأخوذة من كتابه الهزيمة و الإيديولوجيا المهزومة ) واقع غياب السياسة كممارسة جماهيرية عن تاريخنا , في ظل الانفصال بين السلطة و الشعب أو حظر السياسة كان هناك عزوف من قبل الشعب عن السياسة , و ما التسييس المعاصر للنخبة إلا نتيجة للصدمة الكولونيالية , سيردد محمد عابد الجابري هذه الفكرة في استنتاجه أن الديمقراطية كانت غائبة تماما عن نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية ( رغم أنه هنا يشمل في هذا الغياب رفض بعض المتكلمين لتأسيس سلطة إمام أصلا لأن هذا الرفض للسلطة المركزية و إنكار ضرورة وجودها أساسا لا يماثل الفهم اليوناني القديم عن الديمقراطية ) ( قضايا في الفكر المعاصر , مركز دراسات الوحدة العربية , ص 67 و ما بعدها ) , يرى ياسين الحافظ أن تسييس الشعب هو الشرط الضروري لإنجاز المشروع الثوري التاريخي المتمثل في بناء الدولة القومية الحديثة , يفترض أن يؤدي هذا التسييس إلى تواصل حقيقي بين الشعب و الحكم , أن يأخذ شكل مؤسسات ديمقراطية تكفل له الاستمرار , أما نتيجته الأخيرة فهي أن يصبح الشعب أقوى من الحكم و أن يطيعه و يتواصل معه في نفس الوقت , هنا على عملية التسييس إذن أن تنتج شعبا يتبع سلطة ديمقراطية و يطيعها بشكل “واع” يختلف عن شكل التبعية الراهنة التي تقوم على سلبه حقه في التفكير و التعبئة أي التي تقوم على منعه من ممارسة السياسة , يشبه هذا الموقف الذي يحدد مسبقا الشرط الضروري و اللازم لممارسة الشعب للسياسة موقف المقدس من العقل أو البرجوازية من الديمقراطية , فالأول يريد من العقل أن يفكر للدرجة التي يعترف بها بوجود المطلق لا شيء آخر , إنه ليس ضد العقل ما دام هذا العقل يصل إلى نتيجة واحدة هي أن الله موجود , تماما مثل موقف البرجوازية من الديمقراطية التي يجب أن تعني نتيجة واحدة : حكم البرجوازية , وفق هذا التنظير فإن أي نتيجة أخرى هي غير ديمقراطية و لا علاقة لهذا بممارسة الشعب نفسه , هنا يجري خلق منطق هذه الضرورة التي تفرض على العقل أو الشعب أي على الإنسان في نهاية المطاف من خلال حتمية ما تمارس دور قلب الحرية إلى ضرورة , إلى حالة قدرية جبرية لا راد لها , ففي حالة العقل و المقدس دور العقل هو اكتشاف عبودية صاحبه للمقدس , أما في حالة الدولة القومية الحديثة فإن مصدر الضرورة هو أن الحال كانت كذلك في أوروبا و لذلك فنحن نقف بالضبط في نفس موقف القوى “الديمقراطية” الألمانية و الإيطالية قبل إنجاز التوحيد القومي فيهما , و هي قوى تمثل البرجوازية الألمانية و الإيطالية أو تدعم تطورها في هذا الاتجاه , بما في ذلك مثلا الماركسيين الذين اعتبروا أن هذا هو الطريق الإجباري نحو غد أفضل للبروليتاريا , لكن لن يتم إنجاز مهمة بناء الدولة القومية الحديثة الألمانية و الإيطالية عن طريق حالة تسييس الشعب باتجاه تحويله إلى شعب أو أمة كما يفضل الأستاذ ياسين يمارس السياسة لصالح نخبة ثورية أو برجوازية حاكمة ثورية بالطبع أو بالضرورة ما دامت البرجوازية كنظام حالة ثورية بالضرورة أو بالطبع , بل ستنجزها حالة استبدادية تقوم على إبعاد الناس عن السياسة ( بيسمارك , و الملك الإيطالي فكتور عمانوئيل ) , لكن هذا لم يقلل للحظة من صحة تلك الحتمية و كل نتائجها معها بالنسبة للنخبة التي استنبطتها من مقاربتها للتاريخ و بقيت حتى يومنا الراهن تتمتع بسلطة مطلقة على مقاربة النخبة للتاريخ و الحاضر , منذ وقت مبكر جدا إذن يجري عمدا تجاهل و استبعاد , رغم أنف كل الحقائق التاريخية و رغم زعم العقلانية البرجوازية التزامها بنسبية الحقيقة , أي بديل آخر عن هذه الحتمية المزعومة خاصة معارضة باكونين لماركس و لحتميته الميكانيكية , بل و ستجري محاولة تلو أخرى لتأبيد هذه الحتمية , و التي هي في الحقيقة محاولة لتأبيد الرأسمالية نفسها , من خلال إلباس الحتمية لبوس العلم و اعتبار هذه الرؤية الميكانيكية للتاريخ و الحاضر و المستقبل “قانونا” , فالعلم في منطقه يشترط حتمية ما , قانون أو قوانين ما , تقتصر مهمة العقل البشري في مواجهتها على محاولة اكتشافها فقط , لقد ساعدت هذه الحتمية بإعادة إنتاج شرعية الرأسمالية باستمرار مرة تلو أخرى , بل و جعلت من بيسمارك في نهاية المطاف قوة تاريخية تقدمية ما دام يدفع التاريخ باتجاه حتميته مهما كانت الوسيلة التي يستخدمها و سرعان ما ينسى الشعب و مهمة تسييسه معه , هكذا أيضا كان من الممكن مثلا امتداح جورج بوش كوريث شرعي تماما للدور التقدمي لبيسمارك , إن كل هزائم الرأسمالية و كل إنجازات الشعب أو الجماهير لم تغير في الجدية التي تنظر فيها هذه الحتمية إلى نفسها , بل إنها كانت عادة تؤدي إلى تصليب موقفها و ترميمه بسرعة عن طريق الزعم أنها بصدد دراسة الواقع لإعادة تعديل القانون الذي سبق أن اكتشفته بانتظار انحسار التأثير المعنوي للهزيمة , من هنا يمكن أن نفهم الاستخدام الواسع من قبل اليسار المعادي للستالينية لأشكال لا عقلانية من التفكير و مقاربة الواقع ( مثلا : تأسيس المجتمع تخيليا , للمنشق التروتسكي كورنيليوس كاستورياديس , ترجمة : د. ماهر الشريف و إصدار دار المدى 2002 ) , فعندما يقول كاستورياديس أنه يجب على المثقف أن يكون نقديا باستمرار , أي متجاوزا لمهمة إثبات و تحقيق الحتمية الموالية للسائد و لا سيما للسلطة , حتى يصبح المخيال ضروريا في مقاربة الواقع , المجتمع عند كاستورياديس مزيج من المعقولية و المنطق من جهة و من المتخيل الرمزي من جهة أخرى , هذا المتخيل الراديكالي كما يصفه كاستورياديس يقع خارج الحتمية بالضرورة بل و في مواجهتها , إنه يوجد بالضرورة في فضاء الاحتمالات المتحررة و لو نسبيا من أي حتمية , شيء من الحتمية و كثير من الحرية : هذا هو المتخيل الراديكالي نقيض سلطة الواقع السائد , إذا عدنا إلى أطروحة الدولة المدنية الحديثة فإن موانع قيام سلطة تقودها برجوازية منتجة و ديمقراطية في نفس الوقت ليست خافية على أحد بما في ذلك أصحاب هذا الشعار و أولها عدم وجود هكذا برجوازية أصلا عدا عن أن الآليات و المؤسسات السياسية و الاجتماعية التي تنسب إليها تعود لعدة قرون ماضية في فترة صراع البرجوازية ضد الإقطاع و الكنيسة و أنها قد تعرضت منذ ذلك الوقت لتعديلات جذرية و جوهرية غيرت طابعها و مهمتها من تسييس الشعب إلى التأكد من واقع تغييبه عن ممارسة السياسة و استبدالها بأشكال أخرى , لم تعد البرجوازية تتنافس مع طبقة أخرى على السلطة , لقد أصبح خصمها و منافسها الأساسي هو الشعب نفسه , في بلادنا لا توجد في السلطة اليوم طبقة أخرى إلا البرجوازية , لا يمكن اليوم بعد كل تجارب السنوات الأخيرة الحديث عن شكل آخر للسلطة غير رأسمالية الدولة , لا معنى في الحقيقة للانتقال من رأسمالية الدولة الشمولية إلى رأسمالية الدولة التابعة كما جرى في العراق , أما في لبنان حيث توجد “رأسمالية” ذات تقاليد أكثر عراقة ليست البرجوازية هناك أكثر من برجوازية ريعية تعيش على نهب مؤسسات الدولة , أما حالة تسييس الشعب فيجري توجيهها من خلال توترات طائفية تحافظ على بنية الوعي و المجتمع نفسه في حالة قبل رأسمالية , أي تماما على الضد مما يزعمه أصحاب شعار الدولة القومية الحديثة , ففي عصر الإمبريالية لا يمكن ظهور برجوازيات ذات طبيعة أخرى في الأطراف , الممكن هو فقط برجوازية تابعة , هذا إذا قبلنا أصلا بالفرضية التي تقول أن هذه البرجوازية المنتجة ستكون ذات دور تقدمي بالفعل في حين أن البرجوازية في عصر الإمبراطورية كعادة الإمبراطوريات تتجاوز مرحلة النضج إلى الانحطاط التي تكون فيها أكثر تدميرا من سائر مراحل تطورها , الغريب و المثير هنا عندما تكون الحتمية التاريخية أو التاريخانية عاجزة لدرجة الجمود , فإنها رغم ذلك تريد التباهي “بسلطتها العلمية” خاصة على ضحايا الوضع القائم و ربما تريد استنباط شرعية هذا الجمود الخاص بها من جمود الوضع القائم نفسه و وصوله درجة الاهتراء و ربما الانحطاط , انحطاط البدائل و الخيارات تماما مثل انهيار السلطة القائمة و ما تنتجه من أزمات , إن قيام مثل هذه الدولة , سواء سميناها بدولة مدنية أو حديثة أو ديمقراطية , خيال لا يقل صعوبة و امتناعا عن قيام الشيوعية الفوضوية نفسها , بل إن هذه الشيوعية الفوضوية أقرب للواقع إذ إنها تحتاج فقط إلى إقرار كل الناس , أو معظمهم على الأقل بالحاجة للعيش في ظلها و الاتفاق على شكل المؤسسات التي يجب أن تنظم ممارستهم للسياسة و لإبداع الحياة , أذكر هنا كلام أفلاطون المثالي الأرستقراطي الذي نقله ويل ديورانت في قصته عن الفلسفة أنه لو كان الناس بسطاء لكانت الشيوعية الفوضوية وحدها الشكل المنطقي للحياة الإنسانية , أما بالنسبة للوعي الجماهيري فهناك مستويان لهذا الوعي , لوعي البشر العاديين , أولا الوعي الذي تشترطه النخب و الطغم و تشترطه الديمقراطية البرجوازية لتنقل الحكم بالفعل إلى البشر العاديين و هو مستوى لن تبلغه الجماهير أبدا لعدة أسباب منها الانقسامات الطبقية القائمة و انعكاساتها على أنظمة التعليم الموجهة للجماهير الموجهة أساسا لإبقاء الناس العاديين في حالة جهل و بالتالي في حالة تبعية و خضوع , و مستوى آخر هو ذاك الذي نجد فيه كل إنسان حولنا مهما كان بسيطا قادر على إدارة شؤونه بنفسه , ذلك المستوى الذي يسمح للبشر العاديين بإدارة حياتهم و حكم أنفسهم على الفور من خلال منظمات قاعدية تطور الحياة الاجتماعية و من ضمنها أنظمة التعليم باتجاه القضاء على الفوارق بين البشر و ضمان تطوير كل فرد إلى أقصى حد ممكن و ضمان أقصى حرية لكل فرد , بالعودة إلى الدولة القومية الحديثة نجد أنها تحتاج إلى شروط عدة معظمها غائب أو ينتظر تحققه شروطا أخرى ممتنعة هي أيضا , أهم هذه الشروط الممتنعة هي وجود برجوازية عربية منتجة و ديمقراطية في نفس الوقت , هذه البرجوازية غير موجودة بالتأكيد اليوم , هذا على أقل تقدير , أما صعود القوى الصناعية النامية مثل الهند و سنغافورة و كوريا الجنوبية و الصين نفسها فإنه في الحقيقة جزء من إعادة تقسيم العمل بين المركز و الأطراف و ليست طفرة “حتمية” نتيجة نجاعة نظام السوق الرأسمالية , إنها ضرورة فرضها تطور الإمبريالية نحو الإمبراطورية , إن اعتبار إنجاز تطور مشوه تابع للمركز الرأسمالي و خاضع له كهدف مرحلي أو حتى نهائي للتطور الاجتماعي الاقتصادي مستنسخ من حالة هذه الدول يميز بوضوح بين الأهداف التي تضعها النخبة كهدف للمجتمع و خاصة للناس و تلك التي تداعب مخيال الناس العاديين و التي تتجاوز تلك الأهداف بالضرورة , تختفي الجماهير على الفور و تختفي الحاجة إلى تسييسها بمعنى تحويلها لممارسة السياسة , عندما زار السادات القدس تحدث طويلا عن الرخاء , لم يأت الرخاء أبدا , على العكس تماما , لكن ما قيمة هذا اليوم , أصبح كل الحكام العرب نسخ مختلفة عن السادات , لم تعد السلطة و معها النخبة بحاجة للحديث عن الرخاء , الرخاء مثله مثل المشاركة الشعبية المشروطة بالسياسة وسيلة و ليس غاية , الأساس هي السلطة , و هذا ما يجعل هذه السلطة لكن بالمعنى السلبي , أي نقيض السلطة الذي هو الناس – المحكومين , هو مدخل التغيير لا في ممارسة السياسة فقط بل في الخطاب السياسي نفسه , مرة أخرى نجد أن تهافت صورة بديل النخبة عن الواقع القائم تجعل من السهل و المتاح استيعابها من قبل أنظمة بيسماركية و قلبها ضد ذاتها , علينا أن نذكر هنا أن عبد الناصر تمكن من مفاجأة النخبة اليسارية المصرية و العربية يومها بتجاوزه و خلال فترة محدودة جدا و قياسية لأقصى ما كانت تطالب به تلك النخب , هذا يعكس إلى حد كبير تواضع هذا التغيير من الأساس و تهافته , و تكرر بالضبط ما جرى بين القوميين الألمان و بيسمارك الذي انتزع الشرعية من أيديهم بكل بساطة بتكلل مؤامراته و الحروب التي خطط لها بالنجاح , انتهت الدولة البيسماركية إلى النازية وسط مقاومة محدودة من الشعب الألماني , كان هذا تطورا منطقيا لشكل ممارسة السياسة الشعبي المشروط و المدار بقوة الدولة القمعية الذي انتصر مع الدولة البيسماركية الإمبراطورية بعد أن أغرقت تلك الدولة تحت حكم الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان ثورات مجالس العمال الألمان في العشرينيات في بحر من الدماء , لقد تجاوز ثورات مجالس العمال الألمان السقف المقرر سلفا لمشاركة الجماهير في السياسة فكان عقابها شديدا بل إن النخبة هي من تكلفت بعقابهم لا البرجوازية , نصل هنا إلى أطروحة الحداثة نفسها التي هي مجرد مفهوم زماني لا يعكس بالضرورة مضمونا إيجابيا و الإصرار على هذا التعريف الزماني هو في حد ذاته اتهام مباشر للمفهوم , و إذا أخذنا كلام بعض الحداثيين على محمل الجد فالحداثة ترتبط أو تمثل المركزية الأوروبية , و فكرة المركز هي فكرة سلطوية بالضرورة , فهي تحدد مركز السلطة و أطرافها بالمقابل , هذا تعبير عن الهوس بالسلطة و الهوس بفكرة السمع و الطاعة لكن “الواعية” هذه المرة , و هكذا فالمركزية الأوروبية و نقيضها الشرقية تعبير عن سلطة ما , أما النقيض الخفي المسكوت عنه لكل من هذه المركزية أو تلك و ما تمثلانه من سلطة هو تفكيك المركز لصالح عدد لا متناه من المراكز , تعادل عدد البشر الموجودين على هذه الأرض , هذا المسكوت عنه يلغي صورة الإنسان المجرد , تلك الأيقونة التي تحل مكان الإنسان الواقعي , سواء التي تضع الحداثة كمفهوم زماني خارج المكان في مركز تلك الصورة – الأيقونة أو الهوية كمفهوم مكاني خارج الزمان كمركز لتلك الصورة – الأيقونة المتعالية على الحياة و على البشر خاصة , إن محاولة معارضة البعد الزماني بالمكاني للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض هي محاولة لاختزال البشر و تحويلهم إلى صور لا علاقة لها بالواقع , هذا ضروري عندما يجب تحرير البشر بالقوة , بل و تحويلهم إلى بشر بالقوة , عن طريق حروب نشر الحق و زهق الباطل , يمكن لنا بعد كل هذا أن نفهم ذلك الإنكار الشديد لأتباع قدسية النص المطلقة لمحاولة المعتزلة تحرير الإنسان من قيود الحتمية أو الجبر , و إصرارهم على إعادة تحرير الحتمية من الحرية المزعومة المنسوبة إلى البشر , ليس فقط لأن هذا ضروري كيلا يعرف البشر أنفسهم أنهم يتحررون شيئا فشيئا من أسر الحتمية الطبيعية نتيجة عملهم و جهودهم الفكرية المشتركة , بل لأن هذه الحرية تهدد مصدر أي سلطة , سياسية أو فكرية , سلطوية أو نخبوية , و أولا و آخرا اجتماعية , تحتاج السلطة إلى الحتمية تماما كحاجة ضحاياها إلى الحرية المتحررة من الحتمية أو التي في صيرورة تحررها من الحتمية , من المؤكد أن ما ذهب إليه الأستاذ جورج طرابيشي عن أن كل محاولات تجاوز الدور التاريخي للبرجوازية سيؤدي إلى أنظمة أسوأ من البرجوازية ذاتها , لكن أعتقد أنه قد تراكمت خبرة كافية ( العراق , لبنان , و حتى الخليج , سوريا , مصر , أوروبا الشرقية الخ ) لاكتشاف أن محاولة اختراع هذه البرجوازية أو انتظارها أو تشبيه أية قوى اجتماعية أو سياسية أو أنظمة قائمة بها قد أدت إلى رعب و جنون لا يقل عن الأنظمة الشمولية التي كان من المنتظر أن تكون مخرجا لأزمتها , كلمة أخيرة بحق التروتسكيين العرب الذين قرروا لسبب ما تجاهل كل التراث التروتسكي في نقد رأسمالية الدولة و قرروا هم أيضا وضع كل بيضهم في سلة الدولة القومية الحديثة , ( برنامج الماركسيين الثوريين العرب 1973 – 1974 ) في نكوص واضح إلى حل رأسمالية الدولة نفسه سيء الصيت
اقتراح للبديل : “وصارت الأمور شورى” “وأصبحت الأيدي السافلة عالية”
أعود هنا مرة أخرى إلى أبي بكر الأصم و هشام بن عمرو الفوطي المعتزليين و إلى غالبية الخوارج الذين رفضوا تنصيب إمام لكن الدكتور الجابري يقرر تجاهلهم لأنهم لا يأتون بما يشبه الديمقراطية اليونانية , هذا البديل الذي انتبه إليه شخص مثل أبي حامد الغزالي و جادله فكريا قبل قرون , هذا البديل ليس موجودا في كتب باكونين أو تروتسكي أو ماركس , بل في نفس الرسالة المستظهرية التي أراد فيها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن يدافع عن السلطة القائمة يومها , الخليفة المستظهر , طبعا هو يتحدث بشكل سلبي تماما عن هذا البديل , لكن كلماته دقيقة جدا , كما هي العادة في كتاباته , بحيث لا يمكن وصف هذا البديل بشكل أفضل مما فعل , هنا يمكن رؤية الضرورة الحقيقية لوجود سلطة نخبوية كما يراها الغزالي , أي العلاقة العضوية بين السلطة الدنيوية و بين سلطة أخرى فكرية , و من وراء الاثنين سلطة اجتماعية , إن الغزالي يصف لنا نقيضين , السلطة القائمة و نقيضها , و هو ليس خلافة الفاطميين في القاهرة المعادية للخلافة العباسية و المنافسة لها , بل واقع مختلف تماما لا سلطوي , الواقع الذي يعني ممارسة الشعب , أو الناس لنتجاوز المفردات المرتبطة بالشموليات السوفيتية و القومية الاشتراكية , للسياسة , إنه يتحدث باسم السلطة و هي تراقب بقلق نقيضها , ممارسة الناس العاديين للسياسة بعيدا عنها , لكنه , كعادته أيضا في التهافت و إحياء علوم الدين , صادق في وصفه لخصمه إلى الحد الذي يسمح له به سيده , لذلك تستحوذ كلماته على المرء و تفتح أمامه فضاءا كاملا من الاحتمالات التي لا يمكن تقييدها أو حصارها أو سجنها
“لا يتمارى متدين في أن الذب عن حوزة الدين و النضال دون بيضته و الانتداب لنصرته و حراسته بالمحافظة على نظام أمور جند الإسلام و عدته أمر ضروري واجب لا بد منه , و أن النظام لا يستمر على الدوام إلا بمترصد يكلأ العين الساهرة . فمهما اشرأبت فئة للثوران و كشرت عن أنيابها و أشرفت على الاستحكام بادر إلى تطفئتها و حسم غائلتها , فإنها لو تركت حتى إذا ثارت اشتغل بتطفئتها العوام و الطغام و الأفراد و الآحاد , لأفضى ذلك إلى التعادي و التضاد , و صارت الأمور شورى و بقي الناس فوضى مهملين سدى متهافتين على ورطات الردى , مقتحمين فيه مسالك الهوى و مناهج المنى . و عند ذلك تتناقض الإرادات , و تتنازع الشهوات , و تفضي بالآخرة إلى استيلاء الرذائل على الفضائل و توثب الطغام على علماء الإسلام و الأماثل , و تمتد الأيدي إلى الأموال و الفروج , و أصبحت الأيدي السافلة عالية”
فضائح الباطنية , أبو حامد الغزالي دار الكتب العلمية بيروت 2002 ص118 – 119
الحوار المتمدن