المثقف والسياسي.. من يتبع الآخر؟!
محمد حلمي عبد الوهاب
ثمة تساؤلات عديدة تبرز في سياق البحث عن العلاقة الحاكمة لكل من المجالين الثقافي والسياسي في واقعنا المعاصر يأتي على رأسها: من اين تنبع سلطة المثقف في الواقع السياسي؟ وكيف يمكن للمعرفة ان تلعب دوراً مهماً، ايجابيا كان أو سلبياً، في الحياة العامة؟ وما الأدوار التي تترتب على وجود المثقف بقرب السياسي؟
وفي الواقع؛ ان هذه التساؤلات على قدر كبير من الأهمية لأنها تكشف عن الحاجة الماسة المتزايدة لأن يلعب المثقفون المعاصرون أدواراً تتجاوز حدود التثقيف من جهة، ولأنها تكشف كذلك غياب هؤلاء المثقفين عن الساحة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهة ثانية.
بيد ان عجلة التساؤلات لا تتوقف مطلقاً؛ وانما لا تنفك تحيل بدورها الى تساؤلات اخرى عائدة ما تتعلق بتحديد سلطة المعرفة من ناحية، ومعرفة السلطة من ناحية ثانية، مثلما تتعلق بتحديد نوع المعرفة التي تمنح صاحبها سلطة أكبر من غيره؛ هل هي المعرفة الدينية في مجتمعاتنا العربية الاسلامية؟ أم المعرفة العلمية التقنية في المجتمعات الغربية؟
وفي كل الأحوال، يمكن القول بأن سلطة المثقف انما تنبع اساسا من سلطة المعرفة، كل معرفة، التي يمتلكها. اضف الى ذلك انه من المفترض دائما ان يمثل المثقفون مرجعية المجتمع في التعامل مع ظواهر الحياة وجوانبها المختلفة، وتبعا لذلك فان المقصود بالسلطة الثقافية في هذا السياق هو: العلاقة التي تنشأ بين طرفين، يكون فيها للطرف الأول هيمنة على الثاني، تجعل لاأخير يفعل ما يطلبه الاول عن طريق الاقتناع، وليس تحت الضغوط او الالزام المادي او القانوني.
أي أننا نتحدث هنا، في الاساس، عن علاقة ولاء وانتماء عفوي من الطرف الثاني “الجماهير” للطرف الاول “المثقف” سواء كان ذلك يصدر عن وعي ارادي تام او بلاوعي مطلقاً. فما هي حقيقة العلاقة التي تربط كلا السلطتين” السياسية والثقافية؟ وما هي مهام المثقف فيما يتعلق بموقفه من السلطة القائمة؟
يمكن القول بأن من يملك السلطة السياسية يحتاج ضرورة الى نوع من المعارف تساعده في صراعه مع منافسيه ويمكنه في الوقت نفسه من الاحتفاظ بالسلطة. وهذه المعارف تكون مهمتها الاساسية ممثلة في اضفاء طابع من الشرعية على السلطة المعلنة من جهة، وأن ترسخ من صورتها الحسنة ـ اذا ما كانت موجودة بالفعل ـ لدى العامة من جهة ثانية. ونتيجة ذلك، يتمتع الحاكم بمزيد من كسب التأييد وتعبئة الجماهير لصالح خططه وأهدافه وقراراته المعلنة والخفية على السواء.
فمن المعلوم بداهة ان طبيعة المهام الموكلة الى صاحب السلطة السياسية تحول عادة دون تفرغه لاكتساب تلك المعارف، الامر الذي يجعله يلجأ دائماً الى ممثلي السلطة الثقافية باعتبارهم يشكلون مرجعاً حياتيا لكافة اشكال العلاقات الانسانية المعاشة؛ فضلا عن تمكنهم من استدعاء الخبرات والتجارب التاريخي السابقة والاستفادة منها في الحاضر والمستقبل معاً.
والواقع ان العلاقة التي تحكم السلطتين الثقافية والسياسية في غاية التعقيد والتشابك، نظرا لتداخل عدد كبير من العوامل السياسية والاجتماعية والدينية، بل والشخصية، في صياغتها وتبلورها فضلا عن تنوع مناحيها وانكسار منحنياتها، مما يحول دون الوقوف عليها وتحديدها ولو بشكل تقريبي.
فعلى سبيل المثال؛ اذا كانت مهمة السلطة السياسية، في جوهرها، تتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد نقاط ضعفه الذاتية، فان هذه المهمة لا بد لها من مرجعية ثقافية تقرر ما اذا كانت تمضي على النحو الصحيح أم لا؟ ومن ثم؛ فان كل خروج عن هذه المرجعية يشكل نكوصاً عن مهمة السلطة الجوهرية المقررة، سواء كان ذلك يتعلق بالحفاظ على استقرار المجتمع، او بالعمل على تطويره وفق قواعد تتناسب مع ظروفه وتاريخه وحاضره، وهو نكوص يؤدي بالضرورة الى حدوث شرخ في العلاقات الاجتماعية الداخلية بين المجتمع والسلطة، أو بين الفرد والمجتمع، أو حتى في اطار العلاقات التاريخية الثقافية على نحو ما لاحظ البعض.
ونتيجة لذلك؛ لا تنفك السلطة السياسية في حاجة ماسة الى السلطة الثقافية، وهو امر قد وعته جيداًَ منذ القديم فظلت حريصة على الهيمنة شبه الكاملة على ممثلي السلطة الثقافية، تستمد منهم تأكيداً لشرعية وجودها عند الرعية، وتلجأ اليها لتبرير وتمرير قوانينها وأهدافها التي تخدم مصالحها. وفي مقابل ذلك كان ممثلو السلطة الثقافية على وعي تام بطبيعة المصالح المشتركة التي تقوم عليها العلاقة بينهم وبين السلطة السياسية.
يتحصل مما سبق ان اصحاب السلطة السياسية قد نجحوا بالفعل، من خلال هؤلاء، في تحقيق المكاسب التي لم يستطيعوا تحقيقها عبر اللجوء الدائم الى استخدام العنف، فاذا كان بوسع طاغية ضيق الافق ان يقيد عبيده بأغلال من حديد؛ فان السياسي الحقيقي يقيدهم بأغلال افكارهم الشخصية، وهو قيد اقوى بكثير من اساليب التعذيب المختلفة، خاصة وأننا نجهل نسيجه ونظن انه من صنعنا ومن محض اختيارنا وارادتناَ!!
المستقبل