إسرائيل تنكفئ وإيران تتراجع… وسوريا تملأ الفراغ!
ناهض حتر *
شيء ما بدا غامضاً في الرسالة الإسرائيلية التي نقلها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، إلى الرئيس السوري بشار الأسد. فمضمون الرسالة استراتيجي، يتعهد فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، بالانسحاب من الجولان إلى حدود عام 1967.
ولكن الرسالة اتخذت شكلاً ميدانياً عاجلاً، كأنها تستبق تطوّرات ما، أو تتلهّف على تفاهم ميداني ما. ففي الرسالة التي لا جديد فيها، رسالة ضمنية هي الأهمّ: أيها السوريون، مهلاً نحن لا نريد الحرب! «نستعدّ للحرب، ولكننا نستبعدها» يقول الرئيس بشار الأسد في موقف متوازن ودقيق. فخطر قيام إسرائيل تحت ضغط إدارة جورج بوش بعدوان على سوريا ولبنان، ماثل. لكن الوقت المتبقي لهذه الإدارة يمرّ، بينما تتحسب إسرائيل من حرب مكلفة جداً من دون أن يكون لها فيها مصلحة استراتيجية؛ إذ تدرك تل أبيب أنه سيكون عليها في النهاية الجلاء عن الجولان، ومن ضمنه مزارع شبعا، وهي تفضل حلاً يمكّنها من إقفال الجبهة الشمالية ودمج حزب الله واستيعاب «حماس» في عملية سياسية، على شنّ حرب لمصلحة الترتيبات الإقليمية الأميركية ـــ العربية.
وفي صلب هذا المشهد المعقَّد، نتوقّف عند مفارقة لافتة: تحاول إسرائيل، قدر ما تستطيع، التفلّت من تعليمات إدارة بوش «الحربجية»، بينما تصرّ الأطراف العربية الحليفة لواشنطن على التصعيد: السعوديون وحلفاؤهم اللبنانيون يأملون في حرب إسرائيلية تحسم الصراع مع سوريا وحلفائها في لبنان، لكن الإسرائيليين ليسوا مستعدين لمغامرة بلا أفق.
ففي سوريا إجماع وطني صلب على استعادة الجولان بالكامل. ولن يؤدي كسب حرب جديدة مع سوريا أو حتى تغيير النظام في دمشق إلى تغيير هذه الحقيقة الاستراتيجية، بينما يبعث نشوء حالة فوضى على الطريقة العراقية في بلد رئيسي محاذٍ لإسرائيل، رعباً مضاعفاً لدى جنرالات تل أبيب. فلماذا المغامرة الحربية والسياسية والأمنية، إذاً؟
إسرائيل لم يعد لها، في ظل القيادة الأميركية الميدانية للصراع في منطقتنا، دور إقليمي خاص. إنّها تتغير بنيوياً وتنكفئ. ولذلك، هناك خيط رفيع من التوازي الموضوعي بين موقفي سوريا وإسرائيل اللتين تستعدّان للحرب بينما تستبعدانها، ولا تريدانها سياسياً. لا تتوانى تل أبيب عن تقديم تطمينات متلاحقة إلى دمشق، في حين أنه من الواضح أن دمشق تقيّد، حتى الآن، حركة حزب الله نحو الانتقام الموعود لشهيده عماد مغنية.
تقوم القاهرة ـــ وبخاصة عمّان ـــ في الوقت الأميركي الضائع، بمساع حثيثة لإنقاذ السلطة الفلسطينية وتثبيت أرجلها المتداعية، من خلال التوصّل قبل نهاية العام الحالي إلى اتفاق بينها وبين إسرائيل، يلزم أية إدارة أميركية لاحقة به. لكن الحقائق على الأرض تجعل من الصعب على إدارة جديدة ملزمة بالشروع، كأولوية، في تصميم استراتيجية خروج من الورطة العراقية وتنفيذها، أن تتجاهل «حماس». فالأخيرة استطاعت أن ترسّخ سلطتها في غزة، وتبسط الأمن، بعد طول غياب في القطاع، وتحول دون الحرب الأهلية، وتدير الهيئات الحكومية بقدرة عالية وبحدّ معقول من الكفاءة والنزاهة، وذلك من دون أن تحنث ببرنامجها الخاص باستمرار المقاومة، أو أن تلجأ لتقديم التنازلات من أجل البقاء في الحكم. وإلى ذلك، يظهر للمراقبين أن قدرة الحركة القتالية قد تطورت بصورة ملموسة، وقد خاض مقاتلوها بالفعل معارك جدية ضد التوغلات الإسرائيلية، وصمدت غزة أمام الحصار والعدوان والتجويع والقطيعة العربية.
وفي حين تتراجع السلطة الفلسطينية في كل المجالات، وتنهج حكومتها سياسات اللبرلة الاقتصادية المتوحشة في ظل الاحتلال، وتواصل مفاوضات كاريكاتورية مع الحكومة الإسرائيلية، تحصد «حماس» المزيد من الشعبية. وقد تفوّق رئيس وزرائها، إسماعيل هنية، في استطلاعات الرأي في الضفة الغربية أيضاً على رئيس «السلطة» محمود عباس.
وتتوقّع مراجع إسرائيلية إمكان فوز الحركة في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية المقبلة. ولا نستطيع أن نتجاهل أنّ لقاءات الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، مع قيادات «حماس» وما حملته من رسائل علنية وسرية، علامة على الاعتراف بإنجازات الحركة السياسية والإدارية والقتالية، تأتي في سياق التحضير لمرحلة ما بعد «الحربجي» جورج بوش.
