عن الاعتياد على الاعتقال، وعن صديقنا الخَطٍر على “الثورة”
بدرخان علي
أمَارة سوء ونكوص إنسانيّ خطير أنْ لا يثير عندنا، في سوريا،اعتقال إنسان، أيّ إنسان لم يقترف جرماً أو جناية أو اعتداءً على سواه، غير أسئلة من قبيل:أيّة جهة اعتقلته؟ (دلالة على كثرة الجهات “المعنيّة” بالاعتقال، وهي تزيد عن أصابع اليدين بقليل) ما السبب “المباشر” وراء الاعتقال (أمّا الأسباب غير المباشرة فهي أكثر مِنْ أنْ تُحصى)؟ أَمَا كان بإمكانه التخفيّ من أمام أنظارهم؟ (على تشبيه الواقعة بمطاردة بوليسيّة)…
هكذا و”بفضل” الاعتياد المديد لم يعد أحدٌ منّا يشعر بالوطأة الإنسانيّة جرّاء عزل إنسانٍ عن العالم والنّاس والدنيا وحجز حرّيّته، وهو سببٌ كافٍ ليُشعر أيّ منا بأنّ إنسانيته منقوصة وأنّ حرّيّته غير كاملة ما دامت حرّيّة غيره مباحة للهدر والتنكيل بهذه السّهولة الفائقة، بصرف التفكير بما يمارس في المعتقلات السوريّة الرّهيبة من أعمالٍ مخلّة بكرامة الكائن الإنسانيّ.
نغضب ونكتب وندبّج البيانات تلو الأخرى (ويجب ألاّ نتوقّف عن ذلك للحظةٍ واحدة)؛ لكن ما عادَ للاعتقال “نكهته” المُرّة المألوفة ووقعه المؤلم المُعتاد. ذاك أنّ التعوّد على أمرٍ ما بفعل المعايشة المزمنة يفقده الفَرادة والاستثنائيّة فيغدو جزءاً طبيعيّاً من حياتنا كما هو الحال عندنا مع الاعتقال في سوريا و قلّة فارِطة من الدول المماثلة في عالمنا المعاصر.
والواقع أنّ مفاعيل هذه السياسات المتواترة فينا،المثابرة على أصالتها وحيويّتها المتجدّدة، وقد أصبحت ممارسة يوميّة في الآونة الأخيرة، كانت في غاية الأثر؛ إذ أضحت بمثابة عملية نزع الحساسيّة (بمعناه العلميّ البيولوجيّ الدقيق) والتحمّل النفسيّ تجاه هذا الاعتداء السّافر على حرمة الكائن الإنسانيّ وحرّيته، نعني خفّة الإرتكاس الداخليّ تجاه عامل فظّ على النقيض مما هو متوقّع وخفّة الشعور بأنّ شيئاً ما يسير على غير انتظام في هذه البقعة الدّاكنة من العالم. فلأقرّ جهاراً بأنّي واحدٌ من هؤلاء رغم ممانعة طويلة منيّ وبالرغم من رُهاب السّجن الذي يسكن داخلي لحظةً بلحظة.
وقد أفلحت السّلطات عندنا بالفعل (كما في سائر الأنظمة الشموليّة) في تحويل السجن مادة سياسيّة تنضاف إلى أعمدة الحكم القمعيّ الرّاسخة من طريق نزع واقعة السجن من أبعادها الإنسانيّة والاجتماعيّة والنفسيّة وخلع “مشروعيّة وطنيّة” على سلوكها في التنكيل بالمواطنين الناشطين في الشأن العام، كما على كلّ سياساتها غير القابلة للتبرير بأيّة ذريعة أخرى. وهنا تصلح معاني العروبة والوطنيّة والقوميّة مهاداً نظريّاً رحباً لتلك السياسات والأفعال الشّنيعة.
على التفريق الذي تقترحه مدوّنات حقوق الإنسان بين حالة سجناء الرأي و السّجناء السياسيين يسعنا القول بأنّ الضحايا في سوريا، على العموم، هم من معتقلي رأي ودُعاة إصلاح وصيانة حقوق الإنسان (على ما يقارب معنى الدُعاة بالمفهوم الدينيّ) غير منخرطين في أيّة “عمليّة سياسيّة” (؟) وليسوا معتقلين سياسيين بالمعنى الدّقيق الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى تبعاً لغياب مجال اجتماعيّ لممارسة سياسيّة تنافسيّة أصلاً؛ إذ أنّ السياسة اختفت من المجتمع السوريّ من جراء الطّحن القاسي لقوىً كانت في طريقها للتبلور كقطب خارج السلطة ومعارض لها لو أتيح لها أشعة من الضوء وقليل من الأوكسجين. ولعقود عجاف لم تنبت قوىً اجتماعيّة تقوى على النهوض بأعباء العمل السياسيّ الحقيقيّ، المستقلّ والحرّ؛ المحظور والممنوع من الاقتراب. بالعذر من الأخوة الطيّبين المنخرطين، بقناعة وإرادة، في ما يسمّى بـ”الجبهة الوطنّية التقدميّة” التي يتجرّأ بعضهم ليطالب بتوسيعها، وهي رميم. وتنسب لها مقرّرات الثقافة (والتربيّة!) القوميّة، في المدارس والجامعات السوريّة، مهاماً جسيمة على المستوى الوطنيّ والإقليميّ والعربيّ والدوليّ… والمجموعة الشمسيّة كلّها.
…ندين ونحلّل ونربط اعتقالات متزامنة مع الحوادث الإقليميّة أو الدوليّة؛ لكنّنا صرنا في حيرة من أمرنا حقّاً. كان بعض المحلّلين والسياسيين يربطون بين الضغط على النظام من الخارج واشتداد وتيرة الاعتقالات في الداخل، التي لم تتوقّف يوماً؛ عُدنا لنقول أنّ السّلطة التي أخذت نَفَساً مريحاً من الخارج ـ إقليميّاً ودوليّاً ـ تريد تأديب الداخل، الهادئ والوديع على أيّة حال، حيث لا خارج يضغط. كلا الاحتمالين المتضاربين يصحّان في الآن ذاته. هل نعاني من تشوّشٍ ذهنيّ؟ كلّا نحنُ في… سوريا.
ربّما أمْكن إيراد عشرات الحالات على هذه الممارسات السلطويّة الجائرة طيلة عقود أربعة من الحكم التسلطيّ وغياب قانونٍ لأجل صيانة حريّة التعبير والحراك والكتابة أو إبداء الرأي ولا نتحدّث عن العمل السياسيّ. فبالأمس مثلاً استدعي الكاتب والصحافيّ الكرديّ فاروق حجّي مصطفى إلى مركز تحقيق في فرع الأمن السياسيّ في حلب ليمكث في الأسر الأمنيّ من غير مذكرة اعتقال أو مسوّغ قانونيّ على ما تجري طبائع الاستبداد التي تغلب أي تطبّع ظاهر.
عبثاً نحاول العثور على أسباب موجبة ومعقولة. فصاحبنا فاروق؛ الذي كان يشكو على الدوام من ضيق ذات اليد وصعوبة تأمين ثمن تذكرة السّفر بين قريته وحلب ودمشق، سوف يقدّم إلى محكمة ما بتهمٍ رائجة قد تكون مثلاً التعامل مع جهات أجنبيّة والعمالة للخارج؛ لأنّه التقى بصحافيّة أجنبيّة (كما أشار تقرير صحافي من “سكايز”) في مكانٍ عام كالذي يرتاده الصحافيون والكتّاب عادة (والتي تخصصّ لها عدّة فروع أمنية مندوبين لها “بصفة مراقبين”).
وربّما يتّهم فاروق، الذي لم يكتب جملة قاسية في حقّ السّلطة الحاكمة، بمعاداة النظام الاشتراكيّ وأهداف الثورة. لن يلاحظ القاضي الذي يتلو لائحة الاتهام أنّ العبارة تتكلّم على بلدٍ آخر قد يكون فنزويلا أو كوبا. أيّة ثورة وعلى مَن تثور؟ وأيّ نظامٍ اشتراكيّ؟ لكن أنّى للقضاء السوريّ أن يقول كلمته.وكلّ متابع يعلم أنّ لا قضاء ـ محايد أو ربع محايد ـ عندنا في سوريا (سوى قضاء الله وقدره، على قول أحدهم). وعندما يصحو القضاء الموقّر من غفوته الطويلة فلا يمكن أن يكون إلاّ أداة في تثبيت الاستبداد والقهر. وقد وصفت منظّمة حقوقيّة عالميّة شهيرة، في تقرير لها صدر مؤخّراً، محكمةَ أمن الدولة العليا، إحدى أشهر المحاكم الجائرة في سوريا، بأنها ركيزة أساسيّة من ركائز القمع في سوريا وطالبت بحلّها. ونشكّ حتّى في جدوى حلّها، افتراضاً؛ إذْ هناك العديد من المحاكم أمثالها وأسوأ تنوب عنها في حماية “أمن الدولة”. ليس ثمة من حلّ إلا بحلّ ركائز حالة اللاقانون وضدّ القانون التي ترعرعت في كنف حالة الطوارئ وتبعاتها. وهنا بالضبط تتعيّن مقولة “الخصوصيّة السوريّة” الشهيرة والممجوجة، التي يرفعها أهل الحكم والسلطة سرديّة كبرى للاحتيال على الحقيقة والواقع وغطاء لممانعة عنيدة في وجه دعاوى التغيير والانفتاح على الداخل. ولا بدّ من تفكيك هذه الخرافة قبل أيّ شيء آخر.
ومُرجّحٌ أن يُدان صاحبنا بـ”نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة” أو”التحريض على العنف والحرب الأهليّة وتغيير كيان الدولة” فأيّة أمّة بائسة هذه التي توهنها مقالات متفرّقة هنا وهناك من قبل مواطنٍ غيور على قضايا بلده كتب باعتدالٍ سياسيّ وحسٍّ وطنيّ ديمقراطيّ عن شؤون مواطنيه الكرد والعرب وكان موضع لوم من بعضٍ من بني قومه بسبب نبرة مقالاته الخفيضة و”المهادنة”.
وليس غريباً أن توجّه لحجّي مصطفى تهمة جاهزة أخرى تلصق بالنّشطاء الأكراد عادة: محاولة اقتطاع جزء من الأراضي السوريّة وضمّها إلى دولة أجنبيّة (أين تقع؟.(
أمرٌ محيّرٌ فعلاً أن تطالب بإعادة الجنسيّة السوريّة إلى اللامواطنين الكورد، المجرّدين منها وهم فئة من الكورد حُجبت عنهم الجنسيّة السوريّة أو نزعت منهم منذ عام 1962م (عددهم يربو عن ربع المليون نسمة اليوم) والسّماح للغة والثقافة الكرديّة بصورة قانونيّة وإزالة القوانين التمييزيّة بحقّ الأقليّة الكرديّة وإنصاف ضحاياها، أن تطالب بذلك في العلن سلماً وحواراً وابتغاء لصون سلمٍ أهليّ قَلِقٍ على شفير الهاوية تماماً وإحقاقاً لقيم المساواة والعدالة لتتّهم بتفتيت البلاد وتقسيمها. كأن بأولي السّلطة والأمر يدفعونك دفعاً صوب التشدّد أو الانعزاليّة بسدّ كافة الأبواب على المطالبة السلميّة والعلنيّة.
إلى أن تأخذ “العدالة”غير العادلة مجراها المعهود في قضية الكاتب والصحافي فاروق حجّي مصطفى فكّ الله أسره، يبقى القول أنّ حالة الكاتب فاروق تندرج في سياق حملة مُتعاظِمة بعناصرها التامّة على بقايا النشاط والشّأن العامّ في البلاد وعلى صعيد ثانٍ أكثر بروزاً في مواجهة الإرادة الكرديّة، في شكلها الأكثر سلميّة وإنسانيّة، وعلى الاحتجاج الكرديّ على صنوف القهر والظلم التي تزداد شباباً كلّما ازدادت الحاجة الوطنيّة السوريّة لتسوية ملفّات الوضع الداخليّ المتشابكة والمستعصية لصالح سورية الديمقراطيّة المتصالحة مع مواطنيها جميعاً.
المستقبل