تحدي الهوية في الخليج
برهان غليون
كانت الهوية الوطنية، وما يواجهها من مخاطر وتحديات، وما يستدعي الحفاظ عليها من سياسات ثقافية وسكانية، موضوعا لندوات متعددة أجريت في دول الخليج في إطار إعلان عام 2009 عام الهوية الوطنية من قبل مجلس التعاون الخليجي.
وقد أتيح لي المشاركة في ندوتين، في المنامة أولا بدعوة من جامعتها، ثم في الشارقة بدعوة من كلية التقنية الإماراتية. والواقع أن الحفاظ على الهوية الوطنية أو تعزيزها لا يشكل اليوم تحديا كبيرا بالنسبة لبلدان الخليج وإنما في بلدان العالم أجمع.
لكن بسبب ما شهده الخليج في العقدين الماضيين من فورة اقتصادية وعمرانية قل مثيلها في التاريخ، وما نجم عنها من تحولات عميقة وسريعة معا في البنيات السكانية والعمرانية والاجتماعية والثقافية والنفسية، يشكل الحفاظ على الهوية الوطنية مصدر قلق متزايدا للعديد من النخب الثقافية والاجتماعية.
هناك في اعتقادي ثلاثة أبعاد لمسألة الهوية في الخليج، كما ينظر إليها أصحاب المنطقة أنفسهم. الأول تناقص نسبة عدد السكان الأصليين بالمقارنة مع عدد الساكنين وأغلبيتهم اليوم من الوافدين. والثاني تراجع مكانة اللغة والثقافة العربية والقيم الإسلامية في حياة المجتمع ككل، وفي سلوك أهل البلاد الأصليين من جهة أخرى. والثالث تراجع الوعي الوطني بالمقارنة مع الوعي المذهبي أو الإتني، مما يخلق بؤر توتر داخلي، ويجعل من المجتمع جماعات متجاورة، لا يربط بينها سوى ميدان العمل وتحصيل الرزق أو الربح، ولا يجمع بينها أو يلحم نسيجها أي تفاعل ثقافي أو سياسي أو مجتمعي.
يعتقد العديد من الباحثين الخليجيين أن نسبة عدد السكان الأصليين للوافدين في تناقص مستمر، وهي لا تكاد تصل إلى عشر عدد السكان المقيمين في بعض البلدان. وبالرغم من أن سيطرة الأقلية العربية لا تتعرض اليوم، وربما لن تتعرض في المستقبل القريب، لأي تحد ذي وزن، فإن قلقا كبيرا بدأ ينتشر بين المثقفين وعامة الشعب نتيجة انحسار الطابع الوطني المحلي في حياة البلاد.
فلا يمكن للحضور الكثيف للجماعات الوافدة -الآسيوية والأوروبية بشكل خاص- أن لا تترك بصماتها بل أن تفرض رموزها وألوانها ولغاتها، حتى لو لم تملك وسائل السلطة السياسية وأدواتها.
والدليل أن الخليجيين أنفسهم تبنوا اليوم اللغة الإنجليزية كلغة اتصال بينهم وبين مجتمع الوافدين من شتى أنحاء العالم، حتى أصبحت الإنجليزية بالفعل، أي من حيث الوظيفة السوسيولوجية التي تؤديها، هي اللغة “الوطنية” الفعلية في البلاد. ومن النادر أن تستطيع التواصل في الفضاء العام مع الآخرين، بما في ذلك العرب أنفسهم، إذا لم تكن تتحدث الإنجليزية.
ومن لا يتحدثها يظهر بالضرورة وكأنه عديم الثقافة والعلم أو التعليم. وفي هذا السياق وتأكيدا له لم تعد الإنجليزية لغة التواصل داخل الفضاء العام المدني فحسب ولكنها أصبحت أيضا لغة الإدارة، وهي إلى حد كبير لغة التعليم في أكثر المدارس والجامعات الوطنية والأجنبية.
فما يحصل في دول الخليج الصغيرة هو أن الجماعة الوطنية التي تحولت إلى أقلية اجتماعية وثقافية هي التي بدأت تذوب وتنحل في الأغلبية من الوافدين وليس العكس. وفي الخليج وحده يتكلم أهل البلاد الأصليين لغة الوافدين وليس العكس.
يعتقد الكثير من أصحاب الأعمال والتجار والفئات المستفيدة من العمالة الآسيوية أن ما حصل قد حصل، ولا حل إلا في التعامل معه. لكن النخب الخليجية منقسمة في الواقع حول هذه المسألة. فهناك من يعتقد أن علينا التسليم بالأمر الواقع، والقبول بأن تكون بلدان الخليج في المستقبل بلدانا متعددة الجنسيات.
لكن قسما كبيرا من النخبة يبدو أكثر قلقا ويطالب بإجراءات أكثر فعالية لوقف تدهور الميزان السكاني لغير صالح العرب. والحال أن مثل هذا الاتجاه يستدعي تغييرا جذريا في أسلوب التنمية الخليجية. فبدل الاعتماد على الإنفاق الواسع والسريع في الاستثمار في عين المكان، اعتمادا على العمالة والخبرة الأجنبية معا، يمكن المراهنة على تنمية طبيعية في الداخل والتوسع في الاستثمارات الخليجية في المحيط المباشر، بحيث يصبح الخليج القلب المحرك الأكبر لاقتصاد إقليمي مندمج يتجاوز الخليج ويحضنه، ويجنبه التحول إلى جزر معزولة ومنفصلة عن البيئة المحلية.
وفي هذه الحالة لا بد من القبول بسياسة تنموية محلية أكثر تواضعا، وأقل نزوعا إلى تجاوز جميع المقاييس الدولية، أي بناء أفضل المطارات وأعلى الأبراج وأضخم الأسواق وأجمل الأحياء السكنية وأكثر المدن في العالم تنوعا وجاذبية، لصالح بناء مجتمعات مندمجة في محيطها الإقليمي ومتفاعلة معه، بل فاعلة اقتصاديا وسياسيا وربما ثقافيا فيه.
ومن شأن هذا التحول أن يدفع إلى تجاوز قضايا النزاع المذهبي في المنقطة العربية بأكملها، ويعزز الهوية العربية داخل الخليج وعلى محيطه في الوقت نفسه. فتعزيز الهوية الوطنية في الخليج لا ينفصل عن تعزيز الهوية الوطنية العربية عموما ولا يستقيم من دونها.
والقصد أن ما حصل -بما في ذلك تحدي الهوية واختلال الميزان السكاني لغير صالح المواطنين المحليين- لم يكن نتيجة أي حتمية تاريخية أو جغرافية. لقد كان النتيجة الطبيعية لسياسة، لا أدري إذا كانت واعية لنتائجها منذ البداية أم لا، لكنها سياسة مختارة ومرادة، تجمع بين البحث عن أرخص عمالة ممكنة كي تزيد من فائض القيمة المحصل من الاستثمار، والخوف من مخاطر استخدام عمالة عربية، كانت في الخمسينيات والستينيات حاملة لنزعة ثوروية وقومية رديكالية، تتعارض مع سياسات دول الخليج المحافظة، كما تهدد بأن تكون أداة للضغوط السياسية في يد بعض النظم القومية.
وقد دفع تضافر هذين العاملين بالإضافة إلى حاجة بلدان الخليج إلى الحماية الغربية إلى ولادة نمط طريف من التنمية يجمع بين أرخص عمالة ممكنة وأكبر قوة استثمارية مالية معا، وكانت النتيجة طفرة استثنائية قائمة على خلق أسواق خليجية كبرى من عدم، اعتمادا على عوامل تكاد تكون جميعها خارجية وافدة: العمالة والخبرة والبضاعة معا، وتحويل الخليج إلى أكبر ورشة بناء إقليمية، بل ربما عالمية في محيط إقليمي يتسم أكثر من أي مناطق عالمية أخرى بالجمود والاستنقاع بل وتدهور شروط المعيشة الإنسانية.
وبمقدار ما فصل هذا النمو الاستثنائي الخليج عن محيطه العربي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ونفسيا أيضا، أضعف هويته الوطنية وعمق الشعور بالانتماءات المذهبية حتى عند سكان الخليج أنفسهم. وأكثر فأكثر تدرك نخب الخليج المفارقة والمخاطر الكامنة في التباين المذهل بين تطور مارد القوة الاقتصادية وأسواق المال والاستثمار وضعف بل هشاشة القاعدة الإستراتيجية والسياسية والأيديولوجية التي يستند إليها، والتي لا تكاد تتجاوز الضمانات غير الأكيدة وغير الناجعة التي تقدمها الدول الغربية والولايات المتحدة بشكل خاص، كما دلت على ذلك حربي العراق وأفغانستان.
لا يصون هوية الخليج الثقافية والسياسية والأمنية سوى اندماجه في محيطه العربي وتحوله إلى جزء لا يتجزأ منه. وليس هناك ما يمنع دول الخليج، إذا كانت مهتمة فعلا بالحفاظ على الهوية الوطنية العربية الإسلامية، من مراجعة سياساتها التنموية لإعطاء البعد الثقافي الوطني مكانه أيضا في عملية بناء المجتمعات، وأن تخطط بحيث يمكنها في السنوات العشر القادمة أن تحد تدريجيا من أعداد الوافدين الآسيويين والأجانب وتزيد من نسبة الوافدين من البلاد العربية، حتى تحول دون تحول الثقافة العربية واللغة المرتبطة بها إلى ثقافة أقلية مهددة بالذوبان والانمحاء، وفي الوقت نفسه تعمل على إعادة الربط مع المحيط العربي والتفاعل الإيجابي معه.
لا يعني ذلك أي عودة إلى مفاهيم القومية والوحدة العربية، بمقدار ما يهدف إلى التفكير في مفهوم للتنمية عقلاني وقابل للحياة، لا يرتهن لمفهوم الربح المالي أو المشاريع العملاقة الملفتة للنظر فحسب، وإنما يأخذ في الاعتبار حاجات شعوب الخليج الحقيقية في الداخل، وحاجات اندماج الخليج في بيئته الإقليمية، أي إعادة توزيع للاستثمارات، تخرج الخليج من تخارجه العربي، وتمكن الخليجيين من التوسع في اتجاه البلدان المحيطة، والاستثمار فيها كما لو كانت بلدانهم نفسها، وهي في الحقيقة كذلك لأنها امتداد طبيعي لها.
من دون هذا ليس هناك شك في أننا سائرون في الخليج في اتجاه إقامة مجتمعات كسموبوليتية، تتعايش فيها الجماعات الإثنية والمذهبية على الأرض الواحدة، لكن من دون أن تتفاعل أو تتواصل، في ما وراء ما تتطلبه علاقة الشغل والربح، مجتمعات هويتها الحقيقية أنها من دون هوية وطنية.
هذا أيضا اختيار ممكن، بشرط أن ندرك تبعاته ونتحمل نتائجه الثقافية والإستراتيجية، الداخلية والإقليمية.
الجزيرة نت