اسرائيلقضية فلسطين

… لكن مَن الذي يأبه للقدس؟

نهلة الشهال
العقل العربي ليس غريباً فحسب، بل مثير! فهو انتقل من وضعية رفض الاعتراف بالهزائم (حتى سميت هزيمة 1967 بـ»النكسة»)، إلى التسليم بها قبل وقوعها، بل تقبلها والاستكانة إلى حتميتها. لعلهما وجهين لحالة واحدة. سيخرج الملايين حتماً اذا انهار المسجد الأقصى، هو وقبته المذهبة، صارخين بغضب «الموت لليهود»، كما حدث في المظاهـرات العربية أثناء العدوان على غزة. لكن ما يجري أسفل المسجد وحوله قائم منذ سنوات، ومن النفاق ادعاء المفاجأة.
وستُفــرغ القدس من ساكنيها، المسلمين والمسيحيين. قلب القدس القديمة مهدد بالفعل بالخلو قريباً من أي فلسطيني. ونروح نتفجع على هؤلاء المقتلعين الجدد، وعلى ضياع معالم تراثية مهمة، وعلى التزوير اللاحق بالتاريخ والجغرافيا والاجتماع البشري. مع أن عملية تهويد القدس كما يسمونها، تجري بلا توقف، من زمان، وقبل وصول حكومة نتانياهو ومكوناتها «المتطرفة». وتتدخل في دعمها وتسريع وتائرها منظمات صهيونية من العالم اجمع، توفر الأموال اللازمة والمستوطنين: بلغ عددهم داخل المدينة القديمة ستة آلاف، وهو إلى تزايد. نتكلم عن قلب القدس، عن حي الشيخ جراح مثلا، حيث حدثت مجابهات عنيفة، إذ تتمثل الخطة الإسرائيلية بطرد السكان بوسائل شتى، بما فيها إغراء الناس بالبيع مقابل مبالغ هائلة (وصلت العروض على سعر المتر الربع الواحد في حي الشيخ جراح إلى…600 ألف دولار). هذا عندما لا تنجح، لسبب ما، قرارات المصادرة بالقوة، أو الهدم بحجة وجود مخالفة في البناء، أو لدواعي مخطط تجميل المدينة.
وهذا، تمييزاً عن «محيط القدس»، اي ما يجري حول البوابات، وفي أحياء سلوان وحوش مشعل وبيت حنينا… حيث تسير كمحدلة خطة بناء «الحدائق التلمودية» التسع، بدعاوى أساطير كتلك التي تروي قصصا عن مكان محدد في سلوان استحم فيه النبي داوود! وترافق المنتزهات جسور وأنفاق وطرق، فلا يتبقى شيء لا تمسه المصادرة. بل افتتحت منذ أيام في باحة الكنيست الإسرائيلي حديقة عرض فيها أكثر من خمسين حجراً أثرياً استخرجت من الحفريات الجارية أسفل المسجد الأقصى وبعض النقاط الأخرى في المدينة، بدعوى أنها جزء من أحجار «الهيكل»!
أما ما هو متحرر من الروايات الميثولوجية والمبررات الدينية، ما هو سياسي «مودرن»، فلا يعرف هو الآخر حدوداً. فوزير الداخلية الإسرائيلي، إيلي يشاي (وهو من حركة شاس) (ولو أن الفروقات الإيديولوجية تلعب دوراً هامشياً للغاية في هذه التطورات ينحصر على الأغلب في طريقة الإخراج) قرر الموافقة على توصية اللجان العائدة لوزارته بمصادرة 12 ألف دونم جديد من الأراضي الفلسطينية في محيط القدس لضم مستوطنة «كيدار» إلى مستوطنة «معالي أدوميم» الهائلة الحجم (وصلهما فعلياً) وانجاز قسمة الضفة الغربية إلى جزءين بلا تواصل ممكن، إذ تقطعهما تماما هذه الكتلة الممتدة، كما هي تعزل تماماً، بفعل إحاطتها بالقدس وبفعل اكتمال جدار الفصل، المدينة عن الضفة الغربية. قال يشاي انه سيأخذ في الاعتبار مصلحة «السكان» فحسب، أي المستوطنين، ولا تهمه ردود الفعل الدولية. سيؤدي التوسيع إلى بناء ستة آلاف وحدة سكنية جديدة في هذه المستوطنة وحدها، وعشرين ألف وحدة في مستوطنة جديدة جنوبي القدس، (هذا عدا التوسيع الفظيع الذي جرى في السنوات العشر الماضية خصوصاً لمستوطنات الضفة الغربية، من أقصاها إلى أقصاها، وعدا مشكلة الاستيطان في مدينة الخليل. فنحن هنا نتكلم عن القدس ومحيطها).
يزور نتانياهو واشنطن، مدافعاً عن استمرار إسرائيل في توفير شروط «النمو الطبيعي» للمستوطنات… فطالما هي جملٌ تقال، فما أسهل الأمر! وعلى فرض أن باراك أوباما لن يُخدع بالكلام المنمق، فليس وضع القدس نقطة التفارق الوحيدة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي. وبانتظار أن يتبلور الاختلاف ويتحول إلى ضغوط، تستمر المستوطنات في «النمو»، والجدار في التشييد، ومصادرة الأراضي وطرد السكان الفلسطينيين في التزايد.
يبلغ عدد المقدسيين المهددين بالطرد خلال الأسابيع القادمة ستين ألفاً على الأقل، من أصل حوالى مئتي ألف، ما إن يغادر أحدهم المدينة لمدة سنتين حتى تسحب منه إقامته ويصبح ممنوعا من دخولها. مائتا ألف يتعرضون يومياً لكل صنوف القهر والتضييق والضغوط، فيغادر بعضهم «طوعاً»، بسبب الإنهاك وانسداد الآفاق. يقول مكتب تنسيق النشاطات الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) إن إسرائيل تمارس «جريمة تطهير عرقي» في القدس، كما تندد منظمات حقوقية دولية بكل أوجه هذا الذي يجري، والذي يخالف بالطبع القوانين الدولية واتفاقات جنيف والقرارات المتخذة في الأمم المتحدة بخصوص فلسطين. ولكن لجنة القدس المنبثقة من المؤتمر الإسلامي لم تتحرك كثيراً. لعلها أصدرت بياناً لم يأبه له أحد… كما لم يأبه احد لتصريحات المسؤولين الفلسطينيين «المنددة»، فهي من قبيل الواجب، خالية من الحماسة التي تصاحب مثلاً التصريحات العنيفة والحركة المستميتة والمخططات الدقيقة المتعلقة جميعها بمن يستولي على «السلطة».
وهذا علماً أن تحقيق انجاز في مسألة القدس متيسر، بخلاف إمكان ذلك بالنسبة لأي بند من بنود العملية السلمية، التي ماتت دون أن تدفن. ذلك أن المعركة حول القدس تخص البشرية كلها بحكم مكانة المدينة وقيمتها الرمزية والدينية. وهي معركة تحرج أي حكومة في العالم مهما كانت منحازة إلى إسرائيل. ثم إن قوة الحجة الدولية تقف ضد تل أبيب بالكامل. ولكن ينقص كل ذلك من يخوض المعركة. فتلك، وليس سواها، هي المسألة.
تقول ألسنة السوء إن الاستنكاف عن إثارة ما يجري في القدس جزء من ترتيبات تسهيل عودة الحياة إلى «العملية السلمية»، فبحسم مسالة القدس الشائكة منها، بحكم الأمر الواقع المنجز على الأرض، مما يسقط باليد، كما بترتيبات جانبية أو سرية تدور حول مسألة اللاجئين، وأخرى تخص تبادل الأراضي لتتخفف إسرائيل من المثلث ذي الكثافة السكانية العربية العالية، مقابل… ضم مستوطنات الضفة الغربية إليها! شخصياً، أفضل هذه الرواية على فرضية البلادة والعجز فحسب، فالاصطفاف فيها واضح على الأقل.

ولا يمنع هذا أو ذاك من الإقرار بأن… القدس يتيمة!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى