دور المثقف في التغيير
مها حسن
يقول هشام الدجاني في مقالته المنشورة في الحياة بتاريخ 28 نيسان، بـ نهاية دور المثقف. كما لو أننا نستعيد مقولات ” نهاية التاريخ ” أو ” موت المؤلف ” إلى ” موت الإله” عند نيتشه.
ولأنني معنية بالدور الفاعل للمثقف، فإني سأكتفي بالرد على مقولة نهاية دور المثقف، محاولة الربط بين ما طرحه الدجاني ككاتب أو مثقف عربي، وبين ما كتبه بيير بورديو في مقالته المترجمة إلى العربية والمنشورة في موقع الأوان، والتي تبين حيوية دور المثقف، وإن كان ثمة حاجة لاحقة إلى تحديد بعض المفاهيم والمصطلحات، حيث سأتحدث هنا عن كل ما هو مثقف، دامجة المصطلحات الأخرى، كـ باحث، كما يستعملها بورديو.. أي أنني سأجمع في لفظة مثقف هنا كل من الكاتب والباحث والمهتم بالشأن الثقافي، لا كمتلقي فقط، بل كمنتج لهذا الهم، وكمساهم في تحريك الجماد الذي قد يوحي بـ نهاية دور المثقف، أو لاحقا بـ موت المثقف.
لا بد من التنبه بداية إلى الخصوصية الكبرى المحيطة بدور المثقف في العالم العربي، وهي الحرية، أو بتعبير أدق: غياب الحرية. ففي العالم العربي قد يبدو دور المثقف هامشيا، لأن ثقافة السلطة هي السائدة، وثقافة السلطة هذه ليست فقط الثقافة الرسمية، بل الثقافة الخاصة التي يمارسها أفراد ومثقفون، يعملون بشروط السلطة، سواء رغبة منهم، أو باضطرار وتحت دوافع مختلفة، فيعيدون إنتاج الخطاب الثقافي الرسمي، وهو على الأغلب خطاب وحيد الرؤية، لا يعترف بالآخر، وهو خطاب مخيف في نتائجه التي تخلق العزلة والإحباط من مشاركة المثقف غير المنتمي لتيارات الخطاب المعني، الرسمي والموجه والبراغماتي… وهو أسوأ ما قد يصل إليه المثقف: اليقين بنهاية دوره.
إذن بمقارنه صغيرة وسريعة بين خطابي كل من السيدين الدجاني، و بورديو، سنلمس اختلاف اللهجة التي تقوم على التشاؤم لدى الأول، والتفاؤل لدى الثاني، وهذه اللهجة بالذات، والتي ألح عليها في كتاباتي، هي المفصل الخطير بين الثقافتين، ثقافة قتل الأمل وإلغاء المختلف، وثقافة الأمل، بوجود الحريات.
ورغم حذري الشديد من الانخراط في الأمل الواهم، والتماهي بالغرب، المرض الذي خصص له جورج طرابيشي كتابا، من منشورات رابطة العقلانيين العرب، و الذي يحمل العنوان ذاته، المرض بالغرب، فإني لا أعتقد أن المطالبة بالحريات هي مرض، لمجرد أن الغرب ينادي بها ويدافع عنها.
يقول الدجاني، محملا بألم الثقافة العربية:
تحدث المفارقة الخارقة عندما يتحول المثقف النظري إلى مثقف سلطوي. إذ بدلاً من أن تتحول السلطة إلى قدرة وطاقة لتنفيذ ما كان يدعو إليه بإلحاح المثقف النظري نراها تنقلب إلى قدرة وطاقة لتنفيذ مصالح المتنفذين وأصحاب المصالح. ويصبح مثقفو الأمس ” الأطهار ” مثقفي اليوم المنتفذين أصحاب مصالح غير شعبية أو وطنية، بل أصحاب مصالح ذاتية تحت اسم الإصلاح والبناء!
رغم إيمانه بدور المثقف، إذ سبق وقال في فقرة واحدة تفصل عن الفقرة المقتطعة أعلاه، جملة محملة بالكثير من الأمل:
إن الحديث عن المثقف ودوره في الواقع العربي يستمد أهميته من التأكيد وإعادة التأكيد على ضرورة الخروج من صمت العزلة والهامشية إلى ساحة الفعل في التغيير، وليس فقط حقل الفعل في المعرفة. وموقفه هنا يتطابق مع موقف بورديو الداعي إلى الدخول في الفعل الثقافي: (ينبغي تجاوز عدد معيّن من المتعارضات السّاكنة في عقولنا والّتي هي وسائل لتبرير الاستقالات، بدءا باستقالة العالم الّذي ينزوي في برجه العاجيّ ).
أي أن الدجاني يؤمن بدور المثقف في التغيير، ولكنه قلق من انزياح دور المثقف من حالة طهرانية، حين يكون مثقفا دون سلطة، إلى مثقف سلطة، تحت إلحاح مصالحه، فيدخل في دور مزدوج، براغماتي، يحلل ” من كلمة حلال ” ممارسات السلطات التي كان ينتقدها من موقعه السابق.
وبقدر ما قد يبدو الدجاني متشائما برأيي، فهو واقعي في الوقت ذاته، حيث تميل ” الصفقات الشخصية ” في كفة ميزان المثقف العربي، على كفة الموضوعية، بسبب ما نوهت إليه أعلاه، الخوف من العزلة والهامشية، أو ” الاستقالة ” وفق تعبيير بيير بورديو. إذ أن شروط الانخراط في الفعل الثقافي أصبحت مرهونة بالانضمام إلى ” قطيع ” من المؤسسات، التي تضعنا أمام أحد خيارين، العزلة أو الاندماج في الفعل الثقافي المشروط والممهور بطبائع رغبات المؤسسات الثقافية. وهنا ندخل في أشكال الرقابة، وأخطرها، رقابة النخبة المثقفة، الرقابة سيئة النية، لو جاز لنا استعارة تعبير سارتر بـ المومس الفاضلة، حيث تتحول النخبة ” الفاضلة ” إلى ممارسة بعض من أشكال الرقابة المشروعة، وفق مهارات نقدية ولفظية.
أما بورديو، فهو لا يزال مؤمنا بدور المثقف، رغم أن الحاجز أمام المثقف الغربي، مختلف ومتطور، حتى ولو اعتبرنا الحواجز أشكالا متطورة كالسلاح ـ فإن الغرب مهدد بخطر العولمةـ حسب مقال بورديو، في الوقت الذي لا يزال العالم العربي، يرزح تحت تهديد تقليدي لم نخرج منه رغم التحديثات الكبرى، وهي الأنظمة الشمولية ومصادرة الحريات. إذن يعتقد بوريد رغم كل شيء، بدور المثقف، ويطلب منه الدخول في الدور الثقافي فيقول :
( ليس من مهامّه أن يقدّم دروسا كما كان يفعل بعض المثقّفين العضويين الّذين، بسبب عجزهم عن فرض بضاعتهم في السّوق العلميّة حيث تستعر المنافسة، كانوا يؤدّون مهنة المثقّف لدى غير المثقّفين، قائلين في الآن نفسه بأنّه لا وجود للمثقّف. ليس الباحث رسولا ولا معلّما للتّفكير. عليه أن يبتكر دورا جديدا وعسيرا جدّا: عليه أن يصغي، عليه أن يبحث ويبدع: عليه أن يحاول مساعدة المنظّمات – الّتي مع الأسف يزداد ضعفها يوما بعد يوم بما فيها النّقابات- على الصّمود في وجه السّياسة اللّيبراليّة الجديدة، عليه أن يكلّف نفسه بمهمّة مآزرتها من خلال مدّها بالأدوات. خصوصا منها الأدوات المضادّة للتّأثير الرّمزيّ الّذي يمارسه «الخبراء» الملتزمون بخدمة كبرى المؤسّسات متعدّدة الجنسيات).
ويبرر بورديو تفائله بأننا في عصر مختلف :
( لماذا بإمكاننا أن نكون متفائلين؟ أظنّ أنّه بوسعنا الحديث بلغة الفرص المعقولة للنّجاح، بأنّ السّاعة قد حانت، بأنّها اللّحظة المناسبة. فلو أنّنا أقمنا هذا الخطاب في الفترة المحيطة بسنة 1995، لما أصغى أحد إلينا ولاتّهمنا بأنّنا مجانين).
هل هذا يعني أننا، وفي سنة 2009، صار بإمكاننا الحديث عن دور مثقف عربي، متحرر من الوظيفة السياسية والاجتماعية والعائلية، ومن التابوات العربية، والرقابات… بحيث يؤمن بدوره منفصلا عن حكم المؤسسات أو الأفراد العاملين لصالح المؤسسات، أو حتى متحررا من سلطات النخبة ” الفاضلة “؟
أنا أعتقد بضرورة وجود شكل ما من أشكال الحماية لمثقف من هذا النوع، وأنا أشيد هنا بدور رابطة العقلانيين العرب، التي تؤسس لأحد أشكال هذه الحماية، دون ممارسة أي شكل من اشكال الرقابة أو المصادرة، مع وجود ” هيئة ” ما، تدعم هذا المثقف، لا عبر إدخاله في فكر مؤسساتي، بل عبر ترك الباب مفتوحا له، للدخول والتعبير، أي خروجه عن الصمت والعزلة، في قلب الفوضى الاجتماعي ـ حسب تعبير ديركهايم ـ في المقال المشار إليه لـ بورديو ، أو الفوضى الثقافية، حسب ما يقتضي المقال هنا.
أنا شخصيا أؤمن بدور المثقف في التغيير، ولكني أشترط وجود حماية ما، وهذه هي خاصية المجتمعات العربية، ولكني لا أنسى أبدا، أن الثورة الفرنسية مثلا، قامت على جهود الفلاسفة الفرنسيين، وكتاباتهم المتراكمة.
ولا أظن أن العرب يفتقدون إلى فولتير أو روسو بينهم، ولكن الخطاب الثقافي العربي الحالي، موسوم بالمصالح، كما عبر الدجاني، ومشحون بالمنفعية والمحاباة. مما يُفقد الفعل الثقافي مصداقيته، وبالتالي يسحب عنه دوره في التغيير.
حتى يستعيد المثقف العربي دوره في التغيير، لابد من إتاحة المجال أمام المثقفين الراغبين بإنتاج خطاب ثقافي مختلف، عبر فتح قنوات التعبير أمامهم، بحيث يتم الفصل تماما، بين مصلحة الجهة المتبنية لمساهمات المثقف، عن نتاج هذا المثقف، والفصل أيضا، من طرف المثقف ذاته، بين مصالحه، وبين منتجه الثقافي. أعتقد مثلا أن رابطة العقلانيين العرب تساهم ، ضمن هذه النظرة للفعل الثقافي، في خلق مسافة بين الكاتب وبين المصلحة. إلا إذا كانت العقلانية، وما يتمخض عنها من مطالبات بالحريات والديمقراطيات، مطلبا شخصيا!
موقع الآوان