نبض الشارع العربي
صبحي حديدي
في وسع المرء تسطير لائحة طويلة بالمظان، المنهجية وغيرها، التي يمكن سوقها للطعن في مصداقية استطلاعات الرأي العام العربي السنوية، التي تنفّذها جامعة ماريلاند الأمريكية، بالتعاون مع مؤسسة زغبي إنترناشنال ،
وبإشراف الدكتور شبلي تلحمي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة والزميل غير المقيم في مركز حاييم صبّان، معهد بروكنغز. بين تلك الطعون الجوهرية، وفي صدد استطلاع سنة 2008 علي سبيل المثال، أنّ الاستبيانات شملت مواطني ستة بلدان عربية فقط (هي مصر، الأردن، لبنان، المغرب، السعودية، الإمارات العربية)، فغاب بالتالي رأي مواطني بلدان أساسية مثل سورية والعراق لأسباب أمنية قد تكون مفهومة، جزئياً والجزائر واليمن والسودان وفلسطين لأسباب يصعب أن تكون مقنعة .
ومع ذلك، وبالنظر إلي الغياب شبه التام لاستطلاعات ذات مصداقية ترسم بيانات الرأي العام العربي، فإنّ ما يقوم به البروفيسور تلحمي وفريقه يرتدي أهمية بالغة، ويستحقّ أقصي الاهتمام من جانب جميع الأطراف المعنيّة بالوقوف علي نبض الشارع العربي: أوساط المعارضات العربية، قبل أجهزة استخبارات الأنظمة؛ ومراكز البحث العربية، علي ضعف حيلتها وقلّة مواردها، قبل معاهد كونية كبري مثل بروكنغز ، و كارنيغي و معهد واشنطن .
والإنصاف يقتضي التنويه إلي أنّ الخلاصات التي تنتهي إليها استطلاعات جامعة ماريلاند تلقي انتباهاً خاصاً من خبراء البيت الأبيض، بصدد طائفة كبري من معضلات الشرق الأوسط. تردّد، ذات يوم، أنّ الضغوطات الشديدة التي مارستها الإدارة الأمريكية الحالية علي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لإجراء الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، إنما نهضت علي استطلاع مماثل للرأي العامّ الفلسطيني، أشار بوضوح إلي أنّ فتح سوف تتفوّق علي حماس وتستأثر بأغلبية مطلقة في المجلس! .
وهكذا، إذا توفّر مستشار حصيف، يلعب دور ناصح جسور وصادق لأحد قادة 14 آذار(مارس) في لبنان، فإنّ الواجب يقتضي منه تنبيه سيّده إلي هذه الأرقام: 9% فقط من المواطنين العرب يتعاطفون مع الأغلبية الحاكمة، و30% يتعاطفون مع التحالف المعارض الذي يقوده حزب الله . صحيح أنّ سؤال الإستطلاع انطوي علي ما يشبه الدمج بين الحزب والمعارضة اللبنانية، بما يعني منهجياً أنّ مقداراً لا بأس به من التعاطف لا يذهب إلي المعارضة إلا تحت مظلة الحزب، فإنّ فارق 21 نقطة يجب أن يشكّل لطمة تكفل استفاقة الغارقين في سبات الأوهام. هذا إذا لم يذهب الناصح خطوة إضافية في تنبيه الغافلين إلي أنّ شعبية السيد حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، قد ازدادت من 14% السنة الماضية، إلي 26% هذه السنة؛ وأنه، رغم مضيّ قرابة 21 شهراً علي العدوان الإسرائيلي ضدّ لبنان، ما يزال الزعيم الأكثر شعبية في العالم العربي. سوي هذا، ولكي لا يكون التفصيل خالياً من الطرافة السوداء، لا يأتي في المرتبة الثانية بعد نصر الله أيّ حاكم عربي، لأنّ التالي في الشعبية هو… الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك!
أمر آخر يخصّ موقف الشارع الشعبي العربي من الولايات المتحدة: 83% يحملون رأياً مناهضاً لأمريكا، و70% ليس لديهم أيّ مقدار من الثقة في سياساتها الشرق ـ أوسطية، و18% فقط يعتقدون أنّ باراك أوباما يمكن أن يجلب السلام إلي المنطقة، مقابل 13% لصالح هيلاري كلينتون، وجون ماكين لا يتجاوز الـ 4%. في مقابل هذه النسبة الطاغية من انعدام الثقة في أمريكا، لا يلوح البتة أنّ الشارع العربي يتوجس خيفة من إيران، ولا يعتبرها خطراً داهماً. غالبية الآراء ترفض الضغوط الدولية عليها لإيقاف برامجها النووية، كما أنّ 44% يعتقدون أنّه لو تمكنت إيران من تصنيع قنبلة نووية فإنّ النتيجة ستكون أكثر إيجابية للمنطقة، وليس أكثر سلبية.
ولعلّ من المفيد، هنا، العودة إلي دراسة رائدة بعنوان الشارع العربي: الرأي العام في العالم العربي ، كتبها دافيد بولوك وصدرت سنة 1992 عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط ، حيث يعمل الرجل اليوم. هنا ثلاث توصيات، بين أخري عديدة، خلص إليها بولوك:
1 ـ الشارع العربي ليس خرافة قوموية أو ثوروية أو رومانتيكية، بل هو موجود وقابل للقياس، فلا تتجاهلوه ولا تقللوا من قيمته قياساً علي عطالة ظاهرية.
2 ـ الرأي العام العربي أبعد ما يكون عن التجانس والوحدة والثبات، حتي في مسائل متفجرة مثل الإسلام والديمقراطية، فلا تضعوا كلّ الرأي العامّ العربي في سلّة واحدة،
3 ـ النُخَب العربية جريحة بهذا القدر أو ذاك، في هذه الإشكالية الايديولوجية أو تلك، هنا أو هناك، ولكن حذار… النخبة شيء هامّ للغاية، بطبيعة الحال والشارع شيء آخر. لا تدعوا كوابيس الأحلام المنكسرة عند المثقف تحجب هدير الشارع في ساعات الصباح الأولي أو نهايات يوم عمل شاق بحثاً عن اللقمة، وافتحوا كلّ العيون علي المساجد والأزقة والمقاهي وملاعب كرة القدم.
وليس بغير دلالة أنّ استطلاع جامعة ماريلاند لهذه السنة أدهش رجلاً مثل مارتن إنديك، رئيس مركز صبّان الذي شغل مناصب عديدة هامة بينها مستشار الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، والسفير في إسرائيل مرّتين: عجيب هذا البون الشاسع بين الرأي العام العربي وسياسات الحكومات العربية، تساءل إنديك… وكأنه لا يعرف ماذا، ومَن، ترعي واشنطن في كراسي حكم العرب!
القدس العربي
28/04/2008