الازمة والإعلام والمصالح الكبرى
د. علي محمد فخرو
في ندوة من ندوات دبي الإعلامية طرح سؤال بالغ الأهمية : هل كلن بإمكان الوسائل الإعلامية، سواء في الغرب أم الشرق، أن تدق ناقوس الخطر مبكراً وتستشرف إمكانية حدوث الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية الحالية؟ كان النقاش منصباً حول جوانب فنيًّة من مثل عدم قدرة القائمين على تلك الوسائل من فهم تعقيدات ومخاطر أنظمة الإئتمان والقروض وبيع القروض من قبل الأصل إلى الفرع ومن الفرع إلى فرع آخر. وأثار البعض عدم وجود الضوابط الحكومية لمنع تلك المخاطر، بينما ركٌّز آخرون على عدم وجود شفافية كافية في تقارير الشركات والبنوك المالية. وعكف الآخرون على قضايا الفساد التي حكمت ذلك الحقل والتي أفسدت الجميع بمن فيهم العاملون في حقول الإعلام المختلفة.
لكن هل حقا أن موضوع الفشل الذريع لوسائل الإعلام في التنبٌّؤ بإمكانية حدوث الكارثة كان مقتصراً على تلك الجوانب الفنُية والتنظيمية، أم أن هناك سؤالا مفصليا يجب أن يطرح؟ ذلك السؤال يتعلق بالارتباط الوثيق المحكم بين وسائل الإعلام وبين مصالح كبرى تتحكُّم في وضع محدٍّدات للإعلام والإعلاميين وفي وضع خطوط حمر لهم لا يستطيعون تجاوزها دون أن يواجهوا الأهوال، بل المحو من الوجود.
هناك أولاً واقع إمتلاك الكثير من الوسائل الإعلامية من قبل أفراد أغنياء أو شركات متعدًّدة النشاطات بما فيها النشاطات الإعلامية. وهؤلاء المالكون منغمسون حتى الآذن في وحل النشاطات المالية – الاقتصادية المشبوهة التي أدُّت إلى حدوث الأزمة. فهل كان هؤلاء من المالكين سيسمحون بالكتابة أو الحديث عما كانوا هم يفعلون أو عما كان يفعله حلفاؤهم وشـركاؤهم؟
هناك ثانياً المصالح الضخمة المتمثًّلة في الإعلان. فالغالبية الساحقة من وسائل الإعلام تعتمد على الإعلان كدخل أساسي يعينها على الوقوف على أرجلها. والإعلان يأتي من شركات ومؤسسات مالية تمارس الأخطاء والخطايا التي ذكرنا وتعتمد إداراتها على ماتدرٌّه ممارسة تلك الخطايا. وبالتالي فان مثل تلك المؤسسات ومثل أولئك الأفراد لن يتعاملوا قط مع أية مؤسسة إعلامية تقترب من عشٍّ الأفاعي الذي فيه يعيشون.
هناك ثالثاً المصالح الحكومية الكبرى، بما فيها الجهات العسكرية والأمنية. وهي تدًّعي بأن من مصلحة البلدان التي تحكم أن لا تشير وسائلها الإعلامية إلى أية تجاوزات مالية واقتصادية. ذلك أن مثل تلك الإشارات والفضح للأخطاء سيوقف المستثمرين عن المجيء إلى تلك البلدان وسيضعف موقف الحكومات أمام المؤسسات المالية الدولية عند مناقشة الحصول على قروض أو تأجيل دفع قروض مستحقة أو المطالبة بمساعدات وهبات.
هناك رابعاً الارتباط الشخصي للكثيرين من كبار الإعلاميين الذين يديرون مؤسسات الإعلام بكل تلك المصالح التي ذكرنا وانغماسهم هم شخصياً في المضاربات الفاسدة وفي اللٌّعبة الجهنًّمية التي عاشها العالم قبل الأزمة. وهؤلاء سيكونون بالطبع حماة ومدافعين عمُّا كان يجري وليس من المحلٍّلين والمنتقدين.
نحن إذن أمام شبكة متداخلة من المصالح التي مثًّلت سدُّاً منيعاً أمام وسائل الإعلام ومنعتها من محاولة منع حدوث الأزمة العالمية الحالية. والسؤال المنطقي الذي يعقب كل ما ذكرنا هو : وهل ستستطيع وسائل الإعلام إياها أن تتعامل مع موضوع من تسبُّّّّّّّّّّّّّّّبوا في خلق تلك الأزمة، ومع النظر في نتائج تلك الأزمة، ومع التفتيش عن طرق اقتصادية ومالية جديدة خارج إطار الرأسمالية العولمية المتوحٍّّّّّّّّّّّّّّّّشة السابقة والتي كانت السًّبب في كل ما حدث؟ هذا سؤال لا يقل أهمية عن السؤال الذي طرحه المنتدى، إذ أنه يتعامل مع المستقبل. ألن تمنع تلك المصالح الكبرى وسائل الإعلام والعاملين فيها من طرح الأسئلة الجذرية حول مدى جدوى النظام الرأسمالي العولمي وحول الأنظمة التي يجب أن تحكمه وحول الأخذ بعين الإعتبار مصالح وحاجات الفقراء والمهمًّشين أولاً في ذلك النظام، وذلك قبل إعطاء أيٍّ اعتبار لمصالح الفاسدين والأنانييٍّن والناًّهبين من أغنياء العالم؟ فإذا كانت المصالح قد منعت من استشراف الأزمة فهل ستكون أعقل وأرحم بشأن السماح للخروج العادل الإنساني من تلك الأزمة؟ الذين قرأوا طبيعة مختلف الأنظمة الاقتصادية التي مارسها البشر يعرفون جيداً إن القضية هي أكبر من الإعلام والإعلاميين وأنها في رحم المسائل والإيديولوجيات والأفكار الوجودية الكبرى.
القدس العربي