صفحات العالمما يحدث في لبنان

لاهوت المسيح الدجّال

أيمن جزّيني
قد ينقاد اللبناني إلى هذيان مستمر ومقيم خلال استماعه الى تصريحات النائب ميشال عون عن المسيحيين ودورهم في لبنان. فالجنرال، على ما يناديه أنصاره ومشايعوه، لم ينفكّ يربط ربطاً وثيقاً بين استعادة المسيحيين لدورهم وتبوّئهم المرتبة التي يستحقون في الاجتماع اللبناني، وبين احتكار تمثيلهم وإناطتهم له بتدبيج سياستهم وحضورهم. والحق انه لم يسبق للمسيحيين أن تشتّتوا وتذرّروا كما هي حالهم منذ تربّع قائد حربَي “التحرير” و”الإلغاء” الخاسرتين في صدارة اجتماعهم الأهلي والسياسي. فالخيارات المطروحة عليهم صارت بين أن يكونوا شيَعاً وفِرقاً تسعى في مسالك السياسة الايرانية والسورية، بعدما اختار عون “التفاهم” مع “حزب الله”، ثم ارتدى العباءة الشامية وتصدّى لكل المطالبين بذواء الهيمنة السورية على البلد. ما يقوله عون عن ضرورة تمثيل غالبية المسيحيين وحصريتها في قيادته وشخصه ليس جديداً ولا طارئاً. ذلك انه بمعزل عن الرأي في أسباب الرجل وملابساته، فهو نصّب نفسه بطريركاً مصلحاً وشبّه نفسه بالمسيح، مقتفياً في ذلك اثر الرئيس الراحل كميل شمعون الذي نصّبه مسيحيون كثر في حياته ومماته بطريركاً سياسياً على المسيحيين. إلا ان “ولاية” عون اقتصرت على محازبيه. وحسب نفسه مصلحاّ دينياً، ومجدداً كنَسياً ولاهوتياً، إذ ينسب إليه بعض مشايعيه آراءً “لاهوتية” خاصة هدفها “تطوير المسيحية”. فهو مصلح على مثال لوثري أو كالفيني يقوم مفهومه على “المحبة” و”المجتمع”، على نحو ينجم عنه تداعي الكنيسة الماورنية وانهيارها وعزل بطريركها.
محاربة عون للكنيسة ورأسها وقيمها ليست جديدة. فهو زعم القداسة في زيارته سوريا، مرتضياً ما قيل انه يتنقّل على خطى بولس الرسول. أكثر من ذلك، فقد أعطيت “مسيرة القدّيس عون” بعداً تاريخياً، وكأنَّ سوريا هي الأهم تاريخياً للمسيحيين أكثر من فلسطين، وعلى قاعدة أنه إذا كانت الأخيرة مهد ولادة المسيح، فإن الأولى (سوريا) هي الأرض التي انتشرت منها المسيحية.
والحال هذه، تستدعي من المسيحيين تجدّداً سياسياً يعيد البلد إلى جادة الصواب السياسي. فعون لا يحب إلا التطرف، ولم يسبق له أن بحث عن تسوية يوم كان يزعم ادارة إعادة الدولة، فكانت “حرب الإلغاء”. كان الوجود السوري، وعن حق، احتلالاً، وتالياً، لا بدّ من “حرب التحرير”. عمل ليلَ نهار لاستخراج قانون “محاسبة سوريا”، وكان كل ما يمتّ إلى هذه الدولة بصلة، منكر وباطل.
فهو يفاخر بما فعله ماضياً وحاضراً. كان يريد أن يكسّر رأس حافظ الأسد قبل ان يبدي اعتزازه بتحوله جندياً في جيشه. والآن يرى تغييراً في عهد وارثه ويريد أن يطوي صفحة الأيام الخوالي مع النظام السوري.
البابا التنويري
ليس من غير دلالة ان يطلق عون سهامه المتواصلة قبل زيارة سوريا وبعدها على البطريركية المارونية ليخدم بذلك جميع الاطراف والقوى والمجموعات الثقافية، إلا المسيحيين. فهو لم يمسك نفسه عن القول خلال حواره مع الصحافي الفرنسي فردريك دُمون والذي صدر عن دار “صادر” في كتاب “رؤيتي للبنان”، “اننا مسيحيون بالمسيح، وليس من خلال الإكليروس، لأن الأمر ليس محصوراً فيهم”، ليكشف جزءاً من نظرياته اللاهوتية المجددة والتنويرية. ويسع المرء أن يسأل الجنرال القديم والسياسي المستجد عن معنى أقواله وأثرها في اللاهوت، دراسة وإيماناً واقتناعاً، وخصوصاً انه لم ينبس ببنت شفة لحماية المسيحية ورموزها عندما استعملت صور للأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، وتوسّلت بقدّيسين وكنيسة. آنذاك امتحنت الحادثة رابطة المنظمة الخمينية بغيرها من الطوائف عموماً والمسيحيين خصوصاً، وموقعها من المجتمع اللبناني، ودورها في السياسة اللبنانية.
فظهور صورة نصرالله إلى جانب صورة السيدة العذراء والقدّيس شربل والقدّيسة رفقا، وشريط الفيديو الذي يُظهر جوقة ترنيم للأمين العام في كنيسة مار يوسف – حارة حريك في وسط الحيّز الذي يفرض عليه سيطرة مطلقة، لم تدفع عون إلى شجب العمل، أو حتى الى استنكاره. ذلك ان المنظمة الخمينية المتراصّة تتنصّل من الدولة والمجتمع اللبنانيَّين ومن الأحوال التي آلت إليها جرّاء صنائعه السياسية بدعوى انّ “ديننا يأمرنا” و”ولاية الفقيه تقول لنا”. ولا يشكّ أنصار هذه المنظمة في أنهم وحدهم “الناجون” من خليط الأمّة الفاسد.
ولا يني الحزب يصدر على الاجتماع اللبناني بوصفه الطاهر المطهّر، عازياً نقاءه إلى “المقاومة” ونسبها الإيراني، وهي من أعطى لبنان “العزّة والحريّة والكرامة والوجود”. وحقه (الحزب) على لبنان جرّاء النعم التي أسبغها على البلد وأهله، أن يسكتوا عن المطالبة بالرجوع عن الأمر والتنديد به.
يحصل هذا بينما لا ينفكّ دور الطائفة المسيحية يتردّى ويزداد ضعفاً وترهّلاً قد يفضي إلى موت المسيحيين سياسياً وتذرير حضورهم الأهلي. فالقيادات المسيحية السياسية التي بنت الجمهورية الأولى ذوت معاييرها وآلياتها. وكل ما كان يفضي إلى الحط من منزلة المسيحيين وإلى إضعاف تماسكهم السيادي بإزاء التعريب السياسي البعثي للبلد لجهة تعطيل المؤسسات السياسية والدستورية، قد ارتكبته المنظمة الخمينية.
وفي الأثناء يسكت النائب عون عن قيام دولة “حزب الله” ومسالكها. ولا تستثيره إناطة هذه المنظمة بكيانها العسكري السلم الأهلي. فإذا سئل الحزب الشيعي عن القيود على الحرب واستخدام السلاح وإقامة المربّعات الأمنية وشبكة الاتصالات، خيّر اللبنانيين بين النكوص عن الهواجس والتنقل على مسارح الحروب.
ليست هذه السطور المنافحة عن المسيحيين بدعاً في بابها ما لم تدرج في تاريخ هذه الجماعة الأهلية والدينية، واستنكاف عون عن الدفاع عنهم، بل على العكس فقد هاجم قيمهم وسعى في تغييرها. فالمسيحيون اللبنانيون عاشوا تاريخهم في كل زاوية من هذا الشرق، ولم يُعطَ لهم ما أُعطيَ مسيحيّو روما وبيزنطيا. ولم يحفظ التاريخ ذكرى شعب أصابه من المحن ما أصابهم على امتداد هذا الشرق، وصاروا كالمسيح الذي رهن حياته للناس: حيناً رهينة للفرس والرومان، وأحياناً للعرب والأتراك. أجبروا على دفع الجزية عن أخطاء ما ارتكبوها. باسمهم جاء الصليبيون فدفعوا الجزية عن مطامعهم بعدما رحلوا باسمهم، وكذلك كانت حال النساطرة في العراق مع الفرس جرّاء ما اقترفه البيزنطيوّن. وباسمهم جاء الغرب للدفاع عنهم فكادوا أن يصيروا عبيداً عند العثمانيين.
ما قدّمه المسيحيون إلى العرب لم يقدّمه أحد منذ نجران وغسان والحيرة حتى بني أميّة والعبّاس. هم من ترجم أرسطو وأفلاطون وإقليدس وهوميرس في الشام وبغداد، وأحيوا اللغة والفن بعد عصر الانحطاط. هذا كله، وهناك من يغرّبهم ومن يشرّقهم. فريق يدفعهم إلى اليمين وآخر يصنّفهم باليسار، ولم ينجحوا يوماً في أن يكونوا هم كما هم.
رجاء جديد لسوريا
يسع المرء ان يطلق على عون انه “رجاء جديد” للنظام السوري في تحقيق ما عجز عن تحقيقه طوال فترة احتلاله للبلد، اي في استهداف الذي أُعطي مجد لبنان، البطريرك صفير. فسيد بكركي عايش العلاقات اللبنانية – السورية منذ بدايتها الرسمية تقريباً. وهو لا يزال يذكر بوضوح مواقف القيادات السورية المتعاقبة على الحكم وتوصيات “مؤتمر الساحل” وتأثيرها على الشارع الاسلامي في لبنان. يذكر إقفال الحدود أكثر من مرة، وعدم الاعتراف بدولة لبنانية مستقلة، وعدم قبول مبدأ تبادل السفارات بين دمشق وبيروت وتكرار مقولة أن لبنان صنيعة الاستعمار، وأنه سيأتي اليوم الذي سيعاد فيه ضمّه الى سوريا. ولا يزال يحفظ قول الوزير الراحل عبد الحميد كرامي الشهير: “لا تحرجونا كي لا تخرجونا”، على ما يروي في كتاب “السادس والسبعون” لكاتبه الصحافي انطوان سعد والصادر عن دار “سائر المشرق للنشر والتوزيع”.
التهجم على صفير تحديداً، يجد جذره السياسي في ادراكه (البطريرك) جيداً لقلق القادة السياسيين والروحيين المسيحيين المتخوفين من جلاء القوات الفرنسية من لبنان من دون توقيع معاهدة دفاع مشترك، كما طالب البطريرك أنطون عريضة والرئيس إميل إدّه. أما تجربته الشخصية في مقاربة ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية فهي كذلك غير مشجعة. فهو زار مرتين دمشق في مهمة رسمية ومرات عدة لرياضات روحية في العاصمة السورية وسواها من المدن. التقى كبار المسؤولين السوريين وكان بنتيجة ما سمعه أن قلقه من الجار السوري تضاعف.
الزيارتان لسوريا كانتا فرصتَين للاستماع الى محاضرتين في التاريخ والجغرافيا والاصلاحات التي أدخلت الى النظام الاقتصادي والاجتماعي في سوريا. وعلى ما يبدو فإنهما لم تشجعاه على تكرار التجربة، ولهذا لم يقم بزيارة سوريا على رغم عشرات النصائح التي حملها بعض اللبنانيين المقرّبين من دمشق، وعلى رغم توسط العديد من الشخصيات البارزة. وهو في كل حال لم يكثر من إرسال الوفود الى سوريا ولم يرسل إلا وفوداً في مناسبات محددة ذات طابع بروتوكولي أو اجتماع كمثل تقديم واجب التعزية بوفاة نجل الرئيس السوري باسل الأسد في حادث سير في عام 1994 وبوفاة الرئيس حافظ الأسد في سنة 2000.
هوس الرئاسة والوقيعة
ما يقوم به الجنرال عون في استهدافه رموز المسيحية، لا يخرج عن سياق الجنون السياسي والخطة الممنهجة، منذ كان طموحه في الترقي الى قيادة الجيش ثم الى سدة رئاسة الجمهورية. نظرياً، كانت معظم القيادات في لبنان وسوريا والدول الغربية عام 1989 تؤيد إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية من منطلق أنها تشكل ضماناً لعدم تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان، والتي في تداعياتها تهدد الوضع في الشرق الأوسط برمّته. اما عملياً، فقد كانت لكل طرف حساباته وانتظاراته من الاستحقاق الانتخابي، ما جعل بند الانتخابات الرئاسية يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة في سلّم أولوياته. ومع اقتراب الموعد الذي يتحول فيه مجلس النواب الى هيئة ناخبة، بات من يرى أن إجراء الانتخابات الرئاسية هو الأهم، عملة نادرة.
وحدهم الأميركيون كانوا مع إجراء الانتخابات الرئاسية أياً يكن الثمن، فقد كان واضحاً لهم منذ البداية أن الفراغ يعني الفوضى التي لا يعرف أحد مدى تأثير تداعياتها وأذاها على منطقة شديدة الحساسية والتعقيد كمنطقة الشرق الأوسط، لكن تمسكهم بإجراء الانتخابات لم يمنعهم من المشاركة في تطيير نصاب جلسة الثامن عشر من آب لمنع وصول سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية.
كانت دمشق، من جهتها، متربصة تنتظر الاستحقاق الرئاسي منذ فترة طويلة لكي تتخلص من رئاسة أمين الجميّل الذي كان يعرقل مشروعها ورؤيتها لإنهاء الأزمة اللبنانية استناداً الى القواعد التي أرساها “الاتفاق الثلاثي”.
فالرئيس السوري حافظ الأسد الذي عيل صبره حتى انقضت ولاية الرئيس الجميل، لا يمكنه إرجاء تطبيق المشاريع التي أعدّها للبنان ست سنوات جديدة. ولهذا رسم لنفسه حدّين أقصى وأدنى لن يتخطاهما مهما بلغت الضغوط عليه: إما تحقيق الاصلاحات قبل الانتخابات وإما إفساح المجال أمام انتخاب رئيس للجمهورية يطمئن إليه من ناحية إجراء الاصلاحات الدستورية المطلوبة في أقرب فرصة ممكنة. أما الاصلاحات التي أرادها النظام السوري فهي تلك التي تولي مسألة العلاقات المميزة اللبنانية – السورية الأهمية الكبرى، بحيث تعطى دمشق موقعاً خاصاً في قلب السياسة اللبنانية وبشكل خاص تربط السياسة الخارجية اللبنانية بالسياسة الخارجية السورية. وبالنظر الى أن موازين القوى مفقودة مع سوريا، فإن ما تطلبه دمشق يعني تحويل لبنان الى جرم صغير يدور في فلكها.
كان “الصامت الأكبر”، الجيش اللبناني، صامتاً بحق، لكنه كان يراقب بدقة كل التفاصيل المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي. وفي السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس أمين الجميّل، تحلّق عدد من السياسيين والمفكرين وكبار الضباط حول قائد الجيش العماد ميشال عون، وبدأوا بالقيام بما يلزم من أجل تصويره على أنه المرشح الأكثر جدية والذي يحظى بقبول مسيحي وإسلامي وأميركي، والذي تقبل به سوريا نظراً الى مواقفه والى ادائه في قيادة الجيش اللبناني طوال السنوات الأربع الماضية. فهو الذي تمكن من الحد من نفوذ “القوات اللبنانية” المتصاعد، وقد أرسل اشارات الى سوريا حول تمايزه عنها وقدرته على احتوائها ووضع حد لنشاطاتها. ففي الوقت الذي طلبت فيه دمشق من الرئيس اللبناني عبر المسؤولة الأميركية آبريل غلاسبي ضبط “القوات اللبنانية” للمضي قدماً في المفاوضات مع النظام السوري حول الانتخابات الرئاسية ولم يستجب الجميّل هذا الطلب، قام العماد عون في التاسع من أيار بانتشار عسكري مكثف للجيش اللبناني، ونصب الحواجز في المنطقة الشرقية ثم أزاح العقيد بول فارس، القريب من “القوات اللبنانية”، عن قيادة اللواء الخامس بحجة أنه وضع مخطط عمليات في أثناء التدريب يصنّف فيه الجيش السوري على أنه العدو.
الجيش اداة
وقد ظهرت نظرة قيادة الجيش اللبناني الى الاستحقاق الرئاسي في كتاب لنائب رئيس الأركان للعديد في الجيش العميد الركن فؤاد عون سمّاه “ويبقى الجيش هو الحل” وضمّنه رؤيته ورؤية كبار الضباط لحل الأزمة اللبنانية. وقد أنجز نائب رئيس الأركان مؤلفه في حلول شهر سماه 1988 وقدّم نسخة من المخطوط الى قائد الجيش قبل ارساله الى الطبع. غير ان العماد عون طلب من الكاتب إرجاء نشر الكتاب بعض الوقت كي لا يؤدي الى عرقلة الاتصالات والمساعي الجارية على أكثر من خط من أجل تأمين انتخابه رئيساً للجمهورية. وكانت حظوظ عون حتى مطلع حزيران غير قليلة وخصوصاً في ظل الاشارات الايجابية التي كان يبديها حلفاء دمشق بين الحين والحين.
ورأى العميد الركن عون في كتابه الذي عاد وأصدره في عيد الجيش في الأول من آب 1988 أنه “في 23 أيلول يجب أن يحصل شيء. ولكن ليس انتخاباً تقليدياً لرئيس تقليدي، فهذا الموعد يجب أن يكون بداية الحل ولكن بطريقة “غير شكل”، وهذا “الغير شكل” لا يؤمّنه سوى الجيش(…)”.
حدد الكاتب خطة واضحة في ذهن قيادة الجيش من أجل الوصول الى سدة الرئاسة الأولى. وفي نظرة سريعة يمكن ملاحظة أن الخطة اعتمدت بدقة:
“(…) كيف ستكون تجربة الجيش الجديدة لجعل 23 أيلول 1988 بداية حل (…)؟.
أ- احترام الولاية الرئاسية الحالية حتى الساعة 24 من تاريخ 22 أيلول 1988 مهما تكن الصعوبات والضغوط.
ب- عدم اجراء انتخابات رئاسية للحيلولة دون مجيء رئيس تسوية وإطالة عمر الأزمة ست سنوات أخرى والاستعاضة عن ذلك بتشكيل قيادة سياسية جديدة بإحدى الطريقتين:
– الأولى على طريقة 18 ايلول 1952 أي أن يشكل رئيس الجمهورية حكومة عسكرية قبل انتهاء ولايته يسلّمها السلطة كاملة.
– الثانية أن يشكل الجيش قيادة عسكرية سياسية تتسلم السلطة عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، أو في أي وقت تخلو فيه سدة الرئاسة، أو تشكل حكومة انتقالية من السياسيين، أو حكومة أو حكومات أمر واقع.
– في حال تقرر بشكل جدي اجراء الانتخابات الرئاسية فيجب العمل على ايصال رجل عسكري يحظى بتأييد الجيش ومحبته وثقته، وعند تعذر وصول هذا العسكري دعم مرشح غير عسكري ولكن يحظى بثقة الجيش ويتعهد باتباع الحل المقترح وترك يده حرة لتنفيذ هذا الحل”.
وقد أكد العماد ميشال عون هذا التوجه عندما ساهم في تطيير جلسة الانتخابات الرئاسية، وكشف عن التزامه الخطة التي اقترحها العميد الركن عون في كتابه “ويبقى الجيش هو الحل” قبل أسبوع من انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في حديث مع مستشار الأخير الوزير السابق إيلي سالم : “دخل عون الى مكتبي وقال لي انه عازم على تسلم السلطة اذا لم يجر انتخاب رئيس، لأنه لا يستطيع أن يعرّض الجيش للفوضى التي تنشأ في أعقاب ذلك. سألته: كيف ستفعل ذلك؟ فقال: سأستولي على القصر الجمهوري وجميع المكاتب الحكومية في المنطقة الشرقية. ثم أضاف يجب أن يظل الجيش موحداً وأن تبقى الشرعية في أيدٍ أمينة”. سألته: هل يذكر لي ذلك كي أنقله الى الرئيس. فقال، أجل، اذا شئت ذلك، وحين قلت ذلك للرئيس، بدا غير قلق وكان ردّه: “لن يجرؤ على ذلك”.
– استراتيجية الجنرال عون كانت أن يصل الى رئاسة الجمهورية أو رئاسة حكومة انتقالية ووزارة في حكومة انتقالية. وحتى يكبّر حظوظه، كثّف اتصالاته بالسوريين، وفي الأخص كان من خلال ألبر منصور ومحسن دلول ورياض رعد وفايز قزي(…).
– السوريون كانت استراتيجيتهم إما ايصال رئيس موالٍ لهم مئة في المئة وإما لا انتخابات. وبدأ السوريون يفقدون أعصابهم نتيجة عدم تمكنهم من التقدم خطوة في لبنان في تلك المرحلة.
إزاء كل هذه الاستراتيجيات المتناقضة، كان البطريرك الماروني يراقب من بعيد تطور الأمور ويصلّي من أجل أن يمر الاستحقاق على خير ويتساءل عما يمكن القيام به من أجل ذلك. فهو على رغم كل التطمينات التي تلقاها من الولايات المتحدة والمرجعيات الدولية والمحلية حول اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، كان يشعر بقلق شديد وكان حدسه يشير اليه بأن الاستحقاق الرئاسي سيكون شديد الوطأة على لبنان عموماً والمسيحيين خصوصاً. وبما انه لم يكن قد حجز بعد موقعاً رئيسياً في نادي اللاعبين الأساسيين في الحياة السياسية اللبنانية، ظلت قدرة تأثيره على مجريات الأمور محدودة نسبياً ومقتصرة على أخذ العلم وإبداء بعض الملاحظات والتوجيه وإفساح المجال أمام النواب لكي تكون لهم حركتهم المستقلة عن القوى التي تتقاسم السيطرة على المنطقة الشرقية.
ودأب البطريرك على التحذير من مغبة عرقلة عملية انتخاب رئيس الجمهورية المقبل معتبراً ان ذلك سيرتدّ سلباً عليه وعلى لبنان. وبدا واضحاً بعد مضي أشهر إن لم يكن أسابيع على الفراغ الدستوري أن من عرقلوا عملياً اجراء الانتخابات كانوا أول المتضررين ولبنان ثاني المتضررين من خيارهم. أما البطريرك صفير فكان قال في العاشر من آب: “اذا كان أحد يفكر في العرقلة فستعود عليه أول ما تعود بالضرر وعلى لبنان، وليس هناك مجموعة مسلحة أو غير مسلحة يمكنها أن تقوم مقام الدولة”.
في اليوم ما قبل الأخير من ولايته، قرر أمين الجميّل التوجّه شخصياً الى سوريا في محاولة أخيرة لتفادي الفراغ الدستوري وللاتفاق مع الأسد على اسم غير اسم النائب مخايل الضاهر. أزعجت الزيارة قائد الجيش العماد ميشال عون الذي بادر الى الاتصال بقائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، بعد انقطاع طويل، وبرئيس حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون وغيرهما ودعاهم الى مكتبه في وزارة الدفاع للتشاور في سبل تطويق زيارة الجميل لدمشق التي لم يجد لها المجتمعون أي معنى ايجابي.
تقاطع الخصوم
المفارقة في سيرة مقارعة عون للبطريرك انه غالباً ما تقاطع في الموقف السياسي مع خصوم صفير. ففي العامين الاولين من حبريته تلقى صفير مديحاً وثناء من المتسورنين ووصفوه بأنه صاحب المواقف الوطنية الشجاعة لأنه كان في إشكال شبه دائم مع “القوات اللبنانية”. لكن عند أول استحقاق ولدى إعلان رأيه المعارض لفرض مرشح واحد على النواب ولعقد جلسة الانتخاب في مقر ساحة النجمة المهجور منذ سنوات طويلة، تبارى حلفاء سوريا في انتقاده. ومع رفض البطريرك فرض رئيس للجمهورية على لبنان تم توزيع مناشير وقصاصات ورق منددة بمواقفه في عكار والمنطقة الغربية، على ما هو موثّق في الصحف اللبنانية اليومية.
وحده صفير أبى أن يأخذ طرفاً في الخلاف القائم على تنازع الشرعية بين حكومتي ميشال عون وسليم الحص، وذلك على رغم كل أنواع الضغوط التي مورست عليه. وكان جوابه عن كل من يسأله عن سبب عدم اعترافه بشرعية حكومة عون دون سواها: “كيف أنحاز الى طرف والبلد مقسوم، هذا الأمر غير وارد”.
فور تسلّمه السلطة التي تنتهي صلاحياتها عند حدود خطوط التماس، أرسى رئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون قواعد جديدة للعبة السياسية في المنطقة الشرقية تقوم على انه هو او لا احد.
بدأت العلاقة بين بكركي وقيادة الجيش في ظل عون بالتراجع قبيل الفراغ الدستوري. اذ في حينه، صعد وفد من فريق عمل العماد ميشال عون، وأوضح الوفد للبطريرك صفير ان انتخاب رئيس للجمهورية بات صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً، وان الجيش اللبناني سيحل مكان السلطة السياسية المنتهية ولايتها. واقترح فريق عمل الجنرال عون ارساء قاعدة تعاون بين البطريركية المارونية والجيش اللبناني الممسك بالسلطة السياسية لإمرار فترة الفراغ الدستوري على خير. ردّ البطريرك الماروني على ما طُرح عليه بدعوة الجميع الى صبّ الاهتمام الأول والأخير على تسهيل اجراء الانتخابات الرئاسية والابتعاد عن كل مغامرة من شأنها أن تعرّض وحدة لبنان للخطر. شعر الوفد ان البطريرك ليس متحمساً للتجربة التي سيخوضها مع العماد عون من قبل أن تبدأ، ولمس بوضوح ميله الى عدم تأييد وصول رجل عسكري الى السلطة. واعتباراً من ذلك اللقاء، استبعد فريق عمل الجنرال كل إمكان للاتكال على البطريرك الماروني لإنجاح مشروعه، ورأوا ان الاهتمام يجب أن ينصبّ على تحييده وتجنّب عرقلته.
فجّر العماد عون قنبلة سياسية مدوية في الخطاب الذي ألقاه في مقر وزارة الدفاع في اليرزة في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1988 في مناسبة عيد الاستقلال اللبناني. وفُسّر خطاب رئيس الحكومة العسكرية وكأنه انقضاص على مبادرة البطريرك صفير الرامية الى انتخاب رئيس للجمهورية وكأنه أيضاً تأكيد لضرورة المضي في الخيار العسكري لحل الأزمة اللبنانية الذي كان أشار اليه نائب رئيس الأركان في الجيش العميد الركن فؤاد عون في كتابه “ويبقى الجيش هو الحل” الذي نشره قبل بضعة أشهر من ذلك الحين.
ومما قاله عون في تلك المناسبة: “(…) ان ما يميز ذكرى الاستقلال هذه المرة هو أن الوطن قد اتخذ قراراً كان عليه اتخاذه منذ عشرات السنين بتحرير كل الأرض واسترداد تام للسيادة. أكدت لكم أن الحل يبدأ هنا في اليرزة وكنت لا أزال مؤمناً بأن لا حل إلا بكم ومنكم ومعكم(…)”.
أثار موقف عون “نقزة” سيد بكركي، على ما يروي صفير في سيرته “السادس والسبعون”. اقل ما يقال في عام 1989 انه كان مليئاً بالمآسي والآلام والتشرد والهجرة والموت. لكنه كان أيضاً عام الحلم والوهم والجنون في آن واحد. طرح خلاله العماد ميشال عون الشعارات المحببة للشعب ورفع سقف المطالبة الى اقصاه، إلا ان النتيجة جاءت أقل بكثير مما كان اللبنانيون يطمحون الى الوصول اليه بعد أربعة عشر عاماً من الحروب والكر والفر.
اثر “حرب الالغاء” التي شنّها عون على “القوات اللبنانية”، دعا البطريرك الى اجتماع عاجل، تغيّب عنه الجنرال بدعوى ان اللقاء ذو صفة طائفية وليس من الممكن ان يشارك فيه. كان همّ صفير آنذاك يتركز على حقن دماء المسيحيين وصون ارزاقهم، إلا ان عون كان همّه تظهير صورة تنال رضا الفريق الآخر، حتى ليبدو الراهن استعادة للماضي.
حرب الاوهام
تعددت التفسيرات لخلفيات اعلان العماد ميشال عون “حرب التحرير” في الرابع عشر من آذار 1989 غير أنه في الوقائع قرر مجلس وزراء الحكومة الانتقالية التي يرأسها، في جلسة عقدها في الرابع والعشرين من شباط 1989، اقفال المرافئ غير الشرعية وإحياء غرفة الملاحة البحرية وتكليفها تنفيذ القرار. وحددت حكومة عون السادس من آذار التالي موعداً أقصى للانصياع لقراراتها.
وكما كان متوقعاً، تأزم الوضع وقصف الاشتراكيون المرفأ وردّت مدفعية الجيش التابعة للعماد ميشال عون على القصف وكان التراشق مريعاً. فعقد عون مؤتمراً صحافياً أعلن فيه بدء معركة التحرير ضد سوريا ونعت الجيش السوري، للمرة الأولى منذ تسلمه رئاسة الحكومة الانتقالية، بالمحتل، وهو الامر الذي تبدل في ما بعد من ضمن تبدلات عون واصبح النظام السوري “نظام وصاية”.
أقلق التدهور الأمني البطريرك صفير الذي يعارض تلقائياً التوسّل بالسبل العنفية. وأطلق نداء لوقف اطلاق النار لأن “المدفع لم يحل ولن يحل شيئاً” داعياً الأطراف الى التروي واللجوء الى الحوار لحل الخلافات. لقد أدرك منذ اللحظة الأولى ان اعلان “حرب التحرير” مغامرة تنطوي على أخطار جمّة، لبنان والمسيحيون في غنى عنها. وتأكد من حدسه يوم سمع الجنرال عون يقول عبر التلفزيون، في تصريح شهير، ان بيروت دمّرت ثماني مرات ولا ضير من تدميرها مرة تاسعة من أجل اعادة بنائها. وقد أثار هذا التصريح استياء البطريرك لأنه عكس ميلاً فاضحاً لاعتماد العنف بطريقة عبثية غير مسؤولة.
اتضح بعد مرور شهر من اعلان “حرب التحرير” ان النتائج لن تكون على حجم التوقعات، وان العماد ميشال عون لا حلف لديه مع أي قوة عظمى ولم يعطه أحد ضوءاً أخضر وأنه لم يعدّ العدة اللازمة ولم يتحسب لمعركة طويلة. واصبح اقفال المرافئ غير الشرعية حصاراً غذائياً وانقطاعاً للمحروقات عن المنطقة الخاضعة لسلطة العماد عون. بدأ سكان المنطقة الشرقية المحاصرون بالهجرة الى الخارج بكثافة كبيرة زادت من قلق البطريرك صفير الى حد كبير.
رأى البطريرك الماروني، انه لا بد من محاولة اطلاق مسعى جديد يؤكد الثوابت الوطنية وفي مقدمها سيادة لبنان واستقلاله، وفي الوقت نفسه يفتح أفقاً جديداً. فدعا النواب المسيحيين الى اجتماع في بكركي في الثامن عشر من نيسان 1989. شكل هذا اللقاء الاصطدام الأول بين البطريرك الماروني وعون. غير ان هذا الاصطدام لم يكن مباشراً، وفضّل الجنرال ان يكون عبر النواب الثلاثة والعشرين الذين حضروا اللقاء. وقد تعرض بعضهم لتهديدات واستهدفت مكاتب بعضهم الآخر بالحجارة أو بالحرق.
الدعوة التي وجهها البطريرك صفير الى النواب، لم ترق للعماد عون ومساعديه، وتوجسوا شراً منها لشعورهم ان البطريرك غير راض على تصعيد العنف ومصمم على السعي الى تهدئة الأوضاع. فوجهوا تظاهرة طالبية الى بكركي، أطلقت على نفسها اسم “حركة طلاب التحرير”، وصلت قبل الثامنة صباحاً وأقفلت الباب الخارجي للصرح ومنعت النواب من الدخول عبره. وروى الدكتور جورج سعادة في كتابه “قصتي مع الطائف” كيف أن مرافقيه قاموا بفتح الباب الخارجي لإفساح المجال أمام النواب للدخول ومقابلة البطريرك صفير. أثار اجتماع بكركي سخط عون على النواب الثلاثة والعشرين بشكل مباشر وعلى البطريرك صفير بشكل غير مباشر. اذ اعتبر عون ان في البيان الصادر عنه تخاذلاً كبيراً سينعكس سلباً على جهوده الرامية الى تعريب الأزمة اللبنانية وتدويلها وأنه كان يجب على النواب ان يصدروا بياناً يدينون فيه الاحتلال السوري ويدعون الى انهائه فوراً من دون قيد أو شرط. ورأى عون ان سفير الولايات المتحدة يقف وراء الاجتماع والبيان، وانه هو المحرض الأساسي على بروز هذا التوجه في المنطقة الشرقية الذي جرى اعلانه في البيان الصادر عن النواب المسيحيين المجتمعين في بكركي.
أحصت صحيفة “لوريان لوجور” بعد ثلاثة أيام على انعقاد اجتماع الثلاثة والعشرين نائباً مسيحياً ثلاثاً وعشرين تظاهرة معارضة في بكركي معظمها أتى من كسروان. وقد اطلق المتظاهرون شعارات قاسية ضد النواب وهتافات مؤيدة لميشال عون. فردّ البطريرك صفير بموقف رفض فيه أسلوب التعامل معه ومع النواب. وبعدما جدد تمسكه بسيادة الدولة اللبنانية، توجه الى المتظاهرين بالقول: “نحن نعيش في بلد ديموقراطي. هذا يعني ان كل فئة من الشعب يحق لها ان تعبّر عن رأيها. (…) بالفوضى تضيع الأمم. وليس بالتظاهرات الغوغائية يعاد بناؤها. لا يحق لكم أن تملوا علينا رأياً أياً كان هذا الرأي. ونحن نعلم ما نريد”.
وفي عظة الأحد في الثلاثين من نيسان، قال البطريرك الماروني: “لقد شبع الشعب اللبناني عذاباً واذلالاً وتشويهاً للوقائع وتزويراً للحقائق. وهو لا يرضى عن الحرية بديلاً وهي مبرر وجود لبنان، سيان أخنقها عدو أم صديق، في الداخل أو من الخارج. لقد دفع آباؤنا وأجدادنا، طوال قرون، ثمناً غالياً للمحافظة عليها، ونحن لا نزال ندفع هذا الثمن وهو أبهظ وأفدح وأغلى. وكل قيد لها بغيض عندنا. حديداً كان أم ذهباً”. كانت رسالة البطريرك صفير واضحة ولا تحتمل التأويل والاجتهاد. القيد يبقى قيداً ولو كان ذهباً والمعنى واضح الى حد أزعج العماد ميشال عون وفريق عمله.
خيبة عون وصدمته
اعتباراً من اعلان “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف في الرابع والعشرين من تشرين الأول 1989 أخذت دول العالم تعلن تأييدها الواحدة تلو الأخرى لاتفاق النواب اللبنانيين في الطائف. كل ما حققه الجنرال عون من التفات نظر دولي من خلال “حرب التحرير” نحو القضية اللبنانية، تحول الى حث على قبول الطائف وعلى المضيّ به. فشعر العماد عون أن النتيجة أتت زهيدة مقابل الثمن الكبير الذي دُفع. أعلن “حرب التحرير” ظناً منه أن العالم سيهرع لتحقيق العدل والإنصاف في لبنان، وسيلزم القوات السورية الانسحاب الفوري من لبنان.
غير ان حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر. اذ عندما تدخلت الدول التي هالها القتل والتدمير في لبنان وقلقت من هجرة المسيحيين الكثيفة، كان همّها الأول وقف القتل وليس تحقيق العدالة الدولية وإلزام سوريا وإسرائيل سحب قواتهما من لبنان من دون قيد أو شرط. رأى العماد عون ان اتفاق الطائف لم يسحب الجيش السوري من لبنان، وهو الهدف الأول والأخير من “حرب التحرير” التي شنّها. ما يعني ان كل الدمار والموت والتهجير الناتجة من الحرب التي أعلنها ذهبت سدىً وهذا ما ليس في إمكانه أن يتحمله. فقرر معارضة الاتفاق والاصرار على تعديله على النحو الذي يحفظ له ماء الوجه. لقد شكل رفض عون الضربة الأولى لاتفاق الطائف، أو على الأقل ضربة للمشاركة المسيحية فيه.
كان المطلوب من اتفاق الطائف ضمان دور كامل للمجموعة المسيحية في الحياة السياسية اللبنانية لا تحدّه اعتبارات العدد والوضع السياسي. ولهذا أدى احجام عون عن قبول الاتفاق، ومن ثم ملاحقة من وافق عليه ومحاربته، إلى حرمان الدور المسيحي جزءاً من قوته ومن حضوره الفاعل في المعادلة اللبنانية الجديدة التي حظيت بغطاء دولي وعربي لا مثيل له.
وابتداء من اقرار وثيقة الوفاق الوطني، تحولت حرب عون من خارج المنطقة الشرقية الى داخلها، وتبدلت أولوياته وبات ملحاً بالنسبة إليه تحرير المنطقة الشرقية من معارضيه. حافظ عون، في تلك الفترة على خطاب معارض، ولكن بشكل معتدل، ازاء سوريا وحلفائها.
ومقابل الانفتاح الذي أبداه في اتجاه سوريا، ارتدّ عون الى الداخل. فأحرق معاونوه بعض المكاتب والمنازل للنواب الذين لم يتمكنوا من العودة الى المنطقة الشرقية بعد الطائف. ثم وجهت تظاهرة معارضة للبطريرك صفير أدت الى الاعتداء عليه فتهجيره. واستمرت حال التصعيد ضد النواب الى ان وجّه بندقيته في النهاية نحو “القوات اللبنانية”.
على رغم عدم رغبته في الدخول في السجال والمماحكات، بدأ البطريرك صفير يقلق من احتمال تجدد العنف بنتيجة رفض عون لاتفاق الطائف. وازداد قلق البطريرك من المنحى المغامر لا بل المقامر الذي يغلب على سياسة عون وحكومته. فبعد “حرب التحرير” التي أفضت الى اتفاق الطائف، هل يمكن قبول مغامرة جديدة لا يمكن معرفة النتيجة التي ستؤول اليها؟ وما هو، حقيقةً، البديل اذا فشلت مساعي اللجنة العربية؟ أما جواب عون عن البديل من اتفاق الطائف الذي حظي بمظلتين عربية ودولية ووافق عليه النواب اللبنانيون ومعظم القيادات السياسية في لبنان فكان: “أنا البديل”.
بنتيجة التناقض الواضح بين البطريرك صفير وعون واستمرار صمت “القوات اللبنانية”، تأزمت العلاقة بين بكركي وبعبدا التي لم تعد تخفي امتعاضها من مواقف البطريرك الماروني من اتفاق الطائف.
وبدت ذروة الأزمة التي سيطرت على عون في التظاهرة التي اوفدها الى بكركي التي ابلغ سيدها الى ممثلين عنها انه مع الجنرال في مطالبته بالسيادة المطلقة قبل ان يقتحم موتورون الصرح ويمزقوا صورة صفير ويرفعوا صورة عون مكانها.
حاول المطران رولان ابو جودة الاتصال بالعماد عون مرات عدة قبل دخول المتظاهرين الى الصرح البطريركي وبعده. ولكن بعد مضي اكثر من ساعة لم تحضر اي نجدة فأعاد المطران ابو جودة الاتصال برئيس الحكومة الانتقالية وأخبره ان احداً لم يأت من القوى الامنية فأبدى تعجبه من ذلك. وعندما قال له النائب البطريركي العام ماذا ستقول الناس في الغرب عندما سيعرض عليهم التلفزيون مشاهد الاعتداء المخزية، اجاب عون: “سيقولون ان هناك انفصاماً بين الشعب والكنيسة”.
ما من شيء على الاطلاق إلا يؤكد ان عون يمضي في سياق لن يفضي الا الى تذرير المسيحيين وتشتيتهم، وذلك على مثال ما انتهت اليه في السابق سياساته وحروبه. وكل مطالعاته لا تتجاوز الشخصي وتذكّر بقراءات السبعينات لأدبيات الانظمة الشمولية ، ولا سيما كيم ايل سونغ “المحبوب لقلوب أربعين مليون كوري” ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى