صفحات ثقافية

سرد وقائع موت غير معلن لسعد الله ونوس

null
جمعة: ونوس سارق للتراث المسرحي للرائد القباني
القاهرة – إبراهيم الحُسيني
في مطلع العام 1997 وقبل أشهر من رحيله بادر مجمع اللغة العربية في دمشق بتقديم اسم المسرحي السوري سعدالله ونوس إلى دوائر جائزة نوبل، لكن القدر لم يمهله لنيلها فرحل «ونوس» تاركاً صخب هذا العالم في 15 مايو من العام نفسه.
في ذكرى وفاته العاشرة كانت هناك مبادرة أخرى قام بها اتحاد كُتاب سورية برئاسة د.حسين جمعة أعـلـن فيها أن ونوس سـارق للتراث المسرحي للرائد المسرحي أحمد أبو خليل القباني، وزاد على ذلك أن أعلن عدم استحقاقه لمعاش من الاتحاد لأسباب عدة أهمها أنه ليس كاتبا، أصلاً! وأطاح بهذا بحكم المحكمة التي حصلت عليه زوجة ونوس السيدة فائزة شاويش بأحقيته في المعاش، وأطاح بأية قيمة اجتهد ونوس طوال عمره لتحقيقها وهو الذي وهب عمره كله للمسرح، وقدم عدداً من أجمل المسرحيات العربية، فمن منا لا يذكر «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و «رأس المملوك جابر» و «الملك هو الملك» ثم مجموعة مسرحياته التسعينية ومنها: طقوس الإشارات والتحولات ومنمنمات تاريخية وملحمة السراب والأيام المخمورة، فالرجل كان كاتباً بحجم لا يستطيع أي مثقف عربي أن يتجاهله أو ينكر وجوده، فكيف لم يستطع د.حسين جمعة أن يراه؟!
في قرية حصين البحر في محافظة طرطوس السورية كان الميلاد، وكانت الدراسة الأولية، وكان الكتاب الأول الذي فتح نافذة صغيرة تطل على العالم في رأس ونوس، نافذة لم تُغلق أبداً، كان كتاب «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران، ثم توالت القراءات لتزيد من مساحة العالم الذي تطل عليه نافذة ونوس.
ماركس وإنجلز ولينين
ظهرت النقلة النوعية في فكر ونوس المسرحي عندما كتب «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» العام 1967 وكان سببها عوامل عدّة أهمها سفره إلى فرنسا واحتكاكه المباشر بالآخر، هزيمة يونيو 1967، ثورة مايو الطلابية في 1968 التي كان أحد المشاركين فيها، ثم تأثره بأفكار كارل ماركس وإنجلز ولينين، مما ساعده وعبر كل هذا الانتقال بمسرحياته فنياً وفكرياً إلى مرحلة جديدة، ظهر تأثير الفكر الاشتراكي فيها واضحاً، وبدأت بمسرحية «حفلة سمر» التي بحث فيها عن إجابة لسؤال : من المسؤول عن الهزيمة؟ ثم مناقشة رموز الحُكم السُلطوية، وأثرها على الأشخاص في «الفيل يا ملك الزمان» التي ذهب فيها مجموعة من المواطنين؛ رمز ونوس لأسمائهم بالأرقام عدا واحد منهم، ذهبوا ليُقدموا شكواهم للملك من فيله الذي يرمح داخل المدينة قاتلاً الأطفال وهادماً البيوت، فإذا بهم وكنتيجة طبيعية للخوف يُطالبون الملك بتزويج الفيل! أما مسرحية «مغامرة رأس المملوك جابر» فيُحلل فيها أنظمة الحكم وصراعاتها التي لا تنتهي تلك التي تسحق في فورانها وغليانها أفراد الشعب، ذلك من خلال شخصية مملوك يُدعى «جابر» يدفعه طموحه للتدخل بين فورة هذه الصراعات، مما يتسبب في قطع رأسه، وفي رائعته «الملك هو الملك» التي تعتبر أنضج نصوص المرحلة فقد استطاع ونوس أن يُوظف تقنيات المسرح الملحمي مُعبراً بذلك عن وضعية الحاكم وقيمته وسط رموزه، وقيمته من غير رموزه، مؤكداً أن تخلي الملك عن رموزه: القصر وقاعة العرش والحُرّاس والكرسي والعباءة والتاج والصولجان يُفقده كونه ملكاً.
قنابل وسط الناس
توقف «ونوس» عن الكتابة المسرحية حوالي 11 عاماً بدأها من العام 1978 وحتى العام 1989 لإحساسه بفشل مشروعه الثقافي، وأنه لا يستطيع أن يجعل من كلماته صرخات أو من مسرحياته قنابل تُدوي وسط الناس، فتحثهم على الانفجار والرفض والثورة والتغـيير، الكلمات هي الكلمات، الكلمات لا تستطيع أن تُحدث ثورة، هكذا رأى «ونوس» مشروعه فانهزم وتقوقع داخل نفسه منسحباً من المشهد المسرحي حتى عاد إليه قبل وفاته بسبع سنوات ليُقدم مجموعة نصوصه التسعينية، تلك التي أثارت صخباً مازال دوّيه موجوداً حتى الآن، وهي «الاغتصاب، طقوس الإشارات والتحولات، منمنمات تاريخية، ملحمة السراب، أحلام شقية، بلاد أضيق من الحب، الأيام المخمورة.
تحرير الذات
كان هدف ونوس الأول في هذه المسرحيات هو تحرير الذات، ومن الممكن أن نلحظ أن أحد أهم الوسائل التي عبّر خلالها ونوس لتوصيل أهدافه التي ترنو إلى تحرير الذات ومكبوتاتها والاهتمام بفردانية الشخصية هي وسيلة الجنس، التي وظفها جيداً في جميع أعمال هذه المرحلة بدءاً من «الاغتصاب» وحتى «بلاد أضيق من الحب..» كما أن هذه الشخصيات الساعية نحو التحرر صاحبها تحوّلات كثيرة في السلوك والتصرّف، فجميع شخصيات «طقوس …» أصابها التحوّل، وكذا وجدنا فضة وياسين ووجهاء وأعيان البلدة في «ملحمة السراب» وكلها تحوّلات مبررة درامياً ومؤكدة لمقولة ونوس وهدفه من المسرحية. وفي معظم هذه الأعمال وجدنا شخصية المثقف الذي يُعبر في جزء كبير منه عن شخصية ونوس نفسها وفي معظم أو كل الحـالات مُحاولة هذا المثقف مُحبطة ومُصابة بالفشل والانسحاق، فرغم ثقافته، فهو غير فاعل، ومثالاً لذلك وجدنا المثقف في «منمنمات …» وفاروق في «يوم …» وبشير في «أحلام …» وبسّام في «ملحمة …» ونبيل في «بلاد ..» وكل محاولاتهم مخفقة لأن المجتمع الجامد لا يُتيح لهم فرصة حقيقية للتعبير عن الذات.
مكانة خاصة
ربمـا كـانت هذه الإطلالة غير كافية لكنها تضع ونوس في مكانة خاصة به لا تشبه غيرها، وتضع الحُكم الذي أصدره رئيس اتحاد كـُتاب سورية د.حسين جمعة في مكانة أخرى لا يوجد لها ما يُبررها، فاتهام ونوس الذي ساقه د.جمعة يسير في اتجاهين أولها أن ونوس سارق للتراث المسرحي لأبي خليل القباني، وثانيها أنه ليس بكاتب أصلاً، أما الأول فيمكن الرد عليه بسهولة وهو أن ونوس لم يتعرض لإبداع القباني والاستلهام منه -وليس السرقة- إلا في مسـرحـيـتـه «سهرة مع أبي خليل القباني» التي سرد فيها مجهودات القباني المسرحية مستلهماً وفي خط موازٍ لهذا إحدى مسرحيات القباني «هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب» وفي هذه المسرحية نجد استفادته من المسرح التسجيلي عند بيترفايس، وكذلك تقنية المسرح داخل المسرح لدى بيراندللو وبعض الخصائص الملحمية المميزة من عند بريشت، والمسرحية في عمومها تُعد بحثاً وثائقياً لحياة وفن القباني، هذا إضافة إلى بحث آخر مرافق للأحوال السياسية والاجتماعية التي صاحبت حياة القباني، ولا ينسى ونوس في كل هذا أن يربط «آن المتفرج» بـ «آن النص المسرحي» أو العرض المسرحي فيما بعد. ولم يقل ونوس أن المسرحية إذاً تأليفاً ابتكارياً خيالياً، ولم يستفد عند كتابته من أي شيء آخر إنه يُقرر أنه استفاد من حياة القباني ومن مسرحيته «هارون …» ومن أحوال العصر ليُقدم شهادته الإبداعية الخاصة، إذاً أين السرقة؟! مِن ذكرى رجل لم يعد يملك من أمره الدنيوي شيء، ومن جانب آخر ليس به ما يدّعونه؟!
أوان

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى