التراث.. والقراءات الاستهلاكية
د. رشيد الحاج صالح
يفضل غالبية الناس، في الممارسة الثقافية اليومية، افتراض صحة الأقاويل والآراء المتداولة والمتوارثة، حتى إنهم إذا لم يفهموا تلك الآراء، أو لم يستطيعوا البرهان عليها بطريقة منطقية، سلموا بأن هناك آخرين غيرهم ثُقات يفهمونها ويعتقدون بها، وهذا يكفي بالنسبة إليهم. ولذلك نجد أن الثقافة العامة تهتم كثيراً بتأصيل أفكارها وقيمها وتسندها إلى مرجع يشار إليه بالبنان.
وهذا ما يفسر لماذا الثقافة العربية، في جانب كبير منها، ثقافة تقليدية «اتباعية» تنطلق من اتباع رمز ما، وأيديولوجيا محددة، بحيث يتحول ذلك الرمز وتلك الأيديولوجية إلى سلطة مطلقة ومرجعية كاملة لكل شيء، لدرجة يمكن معها القول إن هذه الطريقة في التفكير دخلت إلى بنية العقل الثقافي العربي وأسست نظامه ومعارفه.
أما نتيجة هذه الطريقة في التفكير، فهي تقديس كل
ما لدينا وتحويله إلى مرجع دائم لحياتنا ووجودنا، بحيث يغدو التفكير في هذا المقدس، وليس التفكير انطلاقاً منه، جريمة كبرى محفوفة بالمخاطر، لأنه خروج عن عادة ثقافية سائدة ومستحبة اجتماعياً، بل إنه تطاول على سلطة الرموز الثقافية المهيمنة على طرق التفكير وعقل العامة.
إن مشكلة مثل تلك الطريقة في التفكير التي تهيمن على الثقافة العربية، أنها تنمي عجز ثقافتنا عن تجاوز ماضيها وتسد الآفاق أمام مستقبلها. فالتفكير انطلاقاً من التسليم بسلطة ثقافية معينة، يشبه الدور المنطقي، الذي يصل في النتيجة إلى المقدمات نفسها التي انطلقنا منها، وبالتالي لا يتم الوصول إلى أي نتائج جديدة. ومثلما تم نقد المنطق التقليدي بوصفه المسؤول عن تأخر الفكر البشري لقرون طويلة، على اعتبار أنه منطق غير منتج يساعد الذهن على التشبث بما لديه وليس على اكتشاف الجديد، يمكن القول إن طرق التفكير التقليدية في الثقافة العربية هي المسؤولة أيضاً عن تأخرنا الحضاري والعلمي لفترة طويلة، وقد آن الأوان لكي نعيد النظر في تلك الطرق.
بالطبع، فإن النتائج السلبية التدميرية لتلك الطرق في التفكير تنكشف حالما نعلم أن كل الإنجازات المعاصرة والأساليب الجديدة في الحياة، توصَل إليها الناس عن طريق نقد ومراجعة وتمحيص الآراء والمعارف المتداولة والمتوارثة. فالثقافة المعاصرة اليوم هي وليدة الطريقة النقدية في التفكير، ذلك أن النقد حرر الثقافات والحضارات من أوهام وخرافات أخّرتها لقرون طويلة.
إن العمل على ترسيخ الثقافة النقدية في المجتمع العربي هو أمر حيوي وفعال للثقافة العربية المعاصرة، فلا سبيل لتغيير الأوضاع إلا بنقد الأوضاع السائدة، ولا سبيل للحرية إلا بنقد واقع التسلط والقهر الذي يرسخ تحته الإنسان العربي، ولا سبيل لكسر الأيديولوجيات الصنمية إلا بنقد كل ما هو ساكن وثابت ومحدد مسبقاً، لأن الحياة ليست ثابتة، والعقل ليس ساكنا. لذلك فإن التغيير في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية أمر مطلوب ومرغوب، لكن حتى هذا التغيير لن يحقق أهدافه ما لم يقترن بتغيير في العقلية والثقافة والذهنية، لأن العقل هو الذي يقود الحياة ويصنعها، ولذلك لا بديل عن إصلاح العقل ذاته، وإعادة التفكير في أوهامه ومطلقاته.
أننا لا نريد ممارسة النقد لمجرد النقد، فهذا هدم ويؤدي إلى الفوضى، غير أننا نعتقد أن الاعتماد على النقد يمكننا من إعادة النظر في تاريخنا وتراثنا، بحيث لا تؤدي هذه المراجعة، لا إلى رفض الماضي بشكل كامل ومطلق من جهة، ولا تؤدي إلى الرحيل إلى التراث والعيش معه في زمنه من جهة أخرى، بل تؤدي إلى إحضار ذلك التراث ليحيا بيننا عبر دمج آفاقه بآفاقنا، وإلى بعث الحياة فيه من خلال الكشف عن الفجوات، وتحرير المهمش، وإنطاق المسكوت عنه، والفصل بين الاجتماعي والديني، وإنصاف المظلومين، وإعطاء الحقوق لأصحابها، من خلال نَفَس موضوعي علمي بعيد كل البعد عن نزعتَي التحامل والتقديس، ومتمسك بالتحرر من ثنائيات الحق والباطل، الخير والشر. عندها فقط نتخلص من القراءات الاستهلاكية لتراثنا التي قيدت ماضينا بالأوهام المثالية والبطولات الخادعة.
كاتب من سورية