السياسة أولاً . . السياسة آخراً بدأ كلام الإصلاح خجولاً مع صدور قانون الاس
بدأ كلام الإصلاح خجولاً مع صدور قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 في عهد الأسد الأب ، ولم يتعد الحديث حينها أهمية الاستثمار والتعددية الاقتصادية التي تجري في سورية . ومع التعديلات المتعددة التي طرأت على القانون المذكور لجهة تفعيله ، كانت تتواتر أحاديث عن خطوات أكبر مطلوبة في الإصلاح ، ثم توقف كل شيء حتى نهاية العهد .
جدد العهد الجديد عام 2000 حديث الإصلاح ، عبر الشعار الذي طرحه ” مسيرة التطوير والإصلاح ” ، وأنعش الآمال بتقدم ملموس ومشتهى على هذا المسار ، وأغرى الكثيرين لطرح أفكار إصلاحية وتجديدية بل وتغييرية أيضاً ، جاءت عبر الصحافة والمنتديات والمنابر العديدة التي رافقت تلك البداية . تراوحت تلك الطروحات بين الإصلاحات الجزئية المطلوبة ( اقتصادياً وسياسياً ) ، وبين التغيير الديمقراطي الذي تنتظره البلاد وتحتاج إليه . وتجلى ذلك في حراك ربيع دمشق .
غير أن وأد ذلك الربيع باعتقالات 2001 كبح تلك الاندفاعة واستبدل تكتيكات السلطة ( خطاباً سياسياً وممارسة ) بأخرى تشير إلى ازدحام الأوهام وانعدام الأمل . فطرح شعار ” الإصلاح الاقتصادي أولاً ” ، على اعتبار أن تلبية حاجات الناس ومعالجة مشاكلهم يحتل الأولوية . وبدأ صدور سيل من المراسيم والقرارات ، لم تجد منعكساً لها في الحياة العامة أكثر من نشرها في وسائل الإعلام ، حتى ضاق صدر السلطة ذرعاً بافتقاد الجدوى . فعبرت على أكثر من لسان عن تذمرها ، وتحدثت عن المراسيم التي لا تنفذ ، والمسؤولين الذين توليهم المسؤوليات الجديدة ، فيظهرون سوءاً وركاكة وفساداً أكثر من سابقيهم . وازدهرت سوق الشعارات الإصلاحية ، من ” إصلاح القطاع العام ” إلى ” الإدارة بالأهداف ” إلى ” الإصلاح الإداري ” إلى ” اقتصاد السوق الاجتماعي ” . وكانت كلها مشاريع خلبية ، تلمع للحظة ثم تخبو ، وتتكسر على عتبة الواقع الذي يعلن احتياجاته بصوت مرتفع لشيءآخر وباتجاه مختلف .
وفي الوقت الذي عبرت فيه أوساط واسعة من الشعب السوري على لسان المعارضة بمختلف أطيافها عن حاجة البلاد المباشرة والضرورية والراهنة للإصلاح السياسي ، اكتفت السلطة بالدوران حول نفسها وراء الطروحات الاقتصادية ، فاستمر الخواء السياسي في البلاد ، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعاشية للمواطنين أكثر فأكثر . وفي ظل الحظر المفروض على التعبير السياسي عن أزمات البلاد المتعددة ، انتعش التراشق الاقتصادوي بين أطراف السلطة ، تحت شعارات فئوية ضيقة بين دوائر النفوذ والتسلط على قطاع الدولة وأجهزتها ، التي جعلت الدولة ومقدراتها بقرة حلوباً ، تصب في أرصدتها ومنشآتها ومشاريعها ، وبين القوى الصاعدة في السوق ، التي أتخمت ثروة وتتوجه نحو الانفتاح والتحرر من القيود . وبسبب انعدام الرؤية السياسية للفريقين وانغلاق الفضاء السياسي والثقافي للصراع الحر بين الطبقات والأفكار والاتجاهات ، أخفقت السلطة في إنجاز خطة إصلاح عملية ومعقولة من أي نوع ، توقف التدهور ، وتحصن البلاد ضد المخاطر الداخلية والخارجية . وتوفر شروطاً ومناخات منسبة لعملية إصلاح وطني شامل ، يشترك بها الجميع ، وتلاقي جهود المعارضة ونداءاتها من أجل التغيير ، حيث أبدت استعداداً للمشاركة ، وقدمت مبادرات هامة على هذه الطريق .
وخلال السنوات القليلة الماضية ، أدخلت السلطة البلاد في جمادة الاتظار . فلم تسمح بانطلاق أي مسار للإصلاح السياسي ، ولم تستطع تفعيل أي نوع من الإصلاح الاقتصادي ، لانعدام الرؤى السياسية المطلوبة لأي إصلاح وأي اقتصاد . فرجعت البلاد عند نهاية عقد من العهد الجديد كما بدأت ، تنام على أزماتها المتعددة ، وتراوح مكانها بينما العالم يسير ، وتنوس بين الإرادة الضائعة وفقدان المقدرة على الفعل وشق طريق باتجاه سورية المستقبل .
واليوم ، وبتأثير الحوارات الإقليمية والدولية الجارية ، تتردد من جديد نداءات ” الإصلاح الاقتصادي ” وضرورته ، وحتمية ولوج مساره الصعب قبل فوات الأوان . كما يجري الحديث عرضاً وبشكل خجول عن خطوات في ” الإصلاح السياسي ” مطلوبة وهامة . فخلال الفترة المنصرمة ، كانت السلطة تصطدم بالحضور السياسي بقوة في أس الأزمات والحلول كيفما توجهت .
وبغض النظر عن الصدقية المثلومة للسلطة ، وإخفاقها في اجتياز اختبارات عديدة سابقة على هذا الصعيد ، فهي تجدد نغمات قديمة ، وتعيد الدروس المعادة . كأن الزمن لا قيمة له ولا دور في عمليات الإصلاح وتطور الحياة . ومع أن حاجة البلاد اللاهفة وأزماتها العميقة المستحكمة لم تعد تسمح باختبار الوعود ، إلا أن شعبنا لن يتعب من طرح رؤيته وأولوياته . ويكمن أساسها في حقه بالمشاركة الفاعلة في تدبير شؤون حياته ومستقبله . وهذا لا يتم إلا من خلال السياسة و ” الإصلاح السياسي ” .
ومهما اجتهدت السلطة في إبداع التفافات حول جوهر ما تعانيه ويعانيه الشعب والوطن ، وحاولت أن تحجب الشمس بغربال ، فإن ما تقوله الوقائع وتجاربها بحياة شعبنا وفي غير مكان من العالم ساطع ولا يقبل التأويل : لا بد من الإصلاح السياسي ، وإن طال الأمد وامتدت المكابرة .
12 / 5 / 2009
موقع الرأي هيئة تحرير