مقتدى الصدر وتياره يواجهان المعضلة العراقية
نهلة الشهال
والمعضلة العراقية اسمها «تقاسم النفوذ بين طهران وواشنطن» وأعلن عنها من النجف منذ أيام ممثل التيار الصدري. لم تتوقف الجولة الحالية من المعارك بين «جيش المهدي» والقوات الأميركية منذ 25 آذار (مارس) الفائت،
وتمكن تقاسم النفوذ ذاك من جعل حسمها في البصرة يتم لمصلحة الأميركيين و «صولة فرسان» السيد المالكي. وعلى رغم انتفاضات متفرقة في مختلف أنحاء الفرات الأوسط بالأخص، تدور أشرس المعارك في تلك «الضاحية» من شمال شرقي بغداد (هل تجوز عليها التسمية وهي الهائلة الحجم – مليونان ونصف مليون من السكان – وذات البنية الاجتماعية القائمة بذاتها؟)، التي عرفت بأسماء متغيرة بحسب تغير الحقبات السياسية، منذ «خلف السدة» عند نشوئها العشوائي من تجمع نازحي الأرياف الجنوبية الفقيرة، إلى «مدينة الثورة» عام 1959، حين سعى عبد الكريم قاسم إلى معالجة بؤسها الفاقع ببعض الهندسة والخدمات، ثم إلى تسميتها الاعتباطية بـ «مدينة صدام»، وهي تسمية لم يتبعها أحد أللهم إلا البيانات الرسمية، وأخيراً إلى اسمها الراهن الذي كان يجري تداوله سراً في أواخر حكم صدام حسين نفسه، فأصبح رسمياً وإن مفروضاً بحكم الأمر الواقع: «مدينة الصدر»، تيمناً بوالد مقتدى، السيد محمد صادق، «الصدر الثاني»، وهو الظاهرة السياسية التي يقال لها اختصاراً وتمييزاً، «مرجعية الميدان» أو المرجعية «الناطقة»، بالضد من استعلاء المرجعيات الدينية التقليدية وعزلتها وصمتها.
وقد اغتيل السيد محمد صادق وولداه مطلع عام 1999، بعد ما يقرب من عقدين إلا قليلاً – عام 1980- على تصفية الصدر الأول، محمد باقر، المرجع الفكري صاحب «فلسفتنا» من بين كتابات أخرى، وأخته العلامة بنت الهدى. وقد استحضر الاغتيال هذا – يقال أن التصفية النهائية تمت في المستشفى حيث وصل السيد حياً – كل بشاعة ما يقال عن سيناريو الاغتيال الأول من أنه تم بيد صدام حسين شخصياً داخل قصره… وفي كلا الحالتين ترد عناصر كافية لرفد، ليس الشعــور بالمظلومية فحسب، بل ما تقوم عليه الرواية الشعبية من أجواء سرعان ما تُمحى الفوارق بينها وبين الأساطير.
إرث مقتدى الثقيل لا يقتصر على ما بات يقال له «خيار الاستشهاد» لأبويه اللذين سبقاه، والمستحضر بيسر تقليداً حسينياً لم يخب على رغم كل شيء، بل هو ارث يعود ثقله إلى تعلقه بـ «التفاصيل»، تلك التي تُنسج منها الحياة، (ولعله لذلك يقال في المثل الفرنسي أن «الشيطان يقبع في التفاصيل»، والمقصود الفارق بين لحظة الإعلان والصيرورة). وفي التفاصيل، صراع الصدر الأول الفكري والسياسي مع المرجعية، مرجعية السيد الحكيم المقرب من الشاه، ومع الخوئي نفسه، بل مع مرجعية الخميني أيضاً ولو وفق أسس مختلفة عن ذلك الصراع الأول، ثم انتقال الصراع إلى الشارع مع الصدر الثاني، الذي بلور خطه في المسلك والخطب وإمامة المصلين في المساجد أكثر منه في المؤلفات، وهو مبتدع منهج «تحييد السلطة» بهدف استكمال بناء الحركة التي سعى إلى جعلها موحدة إسلامياً، نابذاً كل ما من شأنه التفريق بين السنة والشيعة، إلى أن بات نفوذه الشعبي مصدر خطر استشعرت به السلطة، فشطبته.
هنا نجد إذاً الارستقراطية الدينية من جهة، ومن جهة ثانية الطموح الإيراني للاستحواذ على التمثيل الشيعي، بل واختزاله بها، أو على الأقل إخضاعه لها والتحكم بمساراته ومآلاته.
ثم يرث مقتدى ويجسد تمثيل تياره الأوساط الاجتماعية العراقية الأكثر فقراً، تلك التي لا يمكن لنظام توزيع الفتات المتبع أن يطاولها برذاذه، أو أنه لا يعبأ بها. وهو تمثيل يتحقق (ويتجدد) في لحظة تفلّت كل البنى العراقية – تلك التي تقيمها الدول كمؤسسات راسخة بغض النظر عن تغير أنظمة الحكم، وتلك التي يستند إليها المجتمع ويتوارثها، من دون أن تكون بالطبع جامدة ولا سرمدية – من كل الضوابط، وعبورها مرحلة فوضى تامة، أو ربما كان من الأجدر القول أنها تعيش اهتزازاً وتغيراً جذريين لم يصلا بعد إلى أي نقطة استقرار، وذلك بسبب معطيات كبرى ألمت بها، وأولها معطى احتلال العراق، المنهك من عقود من الديكتاتورية الفظيعة والمدمرة، والحروب المتوالية. احتلاله من قبل القوة العالمية الأكبر، وتخريب كل ما هو قائم فيه – بما في ذلك تصفية أصحاب الشهادات العليا والعلماء والخبراء – وتسييد اقتصاد حرب مافيوي قائم على الرشوة والفساد والنهب، وعلى تشريع للقيم الملائمة لها وبناء لشبكة العلاقات المتناسبة معها، ثم معطى تحويل العراق إلى ساحة أمامية للصراع بين طهران وواشنطن، وهو قرار إيراني بالدرجة الأولى، يهدف إلى الإمساك بيد الولايات المتحدة من النقطة الموجعة، وإبعاد بؤرة انفجار الصراع عن الأرض الإيرانية نفسها.
ولا شك في أن القيادة الإيرانية تدرك معنى ذلك، وتعرف مقدار الانشطار الذي يولده، ليس على المستوى العراقي فحسب بل على المستوى العربي، شبح امتداد النفوذ الإيراني إلى العراق ومنه إلى ما يتعداه. وهذا موضوع موغل في التاريخ، جاءت إشكالية التشيع لتندرج فيه ولم تكن في يوم مصدره.
حسناً، ما كان ليفعل مقتدى الصدر وتياره وسط كل ذلك؟ يلاحظ المراقب البراني تخبط الرجل ما بين المشاركة في العملية السياسية وإدانتها معاً، والوجود في مواقع القرار ورفض مرتكزاته، وهي هنا نية الأميركيين تمرير قانون النفط والغاز، وقانون الفيديرالية، وأخيراً اتفاقية الصداقة والتعاون الأميركية – العراقية «الطويلة الأمد» التي تجرى اليوم هندستها.
ويلاحظ أيضاً أي مراقب تمسك الصدر وتياره «بالعراقية»، إن لم يكن بالعروبة، بينما هو يلتجئ إلى قم الإيرانية حيث يقيم، ومن حيث يهدد بضرورة «المغادرة» حين يتجاوز الخطوط الحمر. ومن السخف حقاً إعادة المعركة المندلعة منذ شهر ونيف – وهي استمرار لمعارك كلها فظيع، لم تهدأ على امتداد السنوات الخمس الماضية – إلى أفق ترتيب الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وان الصراع على الحصص في تلك الانتخابات هو سبب سقوط الـ 1145 ضحية التي أعلنت الأمم المتحدة رسمياً عنها في الأيام الماضية، وتدمير مدينة الصدر بقصف الطيران الأميركي على رؤوس سكانها الفقراء، وما أشارت اليه دراسات دولية لجهات مختصة من استخدام الأسلحة الفتاكة والتجريبية هناك…
ألا يصح هنا طرح سؤال عن واقعية المواءمة بين أضداد على هذا القدر من الاصطدام، وهو الأمر الذي يتجاوز المرونة والتكتيك المنكشفين عن قصور موضوعي؟ ولكن ألا يصح أيضاً السؤال عن غياب الحليف ونقطة الانكفاء – تذكروا: الاتحاد السوفياتي والصين معاً في المثال الفيتنامي، والمغرب ومصر في المثال الجزائري الخ- للالتفات إلى ظواهر بدأت تطل برأسها في العراق، لتحل ربما محل علنية الإرث الثقيل: «جند السماء» طوراً و «الحركة المهدية» طوراً آخر، وهي ظواهر قد تتوافق أكثر مع منطق حرب العصابات المتنقلة مما يفعل تيار هائل الحجم بشرياً ومنكشف بحكم تاريخه وبحكم مساره السياسي؟ ثم ما العمل حيال التورط في ممارسات طائفية، وإن بررت برد الفعل والعجز عن التحكم؟
وأخيراً هناك ما هو فاعل حقاً في الواقع من منطلق يساري، أو على الأقل غير ديني، على رغم كل الظواهر الطاغية على المشهد. وكمثال أخير، انظروا بيان النقابات العمالية العراقية لمناسبة الأول من أيار، تواقيع عدة وكثيرة ذات ثقل، ومضمون مناهض بلا لبس للاحتلال ولعمليته السياسية… فلعل ما لا يجب نسيانه هو أن العراق بلد ألف ليلة وليلة!
الحياة – 04/05/08