رغم التضييق والقمع.. الإنترنت العربي يتحول إلى فاعل سياسي واجتماعي
تحول رُوّادَ شبكة الإنترنت في مصر وعدد من البلدان العربية إلى لاعبين مهمين في توجيه العمل السياسي وفي طرح موضوعات يستحيل مناقشتها فى وسائل الإعلام التقليدية للنِّـقاش العام
على عكس موقِـفها السَّـابق في الإضراب الذي دعت إليه مجموعة شباب مصريين عبر موقع “الفايس بوك” على شبكة الإنترنت في 6 أبريل الماضي، قرّرت جماعة الإخوان المسلمين المصرية دعوة أنصارها للمشاركة في الإضراب، المُـقرّر له يوم الأحد 4 مايو الجاري، وهو تحرك دعت إليه قِـوى شبابية مختلفة.
وأوضحت الجماعة – مبرّرة موقِـفها – بأنه يأتي لمساندة القِـوى الداعية للتغيير السِّـلمي والملتزم بالقانون ولمواجهة الأوضاع المرتدِّية التي يعاني منها الشعب المصري عموما.
موقف الجماعة على هذا النحو، يُـحاول تأكيد أمرَين: الأول، هو حجم الجماعة وشعبيتها الكبيرة من ناحية، في ظل تنظيمٍ مُـحكم مشهود لها، والثاني، الردّ على كل الانتقادات التي قيلت بشأن موقِـفها السابق الرّافض للمُـشاركة في إضراب 6 أبريل الماضي والذي يُختلف على تقْـييم درجة نجاحه، باعتبار أن الدّاعين إليه هم قِـوى عشوائية غير معروفين في الساحة السياسية، وأن تنظيم الإضرابات والاحتجاجات، يجب أن يكون من قِـوى منتظمة.
مفارقة ونتيجة
والمفارقة هنا، أن الذين دعَـوا إلى إضراب الرابع من مايو الجاري، هم أيضا مجموعة شباب غير معروفين في الساحة السياسية، وجاءت دعوتهم ردّا على قِـيام السلطات الأمنية باعتقال عددٍ من شباب “الفايس بوك”، الذين دعوا إلى الإضراب السابق، وتأكيدا لِـما يرونه مطالب مشروعة، من قبيل رفع الأجور وربطها بالأسعار والإفراج عن المُـعتقلين ومواجهة الفساد والمُـفسِـدين وتوفير فُـرص عمل للأجيال الجديدة، وهي مطالب اجتماعية تتبناها وتقوم بها شريحة عريضة من المجتمع ولا تقِـف عند حدّ جماعة سياسية دون أخرى.
وربما من هذه الزاوية، اعتبرت جماعة الإخوان، وبعد إعادة تقييم موقفها السابق، أن المشاركة في الإضراب الثاني، بمعنى الامتناع عن الذهاب إلى العمل والبقاء في المنازل ورفع بعض الإشارات السّوداء على أسطُـح البيوت وشرفاتها، لا يُـضعف موقفها، وإنما يُـقوِّيه ويوفِّـر لها فرصة قيادة القِـوى غير المنظورة، وغالبيتها شباب غـضّ سياسيا ومملوء بتوجه نقدي لأوضاعه الحياتية في التحركات الاحتجاجية التي يُـتوقَّـع لها أن تتكرّر مُـستقبلا.
تطور كيفي مُـهم
حركة الدعوة للإضراب، سواء شاركت فيها الجماعة التي تُـعد محظورة قانونا في مصر أم لم تشارك، تمثِّـل بدورها تطوُّرا كيْـفِـيا مليئا بالدّلالات السياسية والاجتماعية.
فبالرغم من أن هناك ارتِـباك في تحديد المصدر الأول للدعوة إلى إضراب السادس من أبريل الماضي، فالثابت أن مُـدوِّنة أليكترونية لشابة مصرية لا يتجاوز عمرها الثلاثين عاما، اسمها إسراء عبد الفتاح، تلقَّـت الدّعوة وأعادت طرحها على الإنترنت، واستقطبت عددا كبيرا من مؤيِّـدي دعوة الإضراب، وصل إلى ما يقرب من 63 ألف شخص، ممّـا جعل لها صدىً مُـدوِيا بين الشباب وحركات المعارضة غير المنظمة أو غير المُـنتمية إلى أحزابٍ بعينها.
ومن هنا، اعتبر كثيرون، بما في ذلك سلطات الأمن، أن صاحبة هذه المُـدوّنة هي المسؤولة عن الدّعوة إلى الإضراب بالدرجة الأولى.
الأمر البارز هنا، أن رُوّادَ شبكة الإنترنت باتوا لاعبين أساسيين في توجيه العمل السياسي وفي طرح موضوعات للنِّـقاش العام، يستحيل مناقشتها فى أدوات النشر والإعلام التقليدية، التي تسهل السَّـيطرة عليها أو توجيهها أو إخضاعها لقيود قانونية عديدة، خاصة الواقعة تحت سيطرة الحكومة بشكل أو بآخر.
أدوار بارزة للمُـدوِّنين
وفي مصر، كان للمدونين، وغالبيتهم الساحقة غير منتمين لأحزاب سياسية، دورٌ كبيرٌ في إثارة عدد من قضايا التعذيب التي تعرّض لها مواطنون في أقسام الشرطة، ومنها ما تطوّر إلى ساحات القضاء وحُـكم فيها على الضبّـاط الذين قاموا بمثل هذا التعذيب.
كما كان لبعض المُـدوِّنين نصيب من الاعتقال لفترات مُـتفاوتة، لاسيما هؤلاء الذين نالوا نصيبا من الجُـرأة في طرح الموضوعات المختلفة واستطاعوا أن يشكِّـلوا بُـؤرَ استِـقطاب لكثير من الرُوّاد لمواقعهم التي أنشؤوها
ومن هذه الأسماء، أحمد محسن وعبد الكريم نبيل سليمان ورامي صيام وعبد المنعم محمود وأحمد شوقي، ولكل منهم مُـدوّنة مميّـزة، وآخرين غيرهم.
من مصر إلى الأردن
ما ينطبِـق على مصر هنا، هو نفسه ما ينطبِـق على مجتمعات عربية أخرى، فشباب الأردن الذي يُـعاني ممّـا يعاني منه شباب مصر، قرّر محاكاة الدّعوة إلى الإضراب في يوم 4 مايو نفسه، وعبر الطريقة نفسها، أي مُـدوّنات ومواقع إنترنت تحت شِـعار إضراب النشامى والرجّـالة، لا حزبية ولا سياسية – شعبية، وشعبية – شعبية، كما رفع مطالِـب تكاد تكون نُـسخة من مطالب شباب مَـصر، من قبيل أن “تُـسيطر الحكومة على الأسعار وتثبت أسعار الغاز والكهرباء، ووقف بيع مُـمتلكات الوطن وإنصاف موظّـفي القطاع الخاص ووضع ضوابِـط قانونية ملزمة للشركات لرفع رواتبهم“.
المُـحاكاة والتأثير العابِـر للحدود، ظهرت تأثيراته فورا على شباب فلسطين، الذين اقترح بعضهم عملا مُـشتركا مَـصريا أردنيا فلسطينيا أو تحالفا شبابيا يكون له دوره المباشر في تغيير حقيقي في الشرق الأوسط، ولكن بأيدي أبنائه، وليس على طريقة الرئيس بوش ورُؤيته لشرق أوسط كبير ينحني للمطالب الأمريكية، وما أكثرها.
مرحلة جديدة من العمل السياسي
المراقب لهذا التطور يُـمكنه بسهولة الاستنتاج أنّ المجتمعات العربية تدخُـل مرحلة جديدة من العمل السياسي، قِـوامه مجموعات من الشباب الناقد لأوضاع مُـجتمعه، موظِّـفا الفضاء المعلوماتي، بما فيه من حرية عالية عبر مدوِّنات تمتزج فيها اللغة المباشرة والقضايا الحيّـة والرّغبة في التأثير وتغيير المجتمع.
إنها مرحلة الديمقراطية الافتراضية التي تسعى إلى أن تكون مقدّمة لديمقراطية عُـضوية يعيشها الناس فعلا في الواقع، وهنا، تبرز حالة صراع جيلي بكل ما تعنيه الكلمة من رموز ودلالات ونتائج.
فالأجيال التقليدية الحاكمة والمُـتحكمة، حتى تلك التي تنضوي تحت أحزاب رسمية معارضة، ترى فيما تفعله الأجيال الجديدة إثما جَـديرا بالمُـطاردة والاعتقال والزجّ وراء السجون، أما الأجيال الصاعدة، التي اعتادت على فُـسحة ورحابة وحرية الإنترنت، فترى أن دورها هو تغيير المعادلات القائمة عبر توظيف آليات الاتِّـصال الحديثة.
وفي كل مرّة يثبِـت فيها الجيل الجديد، مستعينا بالفضاء المعلوماتي الرحب، قدرته على اكتساب موقع جديد، تخرج دعوات الأجيال القديمة ومؤيِّـديها لحجب أو حظر مواقِـع أو منع الشبكة نفسها أو على الأقل فرض قيود على استخدامها، حتى أن البعض فكَّـر في مصر ودعا إلى حجب موقع “الفايس بوك”، متصوِّرا أن ذلك سيردَع حركة التغيير، فيما قام البعض بتصوير الموقِـع باعتباره ماخورا للفساد، لعلّ ذلك يدفع الأجيال الجديدة للتخلي عنه، فيما ردّ شباب بأن هذا النوع من التفكير لا علاقة له بحركة التطوّر في العالم، وأن حجْـب موقع، فهناك آلاف بل ملايين تفعل الفعل نفسه، وهل هناك مَـن يُـمكنه حجْـب الشبكة فعلا؟
عربيا.. أسماء بارزة أيضا
وكما في مصر أسماء لمدوِّنين لها رنينها، عربيا أيضا، توجد أسماء معروفة برِيادتها في التَّـدوين وفي النقد السياسي والاجتماعي، منها فؤاد الفرحان المدوّن السعودي الذي أطلقت السلطات سراحه يوم 28 أبريل الماضي بعد اعتقال لمدّة أربعة أشهر على ذمّـة مخالفات تنظيمية لم تُـعلن تفاصيلها، والسعودي مسفر الوادعي، الذي حَـجب موقع مكتوب مدوِّنته دون سبب مُـعلن، والجزائري عبد السلام البارودي، الذي حقّـقت معه السلطات الأمنية لأنه انتقد أوضاعا سياسية في بلده الجزائر، والتونسي المرحوم زهير اليحياوي الذي كان أول شخص يُسجن في بلاده بسبب كتاباته على شبكة الإنترنت وغيرهم كثيرون في سوريا وليبيا والمغرب واليمن.
وحتى اللحظة، تبدو عملية التغيير مرهُـونة بجُـرأة فردية هنا أو هناك، ومع ذلك، يلحظ المرء عملية تنظيم أولية تهدِف إلى تجميع قدرات المدوِّنين ووضعها فى إطار مؤسسي ما، من ضمن أهدافه حماية المدوِّنين وريادتهم الافتراضية، والدِّفاع عن أيٍ منهم يتعرّض للاعتقال أو المطاردة.
ومن المحاولات البارزة، اتحاد المدوِّنين العرب والمدوِّنين المَـصريين وفدرالية المدوِّنين الليبيين واتحاد المدوِّنين بالإمارات، والقائمة تطول، ولكنها تعكِـس رغبة في التنظيم والمؤسسة، وقد تتلوها خُـطوات أخرى لتشكيل قوى سياسية أصيلة، تبدأ من قاع المجتمع وتتغلغل في ثناياه، وتشكّـل تيارا جارفا يحقق تغييرا حقيقيا، ولو بعدَ حين من الزّمن المنظور.
د. حسن أبوطالب – القاهرة