هناك عند الطرف الآخر من السلك
رستم محمود
ليس كما في العادة، لم ينشأ خوفنا الأول من أبريق شاي حار، أو سلك كهربائي معزول، أو النظر من أعلى المبنى، كما عهدت بواكير الوعي الآدمي في كشفها للمخيف والخطر في الطفولة. بل كان الخوف الأول من تلك الرشقات النارية التي يطلقها الجنود الأتراك، أو بالأحرى، جنود الجيش التركي، أثناء تدريباتهم العسكرية، في الطرف الشمالي من السلك الفاصل. ففي بداية الثمانينات من القرن المنصرم، كنا نحن الأطفال الأكراد، ساكني أقصى الشمال، من بلادنا سوريا، على تخوم ذلك السلك الذي كان يفصل “دولتنا” عن دولة جارنا التركي. كنا قد ربطنا الخوف الأول، دونما رغبة، بصوت تلك الرشقات النارية، أو أكشفنا الخوف أول مرة، من صوت تلك الرشقات. فأية لعبة كنا نلعبها، كان يجب أن تنتهي حالما نسمع صوت تلك الرصاصات، حيث صوت “صراخ” أمهاتنا كان يعلو أبان أول سماع لتلك التدريبات، كانت الأمهات كدجاجات تدعو صيصانها إلى الكوخ. كنا نكبر ونكبر، ولم ولن يغيب عن بالنا مشهد أم يوسف ” خالة فاطمة” حينما هرعت من الحمام إلى الشارع مباشرة، وهي نصف عارية، لتنجد وحيدها يوسف، الذي قدر أن يعلو صراخه مع بدء أصوات نيران الجنود، حيث كانت الكرة قد ارتطمت بوجهه في تلك اللحظة بالضبط. فزع وجه تلك المرأة لن يعيد الطمأنينة إلي ولو بعد ربع قرن.
أيام الصبا، كان مكان لعبنا بالقرب من السلك تماماً، فأصحاب البساتين كانوا يمنعوننا من اللعب ضمن حقولهم، لذا كنا نلوذ بتلك المنطقة المحرمة بالقرب من السلك. كنا قريبين حتى إن جنود الحراسة كانوا يتابعون مبارياتنا الطفولية. لكن اشد ما علق في ذاكراتنا هو صوت الأطفال الذين في الطرف الآخر من السلك، فملعبهم أيضا كان قريبا من السلك، وربما لنفس السبب، فصراخهم بـ” كووووووول ” كان يشد من عزيمتنا ودفعنا للعب بحماسة أكثر. وفي باطن رغباتنا، كان ثمة عطش لملاعبة الصبية أولئك، الذين ربما كانت لهم الرغبة تلك أيضا. فما كنا نعرفه عن بعضنا البعض، هو الصوت فحسب، والصوت كان بمثابة الإغواء للقفز على السلك الفاصل بين الصبية. لكن السلك لم يكن أداة معدنية فحسب، لقد كان رمزا لأيديولوجيات ومبادئ ومعاهدات ومواثيق وقوانين وتوازنات مبرمة، لكنا لم نكن نفهم منه سوى أنه يمنعنا من التواصل مع الأولاد الآخرين، أصحاب صوت “كوووووول”.
بعد الصبا بزمن طويل ستشاء الأقدار أن أغادر في زيارة إلى طرف السلك الآخر، وأن أصر على رؤية ذلك الملعب، الذي أمضيت ليالي طويلة في محاولة تخيله. اكتشفت أنه ليس بالغريب تماما عما كنا نتصور، مع انه كان أكثر نظافة وترتيبا، فشمال السلك كان قد اكتشف اختراعا بشريا يسمى ” البلدية ” لم نكن نحن في زماننا قد اكتشفناه، وربما ما اكتشفنا منه راهنا هو “النسخة التايوانية” عن الاختراع ذلك، وليس الاختراع بحد ذاته. على كل حال، كانت ابتسامات الصبية وسمرتهم وشعرهم غير المصفف وحتى أحلامهم، تماثل ما كنا نحمله تجاههم، ومنها الرغبة بملاعبتنا. لكن مع فارق أنهم كانوا اقل خوفا من ذلك الجندي الذي يراقب المباراة من محرسه، فقد كان الجندي في آخر المطاف، جنديهم.
في الزيارة تلك كنت أيضا قد اكتشفت تلك البلاد الجميلة، في شمال السلك، حيث كان أهلنا ينعتونها بـ ”
“welat” أي الوطن، هكذا دون أية كلمة أو تسمية مرافقة ودالة. فالكثير من الشباب والشابات، ومنهم قريبانا كريم وريحان، كانوا قد غادروا للقتال في شمال السلك، كان الأهل يقولون لنا، لقد ذهبوا لتحرير الوطن. حيث تخيل ذلك الوطن، كان قد جر خيالنا إلى تصور شوارع مليئة بالحدائق وخالية من القمامة، وتخيل موظفين طيبين، ينهون معاملاتنا بأسرع وقت، وتخيل رب عمل لا يصرخ بوجه عامله، فالسلك ذلك دفعنا لمعايشة المتخيل لحظة بلحظة. متخيل يحول ما نعيشه إلى عابر ليس إلا، عابر يسمح لنا بالعيش في أبهى صورة، طالما أن كل ما نحياه عابر إلى غيره، إلى الأبهى.
قصص لا تنتهي ولا تنسى عن ذلك السلك، علقت بذاكرتنا رغما عنا. فالجد الذي كان يعمل مهربا على طرفي السلك، ومن ضمن ذلك تهريب النساء اللواتي يتزوجن من شباب في الطرف المغاير. فالأكراد الذين سحبت منهم الجنسية السورية إبان عهد الوحدة، لم يكن لهم من مخرج سوى بالطريقة تلك، وكيف لعروسة أن تعبر المعابر الحدودية النظامية، والدولة لا تعترف بأهليتها الآدمية أصلا. كان الجد يحكي لنا عن قصص تلك النساء، عن صراخهن ورفضهن عبور المنطقة المليئة بالألغام، بالرغم من تأكيده أن الجندي مضمون، وعن نساء خالف المحب وعده في الانتظار، وكيف أنه زوج اثنتين من أخواته اللواتي خاب ظنهن بمن أحببن. لكن أكثر ما بقي في الذاكرة هي قصة أوسكي، ذلك الكردي الذي كسر “مؤامرات” و “كيد أعداء”. فقد كان أوسكي (وهو تصغير باللغة الكردية لكلمة عثمان أو اوصمان) الخبير بالمتفجرات الأرضية، يعمل على استخراج الألغام الأرضية المضادة للأفراد، من المنطقة الجنوبية من السلك، حيث كان الجنود الأتراك قد زرعوها للمهربين. كان أوسكي يستخرج تلك الألغام ويفك عنها الصواعق، ثم يجمعها ويرسلها لبيشمركة البرزاني الكردية في شمال العراق، جرى ذلك طوال عقد الستينات.
هل كان فزع الناس من السلك مبررا ومفهوما؟ ذلك الفزع الذي كون حيزا كبيرا من ذاكرتنا.
منذ ربع قرن ما زال، كان الناس يتداولون قصة ضيعة ” ديرونا قولنكى ” حينما هم أهل تلك القرية الحدودية بالدفاع عن أرزاقهم من التحرشات السادية لبعض الجنود من شمال السلك، حيث قتل يوسف حاجو ثلاثة من الجنود في ليلة ظلماء، امتلأ الناس بالبهجة والفخار ذلك اليوم، إلى أن طلب رئيس الوزراء يوسف الزعين وقتها، نائب المنطقة في البرلمان حسن آغا حاجو على الهاتف الوحيد في البلدة. قال له رئيس الوزراء جملة واحدة وأغلق الخط: ” حسن آغا نحن مش قد تركيا”.
كانت جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتنتقل ذاكرة جيل كامل، ذاكرة من يظن نفسه حملا قرب ذئب، ذاكرة مليئة بالرهاب، وليس لروح الفارس فيها مكان.
المستقبل