وما يهمّ هنا هو لفت الانتباه إلى أن قوة «حماس» المتزايدة، تصبّ مباشرة في تعزيز النفوذ السوري على المحور الفلسطيني، حيث إن باحثين مقرّبين من المرشح الديموقراطي باراك أوباما توصلوا، للمرة الأولى في الفكر السياسي الرسمي الأميركي، إلى أنّ المسارين السوري والفلسطيني مترابطان. ولعلّ «حماس» هي أول مَن يدرك هذه الحقيقة. وقد بدا انفتاح الحركة على الاقتراحات السلمية، ومنها القبول باستفتاء شعبي على اتفاقية مع إسرائيل على أساس حدود الـ67، انحيازاً صريحاً للرؤية السورية، احتجّت عليه طهران على لسان حليفها الفلسطيني، أعني «حركة الجهاد الإسلامي».
لا أقول إنّ هناك انشقاقاً في التحالف السوري ـــ الإيراني، ولكنني أؤكد على تبلور سياسة سورية منفصلة ذات منطلقات وديناميات مستجدّة، تعكس تراجع النفوذ الإيراني على المستوى الإقليمي، وترجيح الدور السوري.
وألفت إلى ما أظهره الأسد في لقائه مع المثقّفين القوميين في دمشق من تركيز غير مسبوق على تفوّق المقاومة العراقية التي أعلن الرئيس السوري، للمرة الأولى، عن تقديره لـ«تطورها الكمي والنوعي بالنسبة للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية». وتتجاوز هذه الملاحظة التقويم الميداني والعسكري، إلى كونها موقفاً سياسياً في ترتيب الأولويات في الصراع مع الهجمة الأميركية على المنطقة، وهو ما يمثّل بحدّ ذاته نوعاً من التباعد الفعلي عن الاستراتيجية الإيرانية التي تركز على أولوية الصراع مع إسرائيل كإطار للتواطؤ مع الأميركيين في العراق، في إدارة معقدة للمصالح الإقليمية الإيرانية.
إنّ تأكيد الأسد على أن السياسة السورية في العراق تقوم على وحدته والحفاظ على هويته العربية، موقف تقليدي لدمشق. لكن الجديد هو دعوة الأسد إلى مصالحة وطنية عراقية تقوم على أساس شطب دستور المحاصصة الطائفية المكتوب في ظل الاحتلال، والتوصل إلى دستور وطني. ويمثل هذا الموقف تقدماً ملموساً في السياسة السورية، سواء لجهة سحب الاعتراف من العملية السياسية الأميركية في العراق، أو لجهة التعارض الصريح مع الموقف الإيراني الداعم صراحة لتلك العملية المسؤولة عن استمرار الاحتلال وإدامة الاقتتال الطائفي المصطنع. وأحسب أنّ هذا التطور في السياسة السورية ليس بعيداً عن بدء انحسار النفوذ الإيراني في جنوب العراق، وظهور تيار وطني عروبي جماهيري مقاوم بين الشيعة العراقيّين، مضاد للأميركيين والإيرانيين في الآن نفسه، كما تجلى أخيراً في الانتفاضة الشعبية ضد حكومة المالكي وميليشيات «بدر» و«الدعوة» المدعومة من طهران. وهكذا، فقد أصبح لدى سوريا، وهي البالغة الحساسية لحركة موازين القوى، قاعدة لبلورة سياسة عراقية مستقلة وعلنية. ويأتي ذلك من ثمّ، تحضيراً لمرحلة ما بعد بوش، حين ستسعى أية إدارة أميركية جديدة للبحث مع القوى الإقليمية عن حلّ دائم في العراق. ومن السذاجة الاعتقاد بأنّ دمشق في وارد التخلّي عن مصالحها العراقية لأي كان، حتى للحليف الإيراني.
مع وصول توازن القوى مع إسرائيل إلى نقطة حسّاسة تشلّ إلى حدّ كبير إمكان العدوان على سوريا، فإنّ السوريين يقفون على أعتاب مرحلة جديدة تستعيد فيها دمشق مكانتها إزاء الأعداء والخصوم والحلفاء معاً. وسيكون على الجميع ابتداءً من الآن، أن يأخذوا ذلك في الحسبان. إسرائيل تنكفئ. إيران تتراجع. وتتقدم سوريا للإمساك بمفاصل الصراع الإقليمي في فلسطين وفي لبنان… ويبقى أن تحسم الموقف في العراق. وأظن أن الموقف السوري في الشأن العراقي، سيصبح أكثر استقلالية وفاعلية كلما ابتعدت نذر الحرب على الجبهة الإسرائيلية.
لا معنى ولا أفق لاندماج بعض العرب ـــ وبعض اللبنانيين خصوصاً ـــ في تصعيد إدارة بوش الآفلة ضدّ سوريا. وهو تصعيد تحاول حتى إسرائيل الهرب منه، في حين أن تطور حركة التمرد الشيعي العراقي ضد الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني يفتح الباب أمام فرصة جدية لإحداث تغيير في الاصطفاف السياسي القائم في
المنطقة.
* كاتب وصحافي أردني
عدد الاربعاء ٣٠ نيسان ٢٠٠٨