صفحات سورية

بين المشاريع الثلاثة: الإيراني، التركي، الإسرائيلي، الصراع على سوريـا

null


مصطفى اللباد

عادت سوريا إلى بؤرة المشهد الإقليمي من جديد بعد زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لدمشق حاملاً في جعبته عرضاً إسرائيلياً بالانسحاب من هضبة الجولان، مقابل توقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية. وهكذا لم يعد أردوغان في زيارة اعتيادية للمشرق العربي،
بل دشن فعلياً أول انخراط جدي لأنقرة في الصراع العربي-الإسرائيلي، وذلك على أثر انكشاف أمر الوساطة التي تقودها تركيا منذ شهور بين كل من تل أبيب ودمشق.

تفتح الزيارة الباب أمام احتمالات وسيناريوات مخالفة لما تبدو عليه الصورة في المنطقة الآن، ومرد ذلك أن دمشق تعد بموقعها الجغرافي الفريد مفتاحاً رئيساً للنفاذ إلى معادلات المشرق العربي. وتجسد زيارة المسؤول التركي الرفيع المستوى لسوريا الصراع الدائر حالياً على معادلات النفوذ والقوة في الشرق الأوسط بين المشروعات الإقليمية المختلفة: المشروع التركي والمشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي.

ولأن التحليل الاستراتيجي لا ينطلق من ثوابت إيديولوجية أو انحيازات عاطفية، يبدو ملاحظاً على هذه المشاريع الإقليمية المتلاطمة والمتعارضة إيديولوجياً أنها تشترك في صفة واحدة هي أنها كلها مشروعات غير عربية بعدما فقد النظام العربي الرسمي حضوره في المنطقة؛ بل وكف عن أن يكون مشروعاً –بالمعنى المزدوج للكلمة-.

تتنافس منذ الخمسينات من القرن الماضي ثلاث قوى أساسية على سوريا: مصر والسعودية والعراق. وفي حين اندمجت سوريا مع مصر في أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، إلا أنها وبتأثير سعودي عادت لتنتفض على هذه الوحدة. كما أن العراق وبعد انقلاباته العسكرية ساهم في شد أوتار سوريا إليه، خصوصاً مع تنامي دور حزب البعث في كلا البلدين قبل أن تستفحل العداوة بين البعثين في سبعينات القرن الماضي. ومنذ بداية السبعينات وتولي الرئيس حافظ الأسد مقاليد الحكم في سوريا، حرص على إبقاء السعودية ممثلة برموز سياسية في الدوائر العليا لصنع القرار السوري. واستمرت الحال هكذا طوال عهده، حتى أقدمت دمشق في عهد الرئيس الحالي بشار الأسد على التحلل من هذا التقليد، فضلاً عما اتهمت به من ضلوع في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري ومشروعه في لبنان. ومع تفاقم الدور الإيراني في المنطقة وتنامي الاستياء العربي منه، وصلت العلاقات بين القاهرة والرياض من ناحية ودمشق من ناحية أخرى إلى منحدرات غير مسبوقة بمقاطعة مصر والسعودية القمة العربية الأخيرة التي عقدت في سوريا.

يأتي التحالف الإيراني- السوري على رأس أولويات مشروع إيران الإقليمي، فمن طريقه يمكن طهران الآن ربط سلسلة جغرافية متصلة من النفوذ الإقليمي تبدأ من غرب إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سوريا، التي تنظم سلسلة النفوذ الإيراني وصولاً إلى جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذه الإطلالة الأخيرة باتت أحد الأوراق الممتازة بيد إيران لفرض حضورها الإقليمي سواء بحدود تماس مباشر مع إسرائيل، أو بضغط معنوي كبير على الدول العربية الرئيسية، خصوصاً في ظل تعثر عملية التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي. ولأن إيران ترتبط تاريخياً وعقائدياً مع جبل عامل في لبنان، تمثل سوريا أيضاً حلقة الوصل التي تربط لبنان المهم استراتيجياً وإعلامياً لإيران بسلسلة نفوذها الإقليمي.

يعتبر التحالف الإيراني- السوري مثالاً فريداً على التحالفات الإقليمية في المنطقة، باستمراره لمدة تربو على ثلاثة عقود على الرغم من التغيرات الجيوبوليتيكية العميقة التي عصفت بالمنطقة خلال هذه المدة. ويستمد هذا التحالف خصوصيته أيضاً من كونه الرافعة الأساسية لنفوذ إيران الإقليمي، بالتوازي مع مفارقة تراجع الدور السوري في جواره الإقليمي إلى أدنى مستوياته في ظل هذا التحالف. لا تحتفظ سوريا المتحالفة مع إيران للمفارقة بنفوذ جدي في العراق، كما أن حضورها في لبنان يتراجع لعوامل كثيرة وتحل محلها إيران المتحالفة معها والتي تملك فيه، على العكس من سوريا، جذرا طائفيا راجحا.

تملك تركيا في الناحية المقابلة مدخلاً جغرافياً إلى المنطقة العربية يتمثل في العراق وسوريا، في حين يمتلك المشروع الإيراني منافذ أكبر للتأثير عبر الخليج والعراق وصولاً إلى لبنان، وذلك بالاعتماد على عناصر القوة الناعمة وليس الصلبة مثل تركيا وهي مفارقة تستحق التأمل. وبسبب تغلغل المشروع الإيراني في المنطقة العربية وتشتت الجهد الاستراتيجي التركي على القوقاز والبلقان والاتحاد الأوروبي، لا يبدو المشروع التركي قادراً على فرض نفسه في المنطقة العربية إلا بإزاحة المشروع الإيراني منها.

ويتمثل جوهر المشروع التركي تحت قيادة حزب العدالة والتنمية في تقديم نموذج التداول السلمي للسلطة السياسية فضلاً عن التنمية الاقتصادية في بيئة إقليمية تفتقر إلى مثل هذا النموذج. ويسعى هذا الحزب إلى قيادة دول المنطقة في ظل مشروع شرق أوسط اميركي كبير بصفته أبرز الوكلاء، لتقديم يوفق بين الحداثة المستقرة في خانة المصالح الاميركية والموروثات الثقافية والدينية لشعوب المنطقة. وإذ أقامت تركيا لنفسها منطقة عازلة على حدودها مع العراق قبل شهور، فإنها تعود الآن من المدخل الجغرافي الآخر إلى العالم العربي لتقدم نفسها باعتبارها وسيط سلام. ومن شأن نجاح هذه الوساطة وبدء المفاوضات أن تقترب تركيا أكثر من هدفها في قيادة المنطقة، إذ أن المنطق الداخلي للمفاوضات السورية-الإسرائيلية سيقود إلى تراجع في أولوية التحالف مع إيران على سلم اهتمامات صانع القرار السوري. وهذا التراجع سيصب في مصلحة تركيا، التي تتواجه في معادلة صفرية مع إيران في المنطقة، بمعنى أن التراجع في نفوذ أحد الطرفين سيصب في مصلحة الآخر وصولاً إلى إنهاء التنافس على قيادة المنطقة لمصلحته.

من ناحيتها تختزل الجمهورية العربية السورية في طياتها جل تاريخ وفسيفساء المشرق العربي، كما تكثف في موقعها الجيوسياسي كل توازناته. وليست صدفة أن يكون مجال التطبيق الأساسي لمعاهدة سايكس- بيكو 1916 في سوريا وما حولها، تلك المعاهدة التي رسمت حدود وأقدار المشرق العربي من وقتها وحتى الآن. تمنع سوريا تركيا عن عمق شبه الجزيرة العربية، مثلما تحبس العراق عن شرق المتوسط، وسوريا في الوقت عينه هي متنفس لبنان الجغرافي الذي يعطيه معناه المَدَوي، كما تتجاور سوريا مع فلسطين بحيث تشكل عبر جنوبها الغربي الرئة الجغرافية والتاريخية لها. ولذلك لا ينطبق حتى مفهوم الدولة-الأمة على الحالة السورية إلا قليلا، بسبب غياب الجذر التاريخي للدولة السورية الحديثة في حدودها الراهنة. يبدو صراع المشروعات الإقليمية على القوة والنفوذ في الشرق الأوسط متركزاً في الصراع الدائر على سوريا حالياً، وذلك بسبب مركزية الجيوبوليتيك السوري في المشهد السياسي للمشرق، خصوصاً بعد التغييب القسري للعراق جراء احتلاله. ومع تلاشي الحضور العربي، وتنامي النفوذ الإيراني في المنطقة، وإعادة اكتشاف تركيا لشرق أوسطيتها، تبدو سوريا مستقرة في بؤرة المشهد الإقليمي الراهن.

جَمَعَت دمشق تناقضات التصادم الإقليمي بين تركيا وإيران ووظفته لمصلحتها؛ فسوريا المتحالفة مع إيران ضمن المحور الإيراني-السوري هي في الوقت نفسه الدولة العربية الأقرب إلى المصالح التركية عما سواها. وسوريا المتحالفة مع طهران والقريبة إلى قلب وعقل أنقرة والتي تفاوض تل أبيب تستطيع ترجيح كفة مشروعات على أخرى في المنطقة، ولذلك يبدو الصراع الإقليمي محتدماً عليها. وهكذا أصبح النظام السياسي السوري، الذي لا يتمتع بإمكانات اقتصادية ومالية خاصة أو قاعدة شعبية كبيرة، هو نقطة التوازن لكل القوى غير العربية في المنطقة. ووفق هذا المقتضى تبدو سوريا أكثر الدول العربية تفاعلاً مع النظام الإقليمي الذي يتشكل الآن، بغض النظر عن نتيجة مفاوضاتها المقبلة مع تل أبيب، وبحيث يبدو الصراع الراهن على سوريا كما كان دائماً في الماضي مجسداً لجوهر الصراع في المنطقة.

– القاهرة

(رئيس تحرير مجلة “شرق نامة”المتخصصة في الشؤون الإيرانية والتركية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى