صفحات العالم

المبادرة السعودية .. كامب ديفيد كبرى ؟!

سمير كرم
في غفلة من الشعوب العربية قد تتحول المبادرة السعودية ـ التي اكتسبت صفة قومية بتسميتها مبادرة عربية ـ الى كامب ديفيد كبرى.
في غفلة لانه كان المفروض ـ قانونيا على الاقل ـ ان تطرح هذه المبادرة، قبل ان تعرض على اسرائيل، على استفتاء قومي على نطاق الامة العربية من المحيط الى الخليج. وليس هذا مطلبا مستحيل التنفيذ، ولكنه مطلب ديموقراطي.. ومن هنا صعوبته(…)
ولكن المصيبة اكبر من ذلك.
المصيبة ان المبادرة السعودية اخذت تكتسب مشروعية ليست لها فلسطينيا ولا عربيا. فالحكام العرب اصبحوا مصرين على عرضها على اسرائيل كلما التقوا معا منقسمين او متصالحين … حتى وان حرصوا على ان يرفقوا عرضها على اسرائيل ـ وعلى اميركا بطبيعة الامر ـ بتأكيد يفقد معناه كلما تكرر، وقد تكرر عشرات المرات، وهو التأكيد بأن هذه المبادرة ليست قائمة الى الابد، لن تبقى الى ما لا نهاية.
لقد اصبحت الغالبية الساحقة من النظم العربية تتعامل مع المبادرة السعودية وكأنها اتفاقية موقعة بالفعل وتستوجب النضال لتنفيذها. اذ من الواضح ـ على الرغم من التأكيد المتكرر المذكور ـ ان اصحابها الاصليين يدركون انهم لا يملكون الجرأة لسحبها. والدلائل كثيرة على ان العرب ـ بقيادة المعتدلين ـ اصبحوا يتعاملون مع هذه المبادرة وكأنها اتفاق ملزم، لا يقل في الزامه عن الزام «كامب ديفيد» بالنسبة لمصر … اي تكبيلها بأغلال وجود اسرائيل ومصالحها واستراتيجيتها وامنها وسياساتها… وممارساتها، بما في ذلك جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.
والملاحظ ان الحكام العرب لم يلاحظوا حتى الآن ـ او هم يؤثرون التغافل (وهذا فعل غير متعمد) او الاستغفال .. وهذا فعل متعمد، التعدي فيه على الشعوب ـ ان مواقفهم وسياساتهم العملية اصبحت في مستوى ادنى بكثير من مستوى مواقف وسياسات القوى الاميركية والاوروبية وحتى الاسرائيلية المؤيدة للشعب الفلسطيني وحقوقه والتي تنتقد السياسات الاسرائيلية وانعكاساتها الخطيرة على الواقع الفلسطيني والانساني.
نعم وصل الامر الى هذا الحد … ولكن الحكام العرب يظنون ان مواصلة اللغو الاجوف عن تأييدهم للقضية الفلسطينية هو جزء لا ينفصل عن سياساتهم وقراراتهم، هو امر كفيل بالتغطية على تدني سياساتهم الى حد السكوت عن جرائم اسرائيل، وتراجعها الى مواقع تخطتها القوى والتنظيمات اليسارية الاميركية والاوروبية والاسرائيلية المناهضة للصهيونية ولإسرائيل.
بنوع خاص فإن النظام المصري «كثير الكلام» في تأييد الشعب الفلسطيني وقضيته … على الرغم من سلبيته القصوى في الافعال التي قادته الى مقاطعة قمة عربية عقدت في اكثر الاوضاع والاوقات حرجا وحساسية في ما يتعلق بهذه القضية دون ان يرف له جفن، مؤكدا ان هذه المقاطعة كانت «اقوى في بلاغتها من الحضور»… تعبيرا عن تأييده للقضية الفلسطينية. هذا تعبير استخدمته «الصحافة القومية» (اي صحافة النظام الحاكم) ويمكن ان يكافئها النظام على هذا التعبير ولكنه يبقى تعبيرا خاويا من المعنى ومن البلاغة ومن الحضور، شأنه شأن مقاطعة النظام المصري للقمة.
ولا يختلف عن هذا في شيء موقف القاهرة الرسمية من حكومة نتانياهو الاسرائيلية الجديدة، التي ضمت افيغدور ليبرمان زعيم تطرف التطرف اليميني الاسرائيلي وصاحب التعليقات البذيئة عن مصر وعن فلسطين وعن العرب وعن محاولات السلام. فهو ـ اي موقف القاهرة – يتسم بازدواجية عجيبة. الجانب الكلامي يقول اشياء والجانب العملي الفعلي يقول نقيضها. لا تزال القاهرة الرسمية ـ في تصريحات وزير خارجيتها ابو الغيط وفي عناوين الصحف الحكومية وافتتاحياتها ـ تلتزم الحذر في اقصاه وتتعامل مع صعود المتطرفين الصهاينة الى السلطة باعتباره شأنا داخليا لا تستطيع ان تخوض فيه … بعضها يدعو الى اعتذار من ليبرمان عن تصريحاته الوقحة قبل ان يتولى مسؤولية الدبلوماسية الاسرائيلية، وبعضها يدعو الى النسيان، ما فات قد مات.
