“سيكولوجية الجماهير” لغوستاف لوبون: في أسرار التنويم المغناطيسي للقطعان البشرية
تحتل الجماهير في التاريخ البشري موقعا اساسيا لجهة الادوار التي لعبتها ولا تزال على مسرح التغيرات السياسية والاجتماعية. وهي ادوار منها ما اتسم بالسلبية عبر الدعم الذي اعطته لقوى استبدادية او لايديولوجيات فاشية واوصلتها الى سدة الحكم، او عبر التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية واجتماعية، مما يجعلها تجمع بين القدرة على التدمير والقدرة على التضحية الكبرى في آن واحد. لقد شكلت الجماهير القاعدة التي تستند اليها الاحزاب السياسية والنقابات العمالية في عمليات التعبئة من اجل تحقيق مطالبها. توسعت الدراسات خلال القرن العشرين في بحث ظاهرة الجماهير من جميع الجوانب، واحتل علم النفس موقعا نهما في هذه الدراسات حتى بات هناك علم قائم في ذاته هو علم نفس الجماهير، يهدف الى دراسة الشروط التي تجعل انبثاق ظاهرة الجماهير ممكنة في هذا البلد او ذاك، وفي الظروف التي تجعل الجماهير عنصرا في الوصول الى حكم ديموقراطي او الى اشكال اخرى من الحكم الاستبدادي. في هذا السياق فإن كتاب غوستاف لوبون “سيكولوجية الجماهير”، الصادر حديثاً في العربية لدى “دار الساقي”، ترجمة هاشم صالح وتقديمه، الذي صدر اواخر القرن التاسع عشر، لا يزال يحتل موقعه في دراسة نفسية الجماهير، بوصفه مرجعا لا غنى عنه لكل باحث في هذا الميدان.
يشير لوبون الى ان علم النفس يقدم اطروحة ترى ان هناك “روحا للجماهير” تتكون من الانفعالات البدائية التي تتكرس عبر العقائد الايمانية، مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي، بحيث يبدو الشخص المنخرط في جمهور مستعدا لتنفيذ اعمال استثنائية يصعب ان يكون لديه الاستعداد للقيام بها لو كان في حالته الفردية والمتعقلة. يلخص لوبون نظريته حول الجمهور بجملة مسائل تتناوله بصفته ظاهرة اجتماعية، تفسر عملية التحريض التي يخضع لها بأنها عملية انحلال الافراد في الجمهور والذوبان الكلي فيه. من هنا يمكن تفسير الدور الذي يلعبه القائد في تحريك الجماهير حيث يقوم بالدور اياه الذي يقوم به التنويم المغناطيسي، على غرار ما يقوم به الطبيب النفسي في علاجه لمريضه. اثبتت معاينة الحركات الجماهيرية وقائع عدة في مقدمها أن هذا الجمهور يمتلك وحدة ذهنية، ويتحرك بشكل لا واع.
يرى لوبون ان للجماهير خصائص تميزها عن الافراد، حيث تتناول الخاصية الاولى ذوبان الشخصية الواعية للافراد وتوجيه المشاعر والافكار في اتجاه واحد. الجمهور النفسي “ايا تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه، وايا تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه، وايا يكن نمط حياتهم متشابها او مختلفا، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم او ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم جمهوراً يزودهم نوعاً من الروح الجماعية، هذه الروح تجعلهم يحسون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر كل فرد منهم لو كان معزولا”. في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد وتصبح شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، بحيث تلغى شخصية الفرد المستقل ويصبح عبارة عن انسان آلي ابتعدت ارادته عن القدرة على قيادته.
من هذه الخصائص أيضاً، سرعة انفعال الجماهير وخفتها، فالجمهور يقوده اللاوعي كليا تقريبا، فهو عبد للتحريضات التي يتلقاها، والجمهور كالانسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وتحقيق هذه الرغبة. والجمهور سريع التأثر وساذج في الوقت نفسه وقابل لتصديق كل شيء، وهو “يشرد باستمرار على حدود اللاشعور ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والاوامر”، كما يمتلئ الجمهور بنوع من المشاعر الخاصة بكائنات لا تستطيع الاحتكام الى العقل او القادرة على اتباع روح نقدية. كما ان العواطف التي يعبر عنها الجمهور سواء اكانت طيبة ام شريرة، تحوي تناقضا لجهة التضخيم او لجهة التبسيط، حيث “يتحرر الأبله والجاهل والمسود من الاحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، ويصبحون مجيشين بقوة عنيفة وعابرة، ولكن هائلة”.
وتتميز الجماهير ايضا بالتعصب والاستبدادية والنزعة المحافظة، وهو امر ناجم عن كونها لا تعرف سوى العواطف البسيطة والمتطرفة، مما يجعلها تقبل الافكار والعقائد او ترفضها دفعة واحدة. والجماهير غير مهيأة لاحترام النزعات الاخلاقية لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان. لكن هذا الجمهور القادر على القتل والتدمير في ظروف معينة وحالات محددة، هو نفسه الجمهور القادر على القيام بأفعال تتسم بالتضحية والنزاهة والبطولة في سبيل قضايا اجتماعية ووطنية. فتعاطف الجماهير مع حدث ما قد يتحول نوعاً من العبادة، كما أن النفور من شيء قد يتحول مباشرة حقداً. يشار هنا الى انّ مؤسسي العقائد الدينية او السياسية كانوا مدركين أهمية فرض عواطف التعصب الديني على الجماهير وسيلة ايمانية تدفع بمعتنقيها الى التضحية غير المحدودة في سبيلها. من هنا تبدو احدى السمات العامة للعقائد، الدينية منها وغير الدينية، ان شرط ترسخها في معتنقيها مرهون باكتسابها حلة دينية ذات توجه ايماني مطلق بما يمنع عنها المناقشة في مدى صحتها.
يشير لوبون الى الجماهير الانتخابية خلال مواسم الانتخابات، فيرى انها غير متجانسة، ومن خصائصها ضعف قابلية التفكير العقلاني، وانعدام الروح النقدية لديها، واتسامها بالنزق وسرعة الغضب، والسذاجة وسرعة التصديق، اضافة الى تبسيط الامور واستسهال اطلاق الاتهامات يمينا ويسارا. فالناخب عليه واجب تملق المرشح واستخدام الموسم الانتخابي لتحقيق رغباته واطماعه، والمرشح في الفترة نفسها ملزم ان يغمر الناخب بالتزلف والتملق وتوزيع الوعود عليه والاستجابة الكلامية لطلباته.
على رغم ان كتاب لوبون يعكس الحياة السياسية للمجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر، ومعاينته للاضطرابات التي عرفتها فرنسا منذ ثورتها الكبرى عام 1789 وما تبعها من تحولات دراماتيكية خلال القرن التالي، الا ان ما اثاره من قضايا في شأن تحليل نفسية الفرد عندما يدخل في الجمهور، لا تزال تحظى باهتمام كبير في الزمن المعاصر في ظل استخدام الجماهير في الحياة السياسية العربية بما يخدم بشكل رئيسي اليوم صعود الحركات الاصولية المتطرفة واستخدامها الجماهير في اثارة المشاعر وتجييش الاحقاد والكراهية ضد الاخر. من هنا يحتل كتاب غوستاف لوبون موقعه بوصفه واحدا من الكتب القديمة – الحديثة في فهم قضية الجماهير وكيفية التعامل معها لجهة توظيفها بما يخدم هذه الجماهير نفسها.
خالد غزال