الاقرار بالكيانات سبيلاً لارساء الهويات
صالح بشير
قبل سنوات خمس، جاءت الولايات المتحدة إلى العراق لإسقاط نظام فأودت بدولة. الراجح أن المآل الأخير هذا كان عارِضاً، لم يكن هدفاً في ذاته، بل أدى إليه سوء التقدير وخطل رأي «المحافظين الجدد» وغلوّهم الإيديولوجي، وإلا أمكننا التسليم بأن الولايات المتحدة تصرفت كمن «يطق رصاصة في رجله»
كما يقول تعبير فرنسي، الساعي إلى إيذاء نفسه، إذ لا جدال في أن انهيار الدولة العراقية لم يكن في مصلحتها: خلّف فوضى لا قبل لها بالسيطرة عليها وفتح بلاد الرافدين «ساحة» ترتع فيها قوى الجوار، خصوصاً بعضها المناوئ، لا سيما جمهورية إيران الإسلامية، الأبعد شأواً في معاداة أميركا والأفعل نفوذاً وتأثيراً في مجريات الأمور العراقية.
نظرياً إذاً، ووفق ما يقتضيه العقل أو مجرّد الحس السليم، يعسر تصور أن يكون نسف الدولة العراقية وإلغاء وجودها فعلاً أقدمت عليه الولايات المتحدة على نحو إرادي. صحيح أن «نظرية المؤامرة»، وهي على ما هي عليه تمكّنا بين نخبنا، قد تزين القول بذلك الرأي، ولكنها في حالتنا هذه قد تبدو ضرباً من التآمر لوجه التآمر، «فن للفنّ»، لا ينشد غاية غير ذاته، ما دام الفشل الأميركي في بلاد الرافدين من تبعات ذلك الانهيار، وإن جزئياً. وفي ذلك ما قد يحضّ على البحث عن عوامله في غير ذلك. في استبداد نظام صدام حسين، الذي استفحل حتى تماهى مع الدولة، فسقطت بسقوطه، وذلك من بين أول ما قد يتبادر إلى الذهن بديهيّاً.
غير أن السبب ذاك، وهو معلوم وكثيراً ما تم الخوض فيه، قد لا يفي بمفرده، إن لم يشفعه عامل آخر، هو انعدام شرعية الدولة في بلداننا، ذلك الذي ربما كان في الحالة العراقية، مبعث لبس أو سوء تفاهم بين الولايات المتحدة، لدى غزوها بلاد الرافدين، وحلفائها المحليين، سواء كان أولئك الحلفاء نشيطين مبادرين، زيّنوا للقوة العظمى عملية الغزو تلك وحضوها عليها وجنّدوا اللوبيات في واشنطن في سبيل إنجازها، أم كان فعلهم في نصرة الغزو من قبيل سلبي، إذ اكتفوا بغض الطرف عنه محجمين عن الاعتراض عليه. وقد يتمثل ذلك اللبس أو سوء التفاهم ذاك، في أن ما كان لدى الولايات المتحدة هدفاً منشوداً (إسقاط نظام صدّام) كان لدى حلفائها المحليين أمراً عارضاً أو ثانوياً، وفي حين أن ما كان لدى هؤلاء هدفاً منشوداً، أي نسف الدولة العراقية، كان لدى الولايات المتحدة نتيجة لم تردها بالضرورة.
لا يقال ذلك طبعاً من باب تسويغ السياسة الأميركية في بلاد الرافدين أو التماس الأعذار لها، وهي المُكتسبة من سمات الفداحة ما يفي ويغني، بل سعياً إلى تأكيد أمر أساسي، عنصر ثابت، جوهر كامن في الحياة السياسية، أو في «الثقافة» السياسية للمنطقة، هو ذلك المتمثل في إنكار شرعية الدولة القائمة، بحيث كثيراً ما تنزلق المعارضة للأنظمة والسلطات، حتى في أكثر أوجهها سلمية، إلى اعتراض على الدولة ذاتها وفي ذاتها أو تكون تلك المعارضة ذريعة لهذا الاعتراض، إذ تبقى الدولة غالباً، محض أمر واقع، يُخضع له قسراً أو يُرتدّ عليه حال بروز علامات الضعف عليه، حيز فراغ بين شرعيتين ماثلتيْن، واقعاً أو توقاً، تقعان دونه و/أو فوقه ولا تشملانه: الانضواء العضوي في هوية «صغرى»، من طائفة أو إثنية أو مذهب أو ما إليها، وإعلان الانتماء إلى «هوية» فائضة على الكيان، أمة عربية أو إسلامية أو مذهبية منذ بعض الوقت. والانتماءان هذان، إلى ما دون الدولة الكيانية أو إلى ما يتخطاها، ليسا على طرفي نقيض، بل هما متواشجان متكاملان، ليس فقط ضمناً واتفاقاً، لتواطؤهما غير الإرادي على إنكار الدولة الكيانية، بل في أنهما غالباً ما يكون أحدهما امتداداً للثاني، إذ تستقوي الهوية الصغرى على سواها وعلى الدولة الكيانية بهوية كبرى ترجع إليها، تتخذها حامياً أو ضامناً، لأنها لا ترى في تلك الدولة الكيانية إطاراً مكتفياً بذاته وناجزاً لتعايش ممكن… من زاوية النظر هذه قد لا يعدو ذواء الدولة العراقية أن يكون تجلّياً أقصى لديناميكية عادية على صعيد المنطقة، بادية هنا أو كامنة تعتمل هناك.
ذلك أن الدولة الكيانية، تلك التي توصم، تبخيساً وذماً وقدحاً بـ «القطرية»، كانت في الغالب، وفي منطقتنا، نتاج مساومة، اعتبرت ضيزى، بين داخل آل إلى الاستقلال قبل أن يستوي أوطاناً وبين خارج، قوى نافذة كانت مستعمِرة، عممت أنموذج الدولة – الأمة داخل كل حيز أقامته وعينت له حدوداً دولية واعترفت بها قانوناً.
هي مساومة ضيزى، أو اعتبرت كذلك، لأنها جعلت الحدود المرسومة مسبقاً أو تعسفاً (يصح ذلك على بلاد المشرق على نحو قد يكون أخص) أساس الكيان عوض أن تضطلع مكوّناته الداخلية بتلك الوظيفة التأسيسية، ما يعني أن الكيانات قامت حدودا قبل أن تقوم أوطاناً، لكن ما لا سبيل إلى نكرانه من وجه آخر، أن تلك الصيغة الكيانية ثبتت واستقرت وتعذر إبطالها، طوعاً أو بالقوة، على ما دل فشل تجارب الوحدة، ما يعني أن تلك المساومة الأصلية لا تزال راهنة، فاعلة، وتستند إلى أسباب الاستمرار، وأن الكيانات أضحت وقائع صلدة كأداء، يتعذر تخطيها، أقله كحدود جغرافية، حتى حيثما نُسفت الدولة واضمحلت، على ما يفصح المثال العراقي، إذ يستشري التفكك، ولكنه يبقى حبيس الحيز الكياني، لا يبرحه، حله المتاح والممكن (إن استبعدنا خيار التقسيم، وهو صعب المنال على الأرجح، إلا على شكل فيديرالي أو كونفيدرالي) هو إعادة تشكيل الكيان ذاته باستعادة التعايش بين مكوناته، وإن على أسس مستجدة ووفق ترتيب مبتكر.
وفي ذلك ما يكشف عن فرادة وضعيتنا التاريخية، فرادة تبلغ مبلغ العبث، إذ يجري حجب الشرعية عن الهيئة أو البنية الوحيدة الناظمة لوجودنا (أي الدولة الكيانية)، تنظيماً لأوجه معاشنا ومناحي حياتنا وتمثيلاً لنا بين أمم العالم التي لا تفهم غير لغة الدولة – الأمة ولا تتعامل إلا على أساسها، تلك التي يجري في المقابل، إبطالها، إلى درجة نسفها أحياناً وتدميرها، باسم شرعيات تقع دونها، وتفتقر تالياً إلى مقومات الوجود الدولي أو لا يمكنها أن تنهض بوجود مستقل، أو أخرى تتخطاها نحو توق غير ماثل في الواقع، لا تستوفيه هيئة سياسية معلومة ولا وجود قانوني ناظم.
ربما كان الأسلم، والحال هذه، الإقرار بالكيانات القائمة، سواء تسمّت بالدول – الأمم أم استكثرنا عليها تلك التسمية، وهي التي استتبت واقعاً عنيداً، وإضفاء الشرعية عليها والسعي إلى تحييدها إيديولوجياً، بحيث لا تنهــــض بالضرورة عائقاً، لا من دون الهويات الصغرى ولا مــــن دون تلك الكبرى. إذ أن الدولة الكيانية يمكنها أن تتسع لهذه كما لتلك. فالدولة الكيانية، إن أقبلت على الديموقراطيـــة وأفلحت في إرسائها، لا تناقض لا الهوية الصغرى ولا نظيرتها الكبرى، بل قد تكون من عوامل تفعيلهمــــا معاً، وقد تجترح شروط التعايش بين مكوّناتها وتبتدع إمكاناته وآلياته، وقد تكون، لمن ينشد وحدة عابرة للكيانات، الأداة الأنجع لتحقيق مثل تلك الوحدة، أسوة بما فعلت الدول الأوروبية، التي أفلحت، لأنها ديموقراطية، في إرساء اتحادها الذي كان شرط نجاحه الانخراط الطوعي لدول رأت فيه، إن على صعيد صـــون الحقوق الجماعية والفردية وإن على صعيد الرخاء، ما زيــــن لها التخلي عن المقومات التقليدية لسيادتها أو عن بعضها، لفائدة هيئة متعالية يتساوى الجميع أمامها.
الحياة – 04/05/08