صحيفة الحكم القاهرية الاولى (الاهرام لا غيرها) حملت عنوانين لتولي حكومة نتانياهو ـ ليبرمان: الاول ـ حكومة نتانياهو تستهل عملها برفض الدولة الفلسطينية، والعنوان الثاني (تحته مباشرة) ليبرمان: مصر شريك مهم ولن ننسحب من الجولان. وكأنها تعتبر هذا اعتذارا من ليبرمان لمصر حتى وإن كان في اطار رفض الحكومة الصهيونية المتطرفة للهدف الوطني الاهم للفلسطينيين والهدف الوطني الاهم للسوريين. وبين اظهار هذا الاهتمام بتقدير المتطرف ليبرمان لدور مصر كشريك مهم. وكأن تقدير ليبرمان لمصر يستحق ان يؤخذ في الاعتبار او ان يعد ذا وزن وسط هذه المواقف الرسمية لحكومة نتانياهو ـ ليبرمان (…)
ابو الغيط الذي يمكن اعتباره صاحب لقب اكثر الوزراء كلاما في الاشهر الاخيرة حذّر في القاهرة (3/4/2009) من ان اليمين المتطرف الاسرائيلي يستغل الفرقة بين الفلسطينيين … لكنه لم يقترب من استغلال اليمين المتطرف الاسرائيلي سياسات مصر المناهضة لحماس والمقاومة اجمالا، وإزاء غزة والمعابر وإزاء اسرائيل، وكلها سياسات لم تثر غضبا في اسرائيل حتى من جانب المتطرفين والاكثر تطرفا.
بل الملاحظ ان حدود المسموح به لدى القاهرة الرسمية تتفاوت كثيرا اذا كان المقصود هو اسرائيل والمسؤولين الاسرائيليين بمن فيهم اكثرهم تطرفا، او كان المقصود هو الفلسطينيين، من كان من فريق السلطة (الاعتدال) او من فريق المقاومة، او كان المقصود هم المصريين كما تعبر عنهم تيارات المعارضة. فالقاهرة الرسمية تسمح بمجال واسع للاسرائيليين ليتبجحوا ويتواقحوا ما شاءت لهم غطرستهم، سواء كان ذلك في شأن يخص مصر او يخص فلسطين او يخص الرأي العام العربي المناهض ـ خاصة في مصر ـ للصهيونية واسرائيل وكامب ديفيد والتطبيع.
والقاهرة الرسمية تسمح بمجال اضيق من ذلك كثيرا للفلسطينيين، اذا كانوا يتناولون شأنا فلسطينيا او ما تعتبره شأنا مصريا او اسرائيليا. وقد كانت حرب اسرائيل على غزة بمثابة اختبار لمساحة المسموح من مصر الرسمية للفلسطينيين المقاومين، وكان اوضح ما قالته بحقهم انهم «لم يسمعوا تحذيرات مصر عن نوايا اسرائيل».
والقاهرة الرسمية لا تكاد تسمح بمساحة تتيح التنفس لمعارضة مصرية لسياساتها تجاه القضية الفلسطينية وتجاه المقاومة… وتجاه اسرائيل.
وقد اتضحت علاقة هذه الممارسات وتلك الاقوال بقدسية «كامب ديفيد» لدى السلطة المصرية الحاكمة عندما حلت الذكرى الثلاثون لهذه المعاهدة التي لم تستطع الاعوام الثلاثون ان توقف تأجج المعارضة الشعبية المصرية ضدها. فقد آثرت السلطة الحاكمة ان لا تقيم احتفالات بالمناسبة في القاهرة… لكنها شاركت «بنفس مفتوحة» في احتفالات تل ابيب بهذه الذكرى. وهي بهذا وفرت على الامن المركزي ـ على الاقل ـ جهودا مضنية كان لا بد ان يبذلها للتصدي لمظاهرات المعارضة الاحتجاجية ضد اي احتفال بذكرى كامب ديفيد. ولا حاجة للتأكيد ان عدم الاحتفال في مصر كان حدثا فرضته الارادة الشعبية المصرية. كما لا حاجة للتأكيد بأن غياب الاحتفال بالذكرى الكامب ديفيدية في مصر قوبل بارتياح شديد من جانب المصريين في اغلبيتهم العظمى. اما المشاركة الرسمية المصرية في الاحتفال ـ بعيدا هناك في تل ابيب ـ فإنه عومل من جانب الجماهير المصرية بازدراء واستهزاء … انما ايضا باكتفاء بمكسب منع السلطات من ان تحتفل داخل مصر(…)
الخطر ـ كل الخطر الآن ـ ان تتحول المبادرة السعودية، او ان تسفر عن، كامب ديفيد اخرى، تكون لها القدسية التي لكامب ديفيد الثلاثينية فتكون ملزمة للاطراف العربية وغير ملزمة الا في الحد الادنى للطرف الاسرائيلي. تكون مصالحة المصالحات… وساعتها قد تصبح اسرائيل المتصالحة بها مع العرب هي الوسيط الاول بين العرب غير المتصالحين. شيء شبيه بالدور الذي تقوم به مصر منذ التوقيع على كامب ديفيد للوساطة بين اسرائيل وأطراف عربية.
لكن، أليس مستبعدا ـ في الظروف الراهنة على الاقل، وعلى رأسها صعود تطرف التطرف الاسرائيلي الى السلطة في اسرائيل ـ ان توافق اسرائيل على هذه المبادرة؟ الا تبدو اسرائيل اشد عنادا مع ادارة الرئيس الاميركي اوباما من ان تمنحه مثل هذا المكسب على صحن ذهبي؟
ان الاحتمال قائم بأن تقرر اسرائيل ان الوقت اكثر ملاءمة من ان تضيّع فرصة الاقتراب الى المبادرة السعودية، تناقشها وتطلب تغييرا هنا وتعديلا هناك، اضافة الى هذا الجانب وإزالة في ذاك وانها بهذا تربح اكثر مما تخسر تأييدا مطلقا من واشنطن، وتربح تنازلات يبدو الحكام العرب اكثر استعدادا لتقديمها مما كانوا في اي وقت مضى. اليس هذا ما يسعى اليه اليمين المتطرف الاسرائيلي ليثبت انه الاقدر على تحقيق مكاسب السلام مع العرب؟
ثم – وعلى طريقة كامب ديفيد التي تحمل توقيع الارهابي «التاريخي» مناحم بيغن ـ فإن نيات اسرائيل المبيتة لن تتضمن الزام نفسها بكل ما توقع عليه. انها سمة اساسية في اتفاقات اسرائيل مع العرب كأعداء ومع الاميركيين كأصدقاء وحلفاء.
وعلينا ان نتذكر جيدا الموقف الاميركي، وكيف سيكون ضاغطا بالاتجاه الاسرائيلي. سيكتفي من اسرائيل بمجرد القبول المبدئي لاتخاذ المبادرة السعودية اساسا للتفاوض، ليدعم بعد ذلك اي طلب بالتغيير والتعديل من اسرائيل. وعلينا ان نتذكر جيدا ـ وهذا أهم ـ كيف ستكون الاستجابة العربية الرسمية للضغط الاميركي. ان ما يخشاه الحاكم العربي ـ باستثناء قلة معدودة ـ هو ان يبدو للاميركي سلبيا حيث تكون اسرائيل قد اثبتت ما يكفي من حسن النية بهذا القبول المشروط. ستخشى الاطراف العربية الرسمية ان تظهر امام اميركا غير متعاونة او «رافضة». وستجد الاطراف العربية الرسمية ذريعة لها في ان كامب ديفيد وقعت حينما كان للولايات المتحدة منافس مؤيد للعرب قادر على تحدي الارادة الاميركية… فما بالنا والولايات المتحدة هي اليوم بلا منافس تتربع على عرش الدولة الاعظم وحدها.
اغلب الظن ان الاطراف العربية ستكون اكثر من مستعدة لانجاح مبادرتها حتى بعد ان يتم تحميلها بالشروط الاسرائيلية.
[[[
ينبغي إذاً ان لا نستسلم لهذا الاقتناع شبه الغيبي بأن المبادرة السعودية ليست على جدول اعمال حكومة نتانياهو ـ ليبرمان. بل ينبغي ان لا يستبعد احتمال ان تكون الدبلوماسية المصرية نشطة في مجال التوسط لتمرير المبادرة وتمرير الشروط الاسرائيلية حينما يأتي وقت فرض هذه الشروط.
واذا قدّرت اسرائيل ـ تحت حكم التطرف الاقصى ـ انها يمكن ان تحصل على كامب ديفيد اوسع نطاقا او اشمل، فإنها ستقرر فتح الباب في ظروف بلغ فيها الاندفاع العربي الرسمي نحوه اقصى مداه.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى