صفحات سورية

ردّ على الردّ

null
الياس خوري
أعادني رد عصام خليفة المنشور في العدد الفائت من “الملحق”، الى مناخات ايام الدراسة في كلية التربية، حيث كانت المناقشات الصاخبة تمتزج بأحلام التغيير، وبراءة الشباب تصطدم بالواقع اللبناني المريض بالطائفية. وما قاله خليفة صحيح، فتلك التجربة الطالبية علّمتنا اولوية النضال من اجل الحرية والديموقراطية، على رغم الخلافات الفكرية، وجعلتنا نحافظ على الود والاحترام في ما بيننا.
لذا سأبدأ ردّي بتوجيه تحية الى عصام خليفة ورفاقه في الحركة الثقافية في انطلياس، مشيرا الى انني معجب بتجربة الحركة على المستوى الثقافي والفكري، واعتبرها علامة مضيئة في ثقافتنا اللبنانية.
غير ان العزيز عصام، وهو المؤرخ الحصيف، سقط في هفوة تشبه هفواتنا ايام المناقشات الصاخبة في كلية التربية، حيث كانت المناكفات تقودنا الى الوقوع في اخطاء سببها الانفعال. اذ من غير المنطقي ان يسقط خليفة في تعميمات جاهزة كقوله: “وعلى كل حال، فإن النضال الكلامي من وراء مكاتب الصحافة شيء والنضال الميداني في الجامعة والمجتمع والحوار الهادف مع اصحاب العلاقة شيء آخر”. لا اعتقد ان خليفة نسي ان الكتابة من وراء مكاتب الصحافة، كان ثمنها، في الكثير من الأحيان، دم الكتّاب الاحرار، من شهداء الصحافة في 6 ايار الى الشهيدين سمير قصير وجبران تويني. اعتقد ان عصام كتب هذا الكلام كجزء من مناكفات كافتيريا كلية التربية، ولم يكن يقصد اهانة الكلمة الحرة، لما اعرفه فيه وفي رفاقه في انطلياس من تقدير للكلمة، وتقديس لدورها. وهذا ينسحب ايضا على تعميماته عن حكايتي جونيه واوسلو، التي تحتاج تدقيقا قبل ان تُرمى جزافا.
تجاهل عصام خليفة الرد على الاسئلة التي طرحتها في مقالي، ليقدم مطالعة عن رأيه في العلاقة بين لبنان وسوريا. وهنا قد لا نختلف على الاطلاق. لكنه قفز فوق ملاحظاتي حول المشاركة في مؤتمر نظمته السلطة في سوريا، وغاب عنه الكثير من المثقفين السوريين، لا لأنهم لم يتلقوا دعوة الى الحضور فقط، بل لأنهم في السجون. وهنا لا استطيع ان اخفي دهشتي وحزني لقرار بعض موقّعي “اعلان بيروت – دمشق، إعلان دمشق – بيروت” المشاركة على رغم ان الشريك السوري الرئيسي في هذا الاعلان، اي الكاتب والمناضل الديموقراطي ميشال كيلو ورفاقه، لا يزالون في السجن، بسبب هذا الإعلان بالذات.
ألا يعتقد الاستاذ خليفة، ان هذه المشاركة، حتى ولو تخللها تقديم عريضة لنائبة الرئيس السوري من اجل الافراج عن كيلو، سوف تترك عند اصدقائنا السوريين الكثير من المرارة؟ حتى وإن كان قرار المشاركة قد اتخذ في “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”، وفي حضور احد اهم اعلام الثقافة الديموقراطية في لبنان الاستاذ حبيب صادق، بحسب ما جاء في مقال خليفة.
لكني اعود الى طرح ثلاثة اسئلة جوهرية:
السؤال الأول يتعلق بالشكل. فالمؤتمر لم يكن لقاء بين مثقفي البلدين فقط، بل اتخذ منذ لحظة افتتاحه طابعا رسميا سوريا. اي ان الحوار تم في رعاية النظام السوري وحده، ولم تكن هناك رعاية لبنانية موازية. ألا يعتقد الأستاذ خليفة ان القبول بهذا الشكل التنظيمي يحمل في طياته طعنا لمبدأ العلاقة النديّة بين البلدين، وان هذا التساهل الشكلي، يمس مضمون العلاقة المتكافئة التي نسعى اليها جميعا؟
ما معنى لقاء المثقفين اللبنانيين بالسلطة في سوريا؟ هل يمثلون لبنان؟ ام ان هذا اللقاء يمكن تصنيفه كجزء من لعبة العلاقة التي تنسجها السلطة السورية مع قوى سياسية وقيادات لبنانية بالمفرق، كي تستطيع الهيمنة بالجملة؟
السؤال الثاني يتعلق بالمضمون، وبمبدأ التضامن مع المثقفين السوريين الديموقراطيين، الذين اشتركوا معنا في توقيع الاعلان. هل من المنطقي ان يذهب المثقفون اللبنانيون الى دمشق، للمشاركة في مؤتمر ترعاه السلطة، بينما تزجّ هذه السلطة بالذات بالمثقفين السوريين في السجون؟ كيف نتحدث عن علاقة بين مثقفي البلدين، حين يخضع المثقفون السوريون لأحكام قانون الطوارئ، ويعانون من غياب حرية التعبير والكتابة؟ المسألة لا تنطبق فقط على النظام السوري، بل هي مسألة تنطبق على جميع الأنظمة العربية الاستبدادية. ونحن نشهد اليوم، للأسف الشديد، استفحال الاستبداد وسيادة ثقافة الرقابة والقمع والمنع في العالم العربي. وكي اوضح، فهذا لا علاقة له بالتدخل في الشأن السوري الداخلي، مثلما يعتقد البعض، بل مسألة مركزية في استراتيجيا العمل الثقافي، الذي يحترم رمزية الثقافة ويؤكد دورها السياسي، ولا يزجّ بها في ادوار لا علاقة لها بها، جاعلا منها بديلا من علاقة سياسية تقوم في العادة بين دول مستقلة.
السؤال الثالث وهو الاكثر اهمية، يتصل بعلاقة المثقف بالسلطة، وهنا اود ان اشير الى مغالطة وقع فيها كاتب الرد، فأنا تساءلت في مقالي عن حق المثقف في تقديم غطاء للسلطة، لكنني لم استخدم عبارة الالتحاق بالسلطة، التي ينسبها اليَّ. وهنا اود ان الفت نظره الى ضرورة التدقيق في العبارات، حين نستشهد بمقالات الآخرين. فأنا لم اتهم احدا من المثقفين الديموقراطيين اللبنانيين، الذين شاركوا في المؤتمر، بالالتحاق، وهدفي لم يكن مناقشة الملتحقين، لأن من يلتحق بالسلطة، كل سلطة، يفقد صفته كمثقف. استخدمت كلمة الغطاء في شكل واع، لأنني اعتبرت ان تقديم الغطاء للسلطة كان خطأ يمكن تصحيحه، اما الالتحاق فداء لا علاج له.
يعلم الاستاذ خليفة، وهو المثقف والمناضل النقابي، ان دور الثقافة هو الدفاع عن الحرية ونقد السلطة في الآن نفسه. وان الثقافة لا تستطيع المساومة على دورها هذا، والا سقطت وفقدت صدقيتها ورأسمالها الرمزي. المؤتمر الذي انعقد في ظل السلطة ورعايتها، افقد المشاركين فيه القدرة على القيام بالمهمتين، وخلق سابقة نأمل ان لا تتكرر، وهي قبول المثقفين بالحوار وهم وراء القضبان. مثقف واحد في السجن، يعني ان جميع المثقفين سجناء. ولا تكفي المطالبة بإطلاق سراح كيلو، بل كان يجب ان يكون اطلاق سراح جميع معتقلي الرأي في سوريا شرطا مسبقا للبحث في امكان مشاركة المثقفين اللبنانيين الديموقراطيين.
الجواب عن هذه الاسئلة الثلاثة، سوف يحدد معنى عملنا الثقافي الديموقراطي، وجدوى نضالنا الاستقلالي، ومضمون الفكرة العربية، التي اطلقتها النهضة في لبنان، والتي صارت اليوم مهددة بفعل همجية ملوك الطوائف من جهة، وتحول الاستبداد من نمط حكم الى نمط حياة، من جهة اخرى.
في النهاية، اريد ان اؤكد ان هدف مقالي ليس اتهام احد، ولا خلق مناخ انقسامي في وسط هذه المجموعة النبيلة من المثقفين اللبنانيين الديموقراطيين، بل الدعوة الى عدم تكرار الخطأ، حتى إن ارتكب بنيّة حسنة.
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى