صفحات سوريةموفق نيربية

أربعون عاماً منذ 1968 والأزمنة تتغيّر من جديد

null

موفق نيربية

هنالك دلالات للذكرى دائماً، يعرف ذلك المتعمّقون في علم النفس على الأقل، ويبدو أن الأمر ينطبق على الذكرى الأربعين لثورة شباب العالم في عام 1968، مع أنها ليست «يوبيلاً» من أي نوع، رغم ذلك، منذ عامين يهتم باحثون متفرّقون هنا وهناك بالحدث ومراجعته، ووجدوا عنواناً لنشاطهم في التركيز على مناسبة مرور هذه الجملة من الأعوام عليه، فلا بدّ أن هنالك ما يبعثه ويحييه.

إن الطريق العام للإنسانية يزداد انسداداً، ويتبلور استعصاؤه، كما حدث في تلك الأعوام. ويلاحظ عند الآخرين وعندنا، أن متوسّط أعمار المتسّلطين «في السلطات والمعارضة والنخبة الثقافية» يُقارب الستين، فهم إذن كانوا شباب تلك الفورة. في الوقت نفسه، يبدو أنّ هنالك «لا» عميقة تتشكّل بين الشباب، واضحة النبرة، غائمة المضمون مثل تلك القديمة، توجد «غربة» بين الشباب والآخرين، و«لامبالاة»، واهتمامات متباعدة بين الأجيال، و«احتقار» أحياناً، و«سخرية» في الانتقاد، وإصرار على أن الكبار «لا يعرفون» الحقيقة، وفقر وتهميش وبطالة وحرمان من «ديموقراطية التعليم»، ومظاهر «هيمنة» متعدّدة الأشكال زائدة الفظاظة.

عانت شعوبنا العربية حرماناً مختلفاً آنذاك، حيث استطاعت إسرائيل اختطاف شبابنا كما قال سعدالله ونوس على فراش الموت. وفي الهزيمة الساحقة التي ذقناها في يونيو، في العام السابق على 1968، راحت عقولنا وحركتنا في الاتجاه القومي، لتستنفد إمكانات «الثورة» في معظمها على درب التحرير.

وهذا طبيعي، فالهزيمة الأميركية في فيتنام أدت دوراً كبيراً في «نقف البيضة» غرباً منذ 1964، ولكن باتّجاه مختلف، يستهدف رفض الحرب ووقفها، وظلّ هذا المطلب في صلب مطالب الشباب المتظاهرين في أكثر من زمان ومكان. كنّا «فيتناميين»، وهذا موقعنا في العالم الثالث، في ميدان «حركة التحرر الوطني»، فلا نستطيع أن نقول «لا للحرب»، على طريقتهم. كنّا موضوعاً لهم، ولسنا جزءاً منهم، بل هنالك مثقفون غربيون كُثْر جاؤوا إلى منطقتنا التحاقاً بالنضال ضدّ الطبقات السائدة في بلادهم، المؤيدة لإسرائيل بالطبع. كان بعضهم من الأكثر والأعقد رفضاً من الناحية الاجتماعية، من مثل جان جينيه مثلاً.

في هذه الأيام، أصبح ما هو قوميّ بحاجة إلى زخم أكبر حتى يجرّ الشباب وراءه خارج مفاهيم الفرد والمواطن والحقوق والحريات، واحتاج إلى جرعة من التديّن، لا تلعب إلاّ في حقل «الجهاد»، ويبدو أن هذا الوضع قد بلغ أزمته العملية، لأن سرعته وحميّته جعلته يتجاوز إشارة نهاية السباق، وينسى ما كان في صدده، فعادت أجواء الخيبة والغربة والإحباط والتهميش وأزمة الحرية والتعلّم والعمل، لتكون هي الغالبة. أصبحت الآفاق أشدّ وضوحاً، وانسداداً.

وهذا أكثر تفاعلاً مع حالة شباب العالم هذه المرة، فالجميع يشعرون بالتناقض مع السلطة والفئات السائدة، في حين يمتلكون الآن أسلحة تتحكّم بالعالم القادم، من المعرفة والمعلوماتية ونظم الإدارة واللغة المختلفة، وغدا التحوّل في البنية الاجتماعية والطبقية والسياسية والمعرفية لمصلحة انقسام الأجيال من جديد، يُضاف إلى ذلك تحوّل الشباب في قسم من العالم إلى مشروع مهاجرين، أو مهاجرين فعليين في قسمه الآخر، لتظهر مظاهر جديدة من الاغتراب والهامشية.

فليس تحية لتلك الأيام من شبابنا وحسب، وليست مجرّد نوستالجيا لازمة لأرواحنا في السرّ أحياناً، بل لأن هنالك أشباحاً تجول حولنا بازدحام الآن، نتذكّر، وأجرؤ على استعادة نصّ أغنية لبوب ديلان منذ عام 1964 اسمها «لأن الأزمنة توشك على التغيّر»، بنصّها الكامل، وليكن ما يكون:

«اجتمعوا إليّ أيّها الناس/ أينما كنتم تجوبون/ واعترفوا بأن المياه/ من حولكم قد ارتفعت/ واقبلوا أنكم قريباً/ سوف تتبلّلون حتى عظامكم/ إذا كان زمنكم برأيكم/ يستحق إنقاذه/ فمن الأفضل أن تشرعوا بالسباحة/ وإلاّ فإنكم سوف تغرقون كصخرة/ لأن الأزمنة إلى تغيّر.

هلمّوا أيّها الكتّاب والنقاد/ الذين تتنبؤون بأقلامكم/ وافتحوا أعينكم جيداً/ لن تأتي الفرصة ثانيةً/ ولا تتكلموا قبل الأوان/ لأن الدولاب مازال يدور/ ولا نعرف على من سيتوقّف/ لأن الخاسر الآن/ سوف يربح لاحقاً/ لأن الأزمنة إلى تغيّر.

هلمّوا أيّها الشيوخ والنوّاب/ رجاءً لبّوا النداء/ لا تقفوا في الممر/لا تسدوا طريق القاعة/ لأن من يصيبه الأذى/سيكون ذلك الذي أجل وأخر/ فهنالك معركة في الخارج/ وهي تغلي وتثور/ وقريباً سوف تهزّ نوافذكم/ وترجّ جدرانكم/ لأن الأزمنة إلى تغيّر.

هلمّوا أيتها الأمهات وأيّها الآباء/ من أنحاء الأرض/ ولا تنتقدوا/ ما لا تستطيعون فهمه/ فأبناؤكم وبناتكم/ خارج نطاق قيادتكم/ ودربكم القديم/ يشيخ بسرعة كبيرة/ فرجاءً غادروا الدرب الجديد/ ما لم تستطيعوا مدّ أيديكم بالعون/ لأنّ الأزمنة إلى تغيّر…».

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى