صفحات سورية

النخب العربية بين حلم التغيير وخدمة السلطان

null

د. سعيد الشهابي

من الذي يحدث التغيير في المجتمعات والامم؟ النخب المثقفة؟ رجال الدين؟ العمال والطلاب؟ الجماهير؟ ام ان التغيير لا يحدث الا بتضافر جهود هذه القطاعات جميعا؟ ما الذي يمنع التغيير في عالمنا العربي؟ ولماذا هذا الجمود السياسي الذي ربما لم تصب به أمة أخري في عالم اليوم؟

في النصف الاول من القرن الماضي كان الاستعمار مهيمنا علي العالم، من امريكا اللاتينية الي افريقيا فالشرق الاوسط الي جنوب آسيا. يومها كان لحركات التحرر دورها في توجيه النضال الوطني ضد الاستعمار، ونجحت في انهائه تدريجيا. لا شك ان هناك عوامل اخري أضعفت القوي الاستعمارية خصوصا بريطانيا، ومنها الخسائر الجسيمة، البشرية والمادية، في الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت أزمة السويس في 1956 لتبدأ درب النهاية للامبراطورية التي لم تغرب عنها الشمس. ولكن النضال الوطني ضد القوي الاستعمارية خصوصا بريطانيا وفرنسا، كان عاملا مهما في اضعاف القبضة الاستعمارية، وبلورة وعي الجماهير باتجاه الثورة والمقاومة. كان لرجال الدين والنخب المثقفة دور بارز في تأصيل ثقافة المقاومة، بالشعر والقصة والتحليل السياسي والمناظرات. وربما كان من اسباب ذلك وضوح الهدف الذي يتمثل بمواجهة العدو ودحره، ومقاومة الاستعمار الذي كان يحتل البلاد ويهيمن علي العباد. اما النصف الثاني من القرن فقد شهد قيام انظمة حكم استأثرت بالحكم في اغلب مناطق العالم، وأقامت أنظمة ديكتاتورية تواصلت عددا من العقود، وتحول القادة الوطنيون الي حكام مستبدين مثل كاوندا في زامبيا، وبينوشيه في تشيلي، والشاه في ايران، والعسكر في تركيا وباكستان. ورغم ان رئيس غينيا السابق، احمد سكوتوري، كان القائد الإفريقي الوحيد الذي كان دعا إلي التصويت بـ لا علي استفتاء ديغول مما أتاح لبلده استقلالا فوريا، الا انه تحول الي حاكم مستبد عندما استقرت له الامور. اما العالم العربي فقد شهد قيام حكومات مدنية وعسكرية وقبلية، لا تزال تمثل تركة ثقيلة حتي اليوم. فالجزائر حكمت بجبهة التحرير الوطني علي مدي اربعة عقود تقريبا، وكان للجيش اليد الطولي في الحكم، وكذلك الامر في ليبيا ومصر والعراق ودول الخليج.

اما اليوم فهناك شعور عميق بالغبن لدي قطاعات واسعة من المواطنين في دول العالم العربي، بسبب الجمود السياسي الذي استعصي علي التغيير عددا من العقود، ولا يزال كذلك حتي الآن. ولا شك ان قيام الكيان الصهيوني كان واحدا من اشد العوامل التي منعت تطور النظام السياسي العربي، وحال دون قيام الدولة المؤسسة علي الارادة الشعبية والقانون. ومع ان هناك عوامل عديدة تساهم في ابقاء الوضع الراهن خارج دائرة التغيير، فان هناك تساؤلات حول دور النخب المثقفة في تحريك مشاعر التغيير والتأطير لحركة وعي تمنع الجمود وتصنع التطور الفكري والسياسي في مجتمعاتها. فما هي سمات النخب المثقفة العربية ماضيا وحاضرا؟ وما هي آفاق نجاحها في التوعية والتنظير للواقع واساليب تغييره؟ ان من الصعب تجاهل الادوار التي لعبها المفكرون في التاريخ العربي المعاصر، ابتداء من احمد عرابي الذي وقف بوجه الخديوي توفيق حتي نفي مع زميليه، عبد الله النديم ومحمود سامي البارودي الي سيلان (سريلانكا) لمدة سبعة اعوام. ورفاعة الطهطاوي الأزهري الذي درس في فرنسا وعاد ليحمل لواء العلم والتوعية في مصر. النضال المتواصل لرموز الوطنية ضد الاستبداد السلطوي تواصل اولا في مواجهة الاستعمار ثم ضد الاستبداد السلطوي الذي اعقب الاستقلال . وبدخول الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين علي الخط، تولدت حركة ثقافية وفكرية واسعة ضد الاحتلال، في الوقت الذي تكرس الاستبداد والقمع بنمط غير مسبوق.

ليس معروفا بعد ما اذا كانت قضية فلسطين منطلقا لوعي تحرري لدي النخب العربية ام سببا للتخدير المتواصل. فما نراه اليوم يشير الي ان التشبث بقضية فلسطين شكلا، لا مضمونا، ادي الي تحول العمل الوطني الي حرفة سرعان ما يتحول العاملون فيها الي محترفي سياسة، بعيدين عن هموم مواطنيهم، وأقرب الي دواوين الحكام منهم الي الجماهير وهمومها. وبتداعي الحركة الفكرية الخلاقة، وتعدد المنطلقات الايديولوجية والعقيدية لـ النخبة المثقفة تشعبت طرق المعارضة وربما تضاربت وانشغل بعضها ببعض، الامر الذي سهل علي الحكام ضربها. فكان هناك الشيوعيون و البعثيون و القوميون في الماضي، واصبح هناك الآن الاسلاميون وهم ليسوا علي نمط واحد من التفكير. هذه الفسيفساء الفكرية كان يمكن ان تؤدي الي اثراء الممارسة السياسية والعمل التوعوي للجماهير، ولكن ما اكثر حالات الاحتراب في ما بينها، الامر الذي ساعد الانظمة الاستبدادية علي استغلال حالة التمايز في مواقف تلك النخب، فشعرت بقوة الموقف، ومارست ثلاث سياسات متوازية: ضرب بعض هذه المجموعات، واحتواء البعض الآخر بالمناصب والترقيات والوجاهات الوهمية، وبناء صروح اعلامية قادرة علي كسر همم الجماهير وارادتها. النخب المثقفة لا يزال اغلبها يدعو الي تحرير فلسطين ولكن هناك ايضا من اولئك المثقفين من اصبح يدعو الي العقلنة في المواقف فراح يروج لمشروع التعايش مع الكيان الاسرائيلي، علي اساس ان ميزان القوي الاقليمي والدولي لم يعد لصالح المشاريع المتطرفة التي تروج للتحرير وتتحرك علي اساسه. وبدخول خط التطرف الاسلامي علي الواقع السياسي العربي في العقدين الاخيرين، ازداد الوضع اضطرابا، وازدادت صعوبة عمل النخب المبدئية المعتدلة، التي اصبح من السهولة بمكان تصنيفها في اي من الخانتين: الاعتدال الذي يقترب من العمالة احيانا، او التطرف الذي يقترب من الارهاب. في البداية كان الصراع ضد الاستعمار، وكان النضال مظهرا من مظاهر الحداثة باعتبار الاستعمار تجسيدا لاطماع امبريالية قديمة، مرتبطة بالرجعية والوحشية. اما في الدول الاستعمارية فكان هناك صراع بين الحداثة المحلية التي تروج القيم الليرالية وتتظاهر بالتزام قيم القانون الدولي بما فيه من احترام لحقوق الانسان وترويج الديمقراطية، والنزعة الاستعمارية التي تشد هذه الدول الي ماضيها الاستعماري. وما نشهده اليوم ليس الا انعكاسا لهذا التناقض الداخلي المعشعش في الدول الاستعمارية. فمثلا الانتخابات المحلية الاخيرة في بريطانيا وانتخاب عمدة لندن، كانت صراعا بين حزبي العمال الحاكم والمحافظين المعارض. ولكن ايهما التقدمي وايهما الاستعماري؟ تاريخيا يحسب حزب العمال علي خانة القوي التقدمية فهو مع حقوق العمال وضد النزعة الامبريالية والرأسمالية. ولكن بعد تجربته في الحكم احد عشر عاما، اصبح في نظر الكثيرين نسخة اخري لليمين المتطرف. فقد ورط بلده في حرب العراق، وتحالف مع الولايات المتحدة في ما يسمي الحرب ضد الارهاب وقمع الحركة العمالية واضعف النقابات العمالية، وبدأ يتحرك ضد مصالح الطبقة العمالية الضعيفة اما بتقليم اجنحة النقابات العمالية، او التخلي عن المستوي المنخفض لضريبة الدخل علي مدخولاتهم.

الطبقة المثقفة العربية لا تزال تسير ضمن الأطر العامة التقليدية لما يعتبر تقدميا . فخطابها لا يزال ضد الولايات المتحدة باعتبارها الراعية الاولي للكيان الاسرائيلي، والداعمة الكبري لانظمة الاستبداد العربية. ولذلك تميز خطابها بمعارضة الاحتلال الانكلو ـ امريكي للعراق، وهو أمر ايجابي طبعا. الامر الذي يضعف من مصداقيتها صمتها شبه الكامل علي الوجود الانكلو ـ امريكي في بقية الدول العربية خصوصا في دول مجلس التعاون الخليجي. فهذا الوجود كان من بين العوامل الممهدة للاحتلال، واذا ما استمر هذا الوجود فليس مستبعدا ان يكون منطلقا للاعتداء ضد الدول الاخري، مثل ايران وباكستان، بسبب امتلاك كل منهما مشروعا نوويا متقدما. فالتصدي للاحتلال الانكلو ـ امريكي للعراق يجب ان يتوازي مع تصد آخر بدون اية مساحيق، للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وعدم الترويج لأي شكل من اشكال التطبيع معه، وللقواعد العسكرية المنتشرة في كافة دول الخليج العربية. فالخطاب ضد الهيمنة والاحتلال الامريكيين يجب ان يكون منسجما لكي تتوفر له مصداقية في اوساط الجماهير ويتحول الي ثقافة مناسبة لها. ان من الضروري التصدي للاحتلال الامريكي للعراق، ولكن في الوقت نفسه يجب ان لا يكون ذلك التصدي لصالح التطرف والارهاب، لان ذلك تأسيس لحالة لا تقل خطرا لمواجهة مستقبلية مع القوي الاستئصالية التي لا تفرق بين الامريكي وغيره ممن يختلف معها فكريا او مذهبيا. ولا يوجد لدي النخب العربية ارادة التغيير الذاتية التي تخاطب العقل العراقي وتستحثه لمواجهة الاحتلال. وهكذا الامر مع الفلسطيني الذي لا يجد من النخب المثقفة الا الخطابات البليغة، بينما يفرض عليه ان يتلقي حمم العدوان الصهيوني بدون توقف. فرغم المجازر التي تتعرض لها غزة والجرائم ضد الانسانية التي ترتكب بحق مواطنيها، لا تتصدي النخب المثقفة لتحريك الشارع العربي لكي يتبني مقاومة التطبيع علي كافة الصعد، واعلان التضامن بالمسيرات والاضرابات المتواصلة. ان الفكر النخبوي الذي لا يدعو الي التغيير المستمر لا يمكن وصفه بالتقدمي، بل قد يتحول الي وسيلة تخدير لصالح الاستبداد. ان الفكر من اهم وسائل التغيير، ويسجل التاريخ ان الثورات الكبري سبقها وتزامن معها زخم فكري وثقافي واسع. هذا ما حدث قبيل الثورات الفرنسية والبلشفية والايرانية. فقد لمعت اسماء عديدة تنظر للتغيير وتكرس قيم الحرية وحقوق الانسان، بشكل ادي الي تعبئة شاملة ساهمت ايجابيا في التغيير.

ما الذي عملته القوي الاستعمارية لاحتواء ارادة المثقف العربي؟ ثمة سياسات غير قليلة انبثقت عن عقلية الاحتلال والاستعمار اصبحت تتحدي ذكاء النخب العربية وفطنتها، بل وتسعي لاحتوائها وتخديرها ما أمكن. ومن بنود الاستراتيجية الاستعمارية لاحتواء تلك النخب ما يلي:

اولا: ان الغرب تبني مقولة حقوق الانسان خصوصا في العشرين عاما الاخيرة، ولكنه استعملها كوسائل ضغط علي الانظمة غير الصديقة للغرب، واداة تنفيس مع الانظمة الصديقة. فالمواطن العربي يتعرض للقمع السلطوي والتعذيب والقتل خارج القانون والابعاد القسري، ومع ذلك ترفض الحكومات الغربية اعتبار قضايا حقوق الانسان اولوية في التعاطي مع الدول العربية، خصوصا النفطية منها. بل ان بعضها ذهب ابعد من ذلك، ومارس تقديم الرشاوي بشكل رسمي لبعض مسؤولي تلك الدول من اجل الفوز بصفقات تسلح عملاقة. فأين المفهوم؟ وأين التطبيق؟ وكيف يبرر هؤلاء لانفسهم خداع الرأي العام متغافلين عن معاناة المظلومين في اقبية السجون والزنزانات. والأنكي من ذلك ان بعض هذه الحكومات ما يزال يمد هذه الانظمة القمعية بالخبرات الامنية لقمع العناصر الفاعلة، ويتصدي للدفاع عنها في المحافل الدولية عندما تتعرض لانتقادات حول سجلاتها في مجال حقوق الانسان.

ثانيا: رغم ما يقال عن الحماس الغربي لترويج الديمقراطية، فانه يصادر جوهر المفهوم ويكتفي بالترويج للتسميات الجوفاء. فالديمقراطية التي يروجها الغرب في العالم العربي، تختصر بوجود انتخابات لمجالس صورية بدون سلطة او صلاحية او رقابة حقيقية. انه تشويه متعمد للمطالب الشعبية والتمثيل الحقيقي، مدعوم بالقوة العسكرية والسياسية الغربية والاعلامية.

ثالثا: التنمية اصبحت عنوانا بلا مضمون، فأية تنمية هذه التي يتم الحديث عنها خصوصا في الدول النفطية؟ فهل بناء ناطحات السحاب مصداق للتنمية؟ في الوقت الذي تعاني منه هذه الدول من شحة المياه وتتلاشي فيها المهارات الوطنية، وتستشري في اوساطها الامراض الاجتماعية والتناقضات الطبقية. فأين البحث العلمي في الامراض المحلية او مصادر الطاقة البديلة كالطاقة الشمسية، او البحث عن مصادر مائية بديلة؟

رابعا: يلاحظ بوضوح ان الانظمة اصبحت تمارس اساليب احتواء المفكرين والكتاب، وهو من أسوأ اساليب القمع. فلم تعد هناك اليوم نخب مثقفة تلتزم باجندة اصلاح مبدئية تدافع عن كرامة الفرد، وتحد من سلطة الحاكم، وتؤسس لمفاهيم الشراكة والمواطنة المتساوية، والتكامل القومي، والحفاظ علي الهوية المشتركة للامة. بل اصبح قطاع كبير من هؤلاء المثقفين يبحث عن الراحة المالية والوجاهة الوهمية، بعد ان يضرب في صميم قناعاته، ويصبح مطالبا بالانحناء امام التافهين من البشر.

خامسا: من اساليب الهيمنة الغربية علي العالم العربي استبدال بعض الوجوه بأخري مع الحفاظ علي هذه الانظمة بدون تغيير او تطوير. ففي دول الخليج، كثيرا ما قيل عن استلام العناصر الشابة مقاليد الحكم، ولكن هل كان هناك تغيير حقيقي؟

سادسا: ان واحدا من اهم وسائل ضرب العمل النخبوي منح المعارضين لجوءا في العواصم الغربية، بعيدا عن القمع السلطوي في بلدانهم. ولكن ما جدوي ذلك اللجوء اذا كان سيطلق الجسد من الأسر والسجن، ويسجن الروح والعقل والفكر في ظل انظمة تراقب النشطاء وتحصي عليهم انفاسهم حتي يفقدوا مبررات وجودهم كلاجئين؟ ولذلك اصبح اللجوء مقبرة للعمل الوطني الفاعل، ونهاية للعطاء الفكري والتأثير الجماهيري للعناصر القيادية.

ان هناك بدون شك ازمة خطيرة في اوساط النخب المثقفة في العالم العربي، وهي ازمة متواصلة مع استمرار القمع وتوفر المال، خصوصا الدولار النفطي، وما دامت الازمة مستمرة، فمن الصعب استشراف مستقبل واعد بالحرية والتقدم والنماء.

كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى