المُوجَـز في الإهَانة
برنار نويل
تبرئ الدولةُ على الدوام نفسَها باسم المصلحة العامة من العنف الذي تمارسه. وهيَ، بطبيعة الحال، تصوّر هذا العنفَ كأنه الضمانة نفسُها لهذه المصلحة، فيما هو ليس سوى ضمانة لسلطتها. وتظل هذه الحقيقة مختفية في العادة وراء أقنعة الحاجة إلى تأمين حماية الأشخاص والممتلكات، بمعنى أمنهم. وما دام هذا المظهرُ محترَماً، فإن كل شيء يبدو لكل واحد عادياً ومتطابقاً مع النظام الاجتماعي. ولا تظهَر الوضعية على طبيعتها الحقيقية إلا مع بداية تفاقم الاحتجاجات التي تكشف عن إسرافٍ في حضور الشرطة. عند ذاك، يبدأ كل واحد في إدراك عنف مُضمَر، لا يدّعي أنه مصلحة عمومية إلا من أجل استعباد الذين خُصِّص لخدمتهم. عندما الأشياء تصل إلى هذا الحد، يكون على الدولة بالتأكيد أن تخترع مخاطر جديدة لتبرير التقوية المبالغ فيها لشرطتها. والخطر الأقدر اليوم على أن يُستعمَل كتبرير هو الإرهاب.
لقد كثر استعمالُ حجة الإرهاب منذ قرن، وفي البداية من طرف جيوش الاحتلال. فنهاية حرب تضعُ نهاية لاحتلال الأراضي الذي تمت الإغارة عليها إلا إذا خلفَ الاستعمارُ الحرب. وعندما يثور المستعمرون، يحاربهم المحتلون باسم الكفاح ضد الإرهاب. ومن ثم فإن كل مقاوم يوصف بكونه ‘إرهابياً’ بقدر ما يكون الاحتلال لا شرعياً. وفي حال ‘التحرير’، يتحولُ الإرهابي، الذي تمت معاملته حتى ذلك الحين بـأنه ‘مجرم’، إلى ‘بطل’ أو ‘شهيد’ في حال قتله أو إعدامه.
لقد تضاعف عددُ الأبطال والشهداء منذ أنْ عوضت الحروبُ إرادة الهيمنة بإرادة استئصال ‘الإرهاب’. وأصبحت هذه الإرادة الأخيرة سارية المفعول منذ هجوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 على برجي مركز التجارة العالمية، بل أصبحت مقدسة تحت اسم حرب الخير ضد الشر. كل مُرتكبي الاضطهاد في المعمورة انقضُّوا على فرصة اعتبار معارضيهم عُملاء للشر، ونتج عن ذلك حروبٌ إنقاذية، وتعذيبٌ مشرّف وسجونٌ سرية ومذابحُ ديمقراطية. وفي الوقت نفسه اعتَبرت الدعايةُ الإعلامية الأفعالَ التعسفية واغتيالات المقاومين شيئاً طبيعياً شريطة أن تكون أهدافُها ‘محددة’. وفيما كان الخيرُ يحارب الشرَّ، اسْتعمَلَ الخيرُ بحق هذا الأخير طرائقَ أصبح معها أسوأ من الشر. والنتيجة هي أن أغلب الدول، بقصد هذا الخير أو ذاك، أحاطتْ حكمها باحتياطات تتجاوز الحدود إلى درجة أن أصبحت بمثابة تهديد للمواطنين وحقوقهم. فمن مظاهر تجاوز الحدود أن رئيس الجمهورية [الفرنسي] المُشتهر بكونه ديمقراطياً، يحيط نفسه بآلاف من الشرطة عندما يظهر وسطَ الجمهور. وهناك تجاوز الحدود أيضاً عندما يقوم هؤلاء الشرطة بملء الشوارع، والمحطات والأمكنة العمومية، ويعاملون مواطنيهم بعجرفة وخشونة في الغالب تدل على أي حد هُـمْ بعيدون عن أن يكونوا في خدمة الأمن.
نوجدُ في المنطقة المضطربة التي يُصبحُ فيها دوْرُ المؤسسات وموظفيها مشكوكاً فيه. ثمة تهديدٌ منتشر، ويصوّرُ سلوكُ قوات حفظ النظام ما يكمن فيه من عنف، لكن العنفَ يصل الآنَ إلينا بأشكال أخرى، يبدو أنها لا تعود مباشرة للسلطة. لا شك أن هذه السلطة ليست مصدرَ الأزمة الاقتصادية التي تعصف بجزء هام من السكان، لكن طريقتها في التدبير تسير بوضوح وفق المصلحة الخاصة للمسؤولين عنها بطبيعة الحال، لدرجة أن هذا السلوك قمعٌ علنيٌّ أكثر مما هو عنف. وإذا بالظلم صارخٌ بين المآل المهيأ للمدراء الكبار وبينَ الكارثة الاجتماعية الناتجة عن التدبير الذي يعود إلى هذه الفئة المحظوظة، التي هي مجرد مجموعة وليست حتى نخبة.
فالعنف البوليسي العادي يُمارَس على الطريق العمومي؛ والعنف الاقتصادي يعنّف بالحياة الشخصية. وما دمنا لا نتلقى ضربات المطرقة، يمكننا الاعتقاد بأنها مخصصة لمن يستحقها، فيما يتم الإحساسُ بالتسريحات المكثفة من العمل والبطالة على أنها غير مستحَقة، لا سيما وأن الإعلام يعلن بموازاة مع ذلك الأرباحَ المفرطة لبعض الشركات والمكافآت الخيالية للمدراء وأصحاب الأسهم. وفي العمق، ما دامت ممارسة السلطة هي بدءاً مسألة تواصل إعلامي وغواية إعلامية، فليس للدولة ولا لمؤسساتها، في الوقت العادي، إلا وجودٌ افتراضي بالنسبة لأغلب المواطنين، وليس للإعلام بالأحرى حقيقة ما دام لا يتحول إلى واقع مؤلم. إذ ذاك، عندما تصبح الوضعية صعبة بكل وضوح، فإن الألم الذي يحسّه الناس يزيد عشرة أضعاف عند المقارنة بين مآل المحظوظين وبين الفقر العام لدرجة أن صورَ ‘الشعب’ بدلاً من أن تبعث على الحلم، تثـير السعار. ما عادت الفرجة قط تعرض سوى ما يفوق الاحتمال كما أن الصورة، بدلاً من أن تبهر، تنقلب على نفسها وهي تعرضُ ما كانت تخفيه. وفجأة، لا تعود الأذهان مهيأة على الإطلاق!
يقظة الوعي هذه لا تأتي بالوضوح لأن السلطة تضع إمكانيات لبث الالتباس. فما الذي، في ‘الأزمة’، يرجع للنظام وما الذي يرجع لخطأ التدبير؟ يتمّ فصلُ كارثة الأزمة عن المضاربات في البورصة، لكن مَن الذي قام بالمضاربات في البورصة غير الأبناك وهي تراكم مقادير أرباح الأسهم المدهشة التي أصبحت ‘نتـنة’ على نحو مفاجئ. هذه النـتانة كان بإمكانها ألا تخزي سوى مالكيها ما دامت الأرباحُ كانت موجودة خارج الاقتصاد الحقيقي لكن بما أن الأبناك أفلست، فالنظام المالي بأكمله هو ما ينهار ومعه الاقتصاد.
يبادر النظامُ إذن إلى نجدة الأبناك حتى ينقذ الاقتصاد ويحفظ، حسب قوله، الوظائفَ وقوتَ المواطنين. ومع أن وزيرة الاقتصاد أعطت الاطمئنانَ، قبلَ أسابيع قليلة، بأن الأزمة لن تمس البلد، فقد تمّ، فجأة، بكل استعجال تقديمُ بضع مئات من المليارات لأبناكنا التي كانت حتى ذلك الوقت تعطي الانطباع بأنها محتاطة أكثر من غيرها في جهات أخرى. وعندما وقع ما وقع، بدأت الأزمة تعصف بالشركات والوظائف كما لو كان الدواء يعجل بالداء.
إن العنف العادي الذي كان عالمُ الشغل يتعرض له مع تقليص المكتسبات الاجتماعية وجد نفسَه يتضاعف عشر مرات في ظرف بضع أسابيع من خلال تضاعف إغلاق الشركات وتسريح العمال والموظفين. وباختصار، فإن الدولة ربما قامت بإنقاذ الأبناك لتبعد اقتراب الانهيار المالي وهذا التدخل ربما كان له تأثير مباشر ما دامت الأبناك تصرح بحساباتها السنوية الإيجابية، في الوقت الذي تغلق فيه المعاملُ أبوابهَا وتسرح العمال والموظفين بشكل جماعي. أليس ما نستخلصه من ذلك إما أن يكون إخفاقاً للسلطة، وإما أن يكون خداعاً من جانب هذه السلطة نفسها، لأن إنقاذ الأبناك انتهى إلى كارثة؟
وفي غياب معارضة سياسية ذات مصداقية، فإن النقابات هي التي قامت برد الفعل، ولأول مرة توحدت لإطلاق إضرابات. وفي 29 كانون الثاني/يناير تظاهر أكثر من مليونين في مئة من المدن. وقد عيّن الرئيس موعداً للنقابات بعد ثلاثة أسابيع وقبلت النقابات، رغم نجاح إضرابها، هذا الأجلَ ولم تبرمج يوماً للتظاهر إلا في 19 آذار/مارس. وكانت نتيجة المفاوضات هي أن الطرف الاجتماعي سيتوصل بأقل من واحد في المئة مما تسلمته الأبناك. وكانت نتيجة يوم 19 آذار/مارس ثلاثة ملايين من المتظاهرين في عدد أكبر من المدن ورفضاً من طرف السلطة لمفاوضات جديدة.
تكمن شراسة علاقات القوة في الفرق بين الهبَة المقدمة للأبناك والنزر القليل المخصص للطرف الاجتماعي. فالأقلية الحكومية تعتمد على عجز الأغلبية الشعبية وحقارة ممثليها حتى يدوم النظامُ كما هوَ في خدمتها. إنّ هنا وهناك كلاماً عن وضع ما قبل ثوري، لكن هذا لا يمنع لا تحرشات أرباب المهن ولا سوقية الرئيس المغترة بنفسها. فإلى جانب انتشار الشرطة تُضاف الإهانات التي لها تأثير مضاعف في إثارة الغضب وكبح جماحه. فالغضبُ الذي لا ينفجر يُفرَغُ بفائق السرعة من الطاقة التي أوجدته.
لقد كفت الأغلبية الشعبية التي بُهرت وخُدعت بالرئيس وعشيرته عن أن تكون مغفّلَتَـهمْ لكن دون أن تذهبَ أبعدَ من توتر مُوجع، إذ لا يكفي أن نكون ضحية نظام حتى تتوفّر إرادةُ التنظيم لإسقاطه. فانتفاضاتُ الفلاحين وعموم الناس ضد السلطة أكثرُ عدداً من الثورات، حيث كل شيء يبعثُ على الاعتقاد بأن السلطة ترغب في الانتفاضات حتى تقمعها بطريقة نموذجية. بينَ قوة واثقة من ذاتها وجماهير غير منظمة لا تملك سوى سعارها في وجه المظالم التي تتعرض لها، ثمة عنفٌ يتفاقم وليس له غيرُ مخارج وهمية كمصادرة أموال أرباب المهن أو عرقلة الاحتجاجات. فهذه الأعمال، العفوية والتي لا مستقبل لها، أعمالٌ يائسة.
ثمة منَ الآن فصاعداً يأس مُبرمَج، هو الشكل الجديد لعنف قمعي هدفه كسْرُ إرادة المقاومة. ويكون القيام به من خلال جر الضحايا إلى أقصى ما يستطيعون حتى تتم البرهنة لهمْ على أن انتفاضتهم لا تستطيع شيئاً، وهو ما يحوّل العجز إلى إهانة. هذا العنف تمارسه بطريقة منظمة إحدى الدول الأكثر تمثيلية لسياسة الكتلة الرأسمالية. وتكمنُ هذه الطريقة في دفع ساكنة أرض إلى اليأس وتركها على هذه الحالة إلى أجل غير معلوم. اجتياحات عسكرية، قصف، اغتيالات تقوّي بطريقة دورية مفعولَ التطويق والحصار. والغاية هي إنهاك الضحايا حتى يغادروا في الأخير البلدَ أو يستسلموا للإخضاع.
في ذلكَ العنف تم دفعُ تجريب اليأس إلى أقصاهُ لأنه البديلُ عن الرغبة في الاغتيال الجماعي الذي لا تتوفر جرأة على تحقيقه. لكن، أليس ثمة رغبة مماثلة، لن تبوحَ أبداً بما تريد، في التدمير المميت للمصالح العمومية، وطرد الناس بالآلاف إلى الشوارع، ومطاردة المهاجرين؟ وليس في هذه الإشارة مبالغة بالنظر إلى أن مرتكبي هذه الأعمال السيئة يحترسون من الإعلان بوضوح عما يترتب عنها. غير أنه لفرط نقل المعامل إلى بلاد أخرى، وفقدان الشغل، وحذف عدد من الأسرّة في المستشفيات، وتعويض المصلحة بالمردودية، وامتداح العمل عندما يصبح من غير الممكن العثور عليه، وُلدتْ وضعيةٌ عامة تضع، شيئاً فشيئاً، باستمرار جزءاً أكبر من الساكنة تحت درجة المحتمل والإجبار على تحملها.
وتتهم السلطة الأزمةَ بطبيعة الحال لتبرئ نفسها، لكن الأزمةَ لا تعمل إلا على تسريع وتيرة ما كانت العشيرة تسميه الإصلاح. بلْ وتتجرأ على تأكيد أن مواصلة الإصلاحات يمكن أن تعثر على حجّتها في الأزمة… ضحايا هذه المزايدات الليبرالية ساخطون بطبيعة الحال بقدر ما هم عاجزون، وهم بالتالي ناضجون لليأس لأن شدة غضبهم ستنفد بين سلطة تتحداهم من أعلى شرطتها، وبين يسار غير موجود ونقابات تراعي عدم استعمال سلاح الإضراب العام مع أنه لا يُقهَر.
ليس الدفعُ إلى الانتفاضة، وجعلُ هذه الانتفاضة مستحيلة حتى تُقمعَ بصفة نهائية تلك الطبقاتُ التي عليها أن تُعاني من الاستغلال، إلا الجانبَ الأعنفَ لبرنامج سبق استعمالُه منذ أمد طويل. ولا شك في أن رفع الوتيرة إلى المستوى المطلوب أدت إليه الأزمة ومضاعفاتهُا الاقتصادية، التي أججت الشراسة في المصالح اللاشعبية للهيمنة، لكن إرادة فرض سلبية عامة بواسطة الإعلام كانت قد دفعتْ بخطتها إلى ما هو أبعد. وهذه السلبية وجدت نفسَها قلقة على حين غرة بسبب الاعتداءات اللامحتملة على الحياة اليومية حتى ان الأذهانَ – كما سبقَ القولُ – كفّتْ عن أن تكون مهيأة. في هذا الوقت أضحى من اللازم بث روح الإحباط في المقاومة حتى تصير حركتُها، التي أصبحت عاجزة من تلقاء ذاتها، محلّ إهانة نموذجية لا تترك مجالاً لبديل آخرَ غير الاستسلام. هكذا تكشف السلطة الاقتصادية، التي تمسك بزمام واقع السلطة، عن طبيعتها الشمولية واحتقارها لأغلبية يتعلق الأمر بالإبقاء عليها في العبودية بانتظار أن يأتي يومٌ يكون فيه من الضروري إبادتُهَا.
ترجمة: محمد بنيس
القدس العربي