جلاّدو بوش
تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov
ترجمة : محمد الحاج سالم
صدر هذا المقال في العدد الخامس من مجلّة
(Books)
لشهر أيّار/ماي 2009 بقلم الفيلسوف والمؤرّخ الفرنسيّ من أصل بلغاريّ تزفيتان تودوروف
(Tzvetan Todorov)
، وهو يتناول فيه بالتّحليل الممارسات الأمريكيّة في مجال التّعذيب في ضوء الوثائق التي كشف
عنها يوم 16 نيسان /أبريل 2009 من قبل إدارة الرّئيس باراك أوباما
تلقي الوثائق التي نشرت في 16 نيسان / أبريل 2009 من قبل إدارة أوباما والمتعلّقة بممارسات التعذيب في سجون وكالة الاستخبارات المركزيّة
(CIA)
ضوءا جديدا على هذه المسألة: كيف نفسّر السّهولة التي قبل بها أشخاص يعملون لصالح حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ممارسة التّعذيب ضدّ سجنائهم؟
إنّ هذه الوثائق لا تكشف وقائع التّعذيب في ذاتها، فهي معلومة لكلّ من أراد أن يعرف. أمّا الجديد، فهي كشفها معلومات حول مجريات جلسات التّعذيب وكيفيّة النّظر إليها من قبل عملاء وكالة الاستخبارات المركزيّة.
وأوّل ما يصدم المرء هو ما تنمّ عنه كتيّبات تلك الوكالة الاستخبارتيّة من تنظيم مدهش في دقّته تمّ إقراره من قبل المسؤولين القانونيّين للحكومة. ويمكن للمرء أن يتصوّر هنا أنّ ممارسات التّعذيب لا تخرج عمّا يسمّى عادة “أخطاء”، أي تجاوزات غير مقصودة للمعايير من قبيل تلك التي قد تدعو إليها ضغوطات آنيّة. إلاّ أنّه سيكتشف على العكس من ذلك أنّ الأمر يتعلّق بإجراءات منظّمة في أدقّ تفاصيلها ومرسومة بالسّنتيمتر والثّانية.
يتّخذ التّعذيب عشرة أشكال، ثمّ يتطوّر إلى ثلاثة عشر شكلا مقسّمة إلى ثلاث فئات لكلّ منها درجات متفاوتة من الحدّة: تمهيديّة (العري، التّلاعب بالنّظام الغذائي، الحرمان من النّوم)، وتأديبيّة (الضّرب)، وقسريّة (الرشّ بالمياه، الحبس في صناديق مغلقة، التّعذيب في المغطس).
فبخصوص الصّفع، فإنّ على القائم بالاستجواب أن يصفع المستجوب وأصابع يده مفتوحة مع تركيز الضّربة على المنطقة الموجودة بين طرف الذّقن وأسفل فلقة الأذن. كما لا يمكن لرشّ السّجين بالمياه أن يستغرق أكثر من عشرين دقيقة إذا كانت حرارة المياه 5 درجات مئويّة، وأربعين دقيقة إذا كانت في حدود 10 درجات مئويّة، ويمكنها أن تصل إلى ستّين دقيقة في حال كانت حرارتها 15 درجة مئويّة. ولا ينبغي للحرمان من النّوم أن يتجاوز 180 ساعة، إلاّ أنّه يمكن استئناف ذلك مجدّدا بعد ثماني ساعات من الرّاحة. ويمكن للتّغطيس في الحمّام أن يصل إلى 12 ثانية، على ألاّ يتجاوز الأمر أكثر من ساعتين في اليوم ولمدّة ثلاثين يوما متتالية (تعرّض أحد الأسرى العنيدين بشكل خاصّ لهذا التّعذيب 183 مرّة في آذار / مارس 2003). كما لا ينبغي للحبس في صندوق صغير أن يتجاوز ساعتين، ولكن إذا كان الصّندوق يسمح للسّجين بالوقوف، فيمكن حينها رفع المدّة إلى ثماني ساعات متتالية ولمدّة 18 ساعة يوميّا. وإذا ما قام المحقّق بإدخال حشرة في الصّندوق، فلا يجب عليه أن يخبر السّجين بأنّ اللّدغة ستكون شديدة الإيلام أو أنّها ربّما أدّت إلى الوفاة. وهكذا طوال صفحات…
كما تخبرنا تلك الوثائق عمّا يتضمنّه تدريب الجلاّدين. فمعظم ما يقومون به ليس إلاّ نسخة عن البرنامج التّدريبيّ الذي يخضع له الجنود الأمريكيّون خلال إعدادهم لمواجهة الحالات القصوى (وهذا ما يسمح للمسؤولين بالقول بأنّ تلك المحن ممكنة الاحتمال تماما). والأهمّ من ذلك، أنّه يتمّ اختيار ممارسي التّعذيب أنفسهم من بين الذين اكتسبوا “خبرة مدرسيّة مديدة” في هذه المحن القاسية، وبعبارة أخرى، فإنّ هؤلاء الجلاّدين سبق لهم هم أنفسهم أن عُذّبوا، وهو ما يسمح لهم بعد الخضوع لتدريب مكثّف لمدّة أربعة أسابيع أن يكونوا على أتمّ استعداد لمباشرة مهمّتهم الجديدة.
أمّا الشّركاء الذين لا غنى عنهم للجلاّدين، فهم المستشارون القانونيّون للحكومة الذين لا يتوانون عن ضمان الإفلات من العقاب القانوني لزملائهم، وهذا أيضا أمر جديد: لم يعد التّعذيب يصوّر على أنّه انتهاك للمعايير الجماعيّة، بل مجرّد أمر مؤسف ولكنّه مبرّر، بل هو المعيار القانوني نفسه. وفي سبيل المساعدة على التهرّب من القانون، استخدم رجال القانون سلسلة أخرى من التّقنيات، فنصحوا بوجوب إجراء الاستجوابات خارج الولايات المتّحدة حتّى وإن كان ذلك داخل قواعد أمريكيّة. وبما أنّ التّعذيب وفقا للتّعريف الوارد في القانون ينطوي على نيّة التسبّب في ألم حادّ، فقد اقترحوا على الجلاّدين نفي وجود مثل تلك النيّة لديهم. وبذلك أضحت الصّفعات الموجّهة للمساجين لا تستهدف الإيلام، بل المفاجأة والإذلال. كما أضحى الحبس في الصّناديق لا يستهدف إحداث خلل في الحواسّ، بل إعطاء السّجين إحساسا بعدم الرفاهيّة! وعلى الجلاّد أن يصرّ دائما على “حسن نيّته” و”استقامة معتقداته” ومنطقيّة مقدّماته. كما ينبغي عليه باستمرار استخدام عبارات ملطّفة من قبيل “تقنيات معزّزة” مقابل تعذيب، و”خبير في الاستنطاق” مقابل جلاّد، والعمل أيضا على تجنّب ترك آثار ماديّة، ومن هنا أفضليّة التّدمير العقليّ للسّجين على الإضرار الماديّ به؛ وذلك بالتّوازي مع إتلاف كلّ التّسجيلات المرئيّة مباشرة بعد انتهاء جلسات التّعذيب.
ولقد تورّطت عدّة فئات مهنيّة أخرى أيضا في ممارسة التّعذيب، وانتشرت العدوى متجاوزة الدّائرة المحدودة للجلاّدين. فعلاوة عن رجال القانون الذين وفّروا الغطاء القانونيّ لتلك الممارسات، تمّت الإشارة بصورة منتظمة إلى علماء نفس وأطبّاء نفسانيّين وأطبّاء (حضورهم وجوبيّ في كلّ جلسة) ونساء (الجلاّدون هم حصرا من الرّجال، إلاّ أنّ التعرّض للإذلال أمام نساء يفاقم الشّعور بالهوان) وأساتذة جامعات، وذلك لإيجاد وخلق المبرّرات الأخلاقيّة أو القانونيّة أو الفلسفيّة لتلك الأفعال.
من ينبغي أن يتحمّل اليوم مسؤوليّة هذه الانحرافات عن القانون وعن أبسط المبادئ الأخلاقيّة؟
إنّ مسؤوليّة القائمين طوعيّا بممارسة التّعذيب أقلّ من مسؤوليّة كبار الموظّفين القانونيّين الذين برّروه وشجّعوا عليه، وهي أقلّ من مسؤوليّة أصحاب القرار السّياسي الذين طلبوا منهم القيام بذلك. كما تتحمّل الحكومات الأجنبيّة الصّديقة أيضا، وبخاصّة الدّول الأوروبيّة، بعضا من المسؤوليّة: لقد كانت دائما على علم بهذه الممارسات، واستفادت من المعلومات التي كان يتمّ الحصول عليها بهذه الطّريقة، دون أن يحدث أن قامت بالاعتراض على ذلك أو حتى التّعبير عن أدنى استهجان أو استنكار، فما السّكوت إلاّ علامة الرّضا.
هل ينبغي لنا بالنّتيجة مقاضاة المسؤولين؟
في دولة ديمقراطيّة، تتمثّل إدانة السّياسيّين في حرمانهم من السّلطة بعدم إعادة انتخابهم. أمّا بالنّسبة لغيرهم من المهنيّين، فيمكننا أن نتوقّع عقابهم من قبل نظرائهم، فمن منّا يرضى أن يكون طالبا عند أستاذ من هذا الصّنف؟ أو متقاضيا أمام قاض من هذه النّوعيّة؟ أو مريضا يباشره طبيب من هذه الفئة؟
أمّا إذا أردنا أن نفهم لماذا قبل هؤلاء الأميركيّون البواسل بكلّ سهولة أن يصبحوا جلاّدين، فلسنا هنا في حاجة البتّة إلى الاعتقاد في وجود كراهيّة تجاه المسلمين والعرب أو في تجدّد خوف قديم منهم. كلاّ، فالوضعيّة أسوأ من ذلك بكثير، ولعلّ الدّرس المستفاد ممّا كشف من وثائق هو بالأحرى أنّه ما من رجل تلقّى تكوينا مناسبا وكان مطيعا للمبادئ النّبيلة التي يمليها “الإحساس بالواجب” وضرورة “الدّفاع عن الوطن”، أو كان مدفوعا بالخوف على حياته وحياة أسرته، إلاّ أمكن له أن يصبح جلاّدا.
موقع الآوان
أشكر القائمين على هذا الموقع لاهتمامهم بمقالي المترجم “جلادو بوش” المنشور على موقع الأوان، وأشكر لهم أمانتهم في ذكر اسم الكاتب واسم الموقع، وهذا نادر في أيامنا…
هذا أولا. أما ثانيا، فقد لاحظت وجود تشويش في الفقرتين الأولى والثانية من المقال من حيث ترتيب الكلمات مما يفقد متعة القراءة. لذا الرجاء تصحيح الأمر، ودمتم مناضلين في سبيل الحرية.
د. محمّد الحاج سالم