صفحات مختارةطيب تيزيني

ثنائية العسكر والديمقراطية

طيب تيزيني
جاء منتدى الدوحة لهذا العام مؤخراً (من 3 إلى 5 مايو 2009) ليطرح أسئلة قديمة جديدة، ولكن مُفْعمة بالحرارة المستمدَّة من الواقع الراهن، وبالتعقيد والإشكالية المتأتِّيتين من بنيتهما النظرية المعرفية والأيديولوجية. وليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة، طالما أنه يأتي في سياق التحولات الراهنة الكبرى، وإن غابت عنه -عربياً- إلا قليلا الأسئلة التحفيزية والاستشرافية. وقد شاركنا في هذا المنتدى -بكل زواياه ومنعرجاته، ولكن مع التركيز على “ورشة الحوار المدني العربي- الأميركي اللاتيني”، التي أتت بتنظيم من “المؤسسة العربية الديمقراطية” وقد جاءت في سياق “منتدى الدوحة”. ويجدر بنا ذكر الموضوعات الكبرى التي اندرجت في إطار أعمال هذا المنتدى، ونقتطع بعض هذه الموضوعات، لنكشف بعض ما يربط بين “المنتدى”، والمؤسسة. فمن موضوعات الأول تبرز العناوين التالية: الاستراتيجية – نحو عالم متعدد الأقطاب، والديمقراطية تعزيز الزخم العالمي، والإعلام العابر للقارات، والأزمة المالية ومستقبل الاقتصاد العالمي والنظام المالي، والصراع العالمي والتعاون في العهد الجديد، والنساء والأعمال في الاقتصاد الوطني، والحوكمة العالمية، وأخيراً: أميركا أوباما- المشهد السياسي-…إلخ.
ومع توزيع بعض مشاركتنا على كل تلك المحاور والموضوعات بقدر أو بآخر، انفردنا بكيفية مخصصة بجلسات ورشة الحوار المدني المذكورة. إذ ها هنا قدمنا قراءة أولية لـ”ثنائية العسكر والديمقراطية في العالم العربي” بوجه الإجمال، مع وضع اليد على بعض أو أحد أوجه المقارنة بين هذا العالم من طرف، وبين صيغ أولية مما قدمته أميركا اللاتينية في بعض مناطقها وتجاربها عموماً. وقد بدأنا قراءتنا باستيحاء عنوان كتاب صدر منذ عدة عقود عن معهد فرنسي للدراسات الاستراتيجية العسكرية في العالم الثالث، وحمل عنوان “الجيوش غير العسكرية”. فانطلقنا بعدئذ من الأطروحة التالية: كانت الجيوش في بعض البلدان العربية في مراحل ما قبل الاستقلال الوطني (خصوصاً في النصف الأول من القرن التاسع عشر) قد تكونت من فقراء الريف والمدن، فكانت من ثم مهيأة لإنجاز عمل وطني في بلدانها. وتحققت استقلالات في العراق ولبنان وسوريا وتونس، مثلا، ربما بقيادات مدنية تحدرت من وسطى الفئات الاجتماعية وبعض شرائح الهرم الاجتماعي.
وقد برزت تناقضات وصراعات بين مجموعات من تلك القيادات بعد تحقيق الاستقلالات المذكورة، أضعفت حركات استكمال وتطوير هذه الأخيرة، خصوصاً في الحقلين السياسي والاقتصادي. وحدث ذلك تحت تأثير ثلاثة عوامل هي: ضعف الحركة السياسية والمجتمعات السياسية في البلدان العربية المعنية، وبروز مطامح عسكريين جدد باتجاه امتلاك القرارات الوطنية في عهود الدول الوطنية الجديدة الفتيَّة والضعيفة، خصوصاً بعد أن رأوا أن المجتمع السياسي والمجتمع المدني والثالث العمومي لم يكونوا قد امتلكوا من القوة ما يجعلها في موقع الرقابة والمساءلة وتطوير مؤسسات جديدة، منها البرلمان والقضاء والمجالس البلدية، وبروز صراعات بين القوى السياسية “اليسارية” وقوى أخرى من الاتجاهات القومية العربية والليبرالية والإسلامية.
كان ذلك بمثابة التسويق الباكر لمشاريع انقلابية عسكرية، وهنا تذكر على سبيل المقارنة حركة لانقلابات متتالية في جواتيمالا من طرف وفي سوريا من طرف آخر، كان التدخل الخارجي المباشر أو غير المباشر فيها، ذا حضور ملحوظ. وفي سوريا مثلا بعض القوى الانقلابية، التي فكرت بالوقوف في وجه هذا الاضطراب، بعقد وحدة إندماجية مع مصر عبدالناصر، تنتهي بها من ذلك الاضطراب ومن قوى سياسية أخرى. لقد نزلت الجيوش (الاستقلالية) إلى الساحة، وأصدرت -في سوريا مثلا- شرطاً تتم بموجبه الوحدة مع مصر. وسيتضح قريباً أن هذا الشرط كان بمثابة نزع القوة التاريخية الشعبية في مصر وسوريا، التي كان يمكن أن تقف في وجه تصدّع الأمل العربي الكبير، نعني بذلك سحب السياسة من القطرين السوري والمصري، وإحلال نظام جديد محلها تمثل بـ”النظام الأمني” بوصفه نتيجة اندماج بين أجهزة الأمن المخابراتية وفلول الجيش العسكري، الذي اندمج -مع تلك الأجهزة- فكانت العاقبة أنه فقد وظائفه في الدفاع الوطني من طرف، وأخفق في إنجاز الوظائف الجديدة في دولة تحتاج إلى السياسة والقضاء وحقوق الإنسان…إلخ من طرف آخر.
لقد فُرِّط شيئاً فشيئاً بنتائج الاستقلالات وانتُزع من المجتمع ما يجعل من الوحدة السورية الاندماجية أثراً بعد عين، فسقطت، وانفرد كل من القطرين بحظه المستقل. أما الديمقراطية، التي كانت من قبل هنا وهناك تحقق بعض انتصاراتها مثل الإقرار بالتعددية السياسية والحزبية وبالتداول السلمي للسلطة، فقد خضعت لعملية ابتلاع قد تهدد الاستقلال الوطني ذاته.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى