الإسلام والعَلمَنَة: قراءات نقديَّة في الفكر المعاصر
عزيزة سبيني
يمثِّل كتاب الإسلام والعلمنة[1]، في بنيته ومحتواه ومنهجه، نموذجًا راقيًا من نماذج الحوار النقدي المفتقَد، إلى حدٍّ كبير، في ثقافتنا المعاصرة، ولاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة. والمؤلِّف، د. عاطف أحمد، إذ قسَّم كتابه إلى فصول، لم يستطع إخفاء بنيته الجدالية السجالية فيها؛ وهي البنية التي تعكس رغبته في الاشتباك النقدي مع أطروحات مؤلِّفين متنوِّعي الاتجاهات والمقاصد والانتماءات السياسية والفكرية. وهذه البنية “الاشتباكية” التي طرحها المؤلِّف في كتابه مع أطروحات المؤلِّفين الأكثر تأثيرًا في الفكر العربي المعاصر، لها مميزاتها، كما لها عيوبها، شأنها في ذلك شأن أية بنية أخرى.
يرى د. نصر حامد أبو زيد في تقديمه للكتاب أن من مميزات هذه البنية مسألة “المنهج” التي لم يطرحها المؤلِّف طرحًا تجريديًّا بعيدًا عن السياق الحيِّ لبنية الفكر في مرحلة تاريخية محددة. فلقد تمكن المؤلِّف من الإلمام بخارطة الفكر المعاصر، في تعدديته وتنوعه، وتناول إنتاجًا لكتَّاب ومفكرين في إطار الفكر الفلسفي والسوسيولوجي للثقافة، متمسكًا بقيم الحوار في مناخ صار الحوارُ فيه إقصائيًّا. فالكاتب في حاجة إلى طاقة هائلة لينجز وعيًا معرفيًّا متخففًا من أثقال الإيديولوجيا.
وقبل أن يلج الكاتب في طرحه لمسألة الإسلام والعلمَنة وإشكالياتها في إطار الفكر العربي المعاصر، ذهب إلى تعريف العَلمانية على أنها موقف معرفي يتسم بالتعامل مع أمور الواقع بعقل مستقل يستمد معطياته من خبرتنا بالواقع ذاته، خارج أية هيمنة لأية سلطة معرفية أخرى تعتبر نفسها فوق بشرية. فالعَلمَنة، بالتالي، بحسب رأي الكاتب، تحقِّق مثل هذا الموقف في المجالات المختلفة لهذا الواقع. وعلى ذلك، فعَلمَنة الفكر الإسلامي تعني التعامل معه بعقل مستقلٍّ يستمد معطياته من الواقع الفعلي الموضوعي لهذا الفكر، دون الخضوع لأية مؤثرات خارج ذلك النطاق. ومن تلك المفاهيم مفهوم “الإسلام النقدي” الذي يقوم على توظيف العقل النقدي داخل الفكر الإسلامي؛ فهو، بالتالي، الأداة المنهجية لعلمنة الفكر الإسلامي، بمعنى أن التحليل النقدي للجوانب الدنيوية في النص الديني هو الوسيلة الفعالة للفصل بين ما هو عقيدي وعبادي وبين ما هو دنيوي مختص بأمور الواقع في وعي الفرد المسلم.
يتناول الكاتب في الفصل الأول ثلاث دراسات عن الفكر العربي الإسلامي بين التحليل المنهجي وبين الفهم الإيديولوجي من خلال دراسة فكر كلٍّ من محمد عابد الجابري وياسين الحافظ وزكي نجيب محمود. وهو يرى أن دراسة الجابري للتراث تتمثل بتركيزها على آليات إنتاج الفكر أكثر من تركيزها على نتاج هذا الفكر. فدراسة آليات التفكير تطلبت من الجابري أن يختار مجالاتٍ محددةً في الفكر العربي دون مجالات أخرى، بحيث يكاد بحثه أن يقتصر على علوم النحو وأصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة – وهي العلوم النظرية ذات الطابع الاستدلالي – لأن مشروعه مشروع نقدي، وموضوعه العقل ونظريته العقلانية التي تقوم على إعادة كتابة التاريخ الثقافي العربي بروح نقدية، وعلى إعادة بناء للذات العربية على أسُس جديدة قوامها التخلص من رواسب النماذج السلبية الماضية، بالكشف عن أصولها وبيان طبيعتها والظروف التي أنتجتها، سواء قبل الإسلام أو بعده، وذلك لأنه يعتبر النصَّ الديني – الذي هو المرجعية النهائية المقدسة – مهيمنًا على مجالات الفكر النظري كلِّها، ما هو ديني منها وما هو خارج نطاق الدين. ويبدو، بحسب رأي الجابري، أنه لا مخرج للعقل العربي من أزمته ما لم يتجاوز تلك الهيمنة على وجه التحديد.
أما فكر ياسين الحافظ، فيراه الكاتب مزيجًا متداخلاً من التوجه القومي والتوجه الماركسي. فكان هاجسه الأساسي التحديث الثوري للمجتمع العربي على النمط الغربي، مع دمج الفكرة القومية بالمفاهيم الماركسية. ذلك أن المجتمع العربي، بحسب رأي الحافظ، يتميز بعدم نموِّ وتبلور طبقات اجتماعية واضحة المعالم، واعية بذاتها، ليسير تطورها في مسار التاريخ الأوروبي، حيث تنجز البرجوازية مهمة تحطيم البُنى التقليدية وتمهِّد الطريق للطبقة العاملة لإنجاز الثورة الاشتراكية.
ثم ينتقل الكاتب إلى تحديد السمات الرئيسة في فكر زكي نجيب محمود، فيلخِّصها في فكرتين أساسيتين:
– الفكرة الأولى هي أن المنظور العضوي الوظيفي، الذي يرى الكون والإنسان والمجتمع كيانًا عضويًّا واحدًا، تشكِّل فيه الوظائفُ العضوية المختلفة بنيةً موحدةً ونسقًا متكاملاً.
– الفكرة الثانية تتجلَّى في التفرقة في المعرفة بين السطح والقاع: حيث إن ما يبدو على السطح الملموس ليس حقيقيًّا بذاته، بل يستمد حقيقته من القاع العميق غير الملموس وغير المرئي. كلتا الفكرتين، على ما يرى عاطف أحمد، تتسم بغياب الحسِّ التاريخي والحسِّ النقدي للواقع الفعلي الملموس في مختلف مجالاته.
وفي الفصل الثاني، عمد الكاتب إلى نقد الفكر الإسلامي من خلال قراءة ظاهراتية لفكر حسن حنفي ودراسة عميقة لكتاب الإمامة والسياسة. ولعل هيمنة النصِّ الديني على الفكر العربي، بمختلف مستوياته، هي المسألة الرئيسة التي خصص لها حسن حنفي مشروعه الذي سماه “التراث والتجديد”، معتمدًا التحليل الفينومينولوجي في معالجة قضاياه. ذلك أن التراث والتجديد يعبِّران عن موقف طبيعي للغاية: فالماضي والحاضر كلاهما معيش في الوعي؛ ووصف الوعي هو، في الوقت نفسه، وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الزمن الحاضر. ويرى حنفي أن وسائل تطوير التراث وتجديده تتلخص في ثلاثة أمور:
– أولاً: موقفنا من التراث القديم: ويهدف إلى إعادة بناء العلوم التقليدية ابتداءً من الحضارة، وإلى تدوير عملية الحضارة وتسييرها من جديد حتى يعاد ربطُ الفكر بالواقع والعلوم بالتاريخ.
– ثانيًا: موقفنا من التراث الغربي: ويبيِّن حدود الثقافة الغربية ومحلِّيتها بعد أن ادَّعت العالمية والشمول.
– ثالثًا: نظرية التفسير: وتهدف إلى إعادة بناء الحضارتين معًا، ابتداءً من أصولها الأولى في الوحي، إلى وضع نظرية جديدة للتفسير تكون جامعة لها.
أما الفكرة الأساسية في كتاب الإمامة والسياسة لعلي مبروك، فهي فكرة الوحي وتأويله بهدف تحويله من مبدأ خارجي في الخطاب العربي المعاصر إلى مبدأ باطني، محرِّك ومجدِّد ومتحقِّق في المجالات كلِّها. ويتسم الخطاب العربي عند مبروك في كتابه الإمامة والسياسة بالاستهلاك الإيديولوجي للتراث، بالإضافة إلى رصد آليات معينة متحكِّمة في إنتاج أزمة الخطاب، مثل آلية النقل والاستعارة من السلف أو الغرب وآلية التعالي التي تكرس هيمنته.
وينتقل الكاتب في الفصل الثالث للحديث عن “الإسلام بين التاريخ والسوسيولوجيا” من خلال دراستين:
– أولاهما عن پيتر غران وأفكاره وتحليلاته لأحد نماذج المجتمعات الإسلامية، متمثلاً في مصر القرن الثامن عشر، فيحدد السمات العامة للإحياء الثقافي بأنه كان إحياءً اتباعيًّا جديدًا للثقافة الإسلامية، غلب فيه التفكير النقدي على النزعة القدرية السلطوية، وبأن مبحث فقه اللغة في تلك الفترة شهد ميلادًا جديدًا لعلم تصنيف المعاجم. كذلك فإن البحث في التاريخ شهد تداخلاً بين الديني والعَلماني، وبرز فيه دورُ الثقافة بوصفها نتاجًا لطبقة في حالة نضال.
– والدراسة الثانية عن تحليلات فرانسوا بورغا ومفاهيمه السوسيولوجية حول الإسلام السياسي. فهو يميز بين الإسلام السياسي، بوصفه ظاهرة سياسية دينية نابعة من الظروف المحيطة بها، وبين الإسلام الذي هو ثقافة راسخة. ويترتب على ذلك أنه من الممكن أن يكون الإنسان مسلمًا دون أن يكون إسلاميًّا.
وقد حاول الكاتب في الفصل الرابع الإجابة عن سؤالين:
– يتعلَّق أولهما بإمكانية تأسيس دولة عَلمانية المضمون، دينية الشكل، من خلال فكر عبد الله النعيم، الذي يعتبر أن الشريعة الإسلامية أحد مكونات الهوية التي من حقِّ الشعوب الإسلامية أن تختارها لنفسها وفقًا للحقِّ الجماعي الشرعي في تقرير المصير، المكفول للشعوب كافة، شريطة ألا يُنتهَك هذا الحق لأفراد وجماعات أخرى. وهو يرى كذلك أن الشريعة ستظل ذات أهمية بالغة في تكييف مواقف المسلمين، حتى لو لم تكن القانون العام للدولة.
– والسؤال الثاني يختص بموضوع التأسيس الفلسفي للعَلمانية: دراسة العَلمانية عند عادل ضاهر، الذي يراها التطور الطبيعي للبُعد الواقعي في المجتمع الإنساني طوال تاريخه، بوصفها موقفًا معرفيًّا شاملاً، وليس مجرد حالة سياسية أو اجتماعية. وكذلك الارتباط الأساسي بين سطوة التشريع الديني على المجتمع وبين هيمنة القائمين على تفسير الدين. وحق التدين والاعتقاد مكفول كحقٍّ أساسي من حقوق الإنسان التي هي منظومة القيم العَلمانية في العصر الحديث. وأخيرًا، إبراز كيف أن الارتباط بين الدين والدولة في الإسلام هو ارتباط تاريخي، وليس ضروريًّا أو جوهريًّا.
وفي الفصل الخامس، تناول عاطف أحمد مسألة “الخطاب الديني”: تحديث الرؤية عند أحمد عبد المعطي حجازي وفهمي هويدي. فيه حدَّد الخصائص العامة لتحديث هذا الخطاب، وتتمثل في تجريد النص الديني من ملابساته التاريخية والبشرية، ثم طرح العلاج الضروري لتلك الأزمة التي تتحدد في العَلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة.
بينما سعى الكاتب في الفصل السادس لتقديم مقالة حول تأثير التوجه الإيديولوجي على فهم النص الديني من خلال عرض نقدي لثلاث قراءات مختلفة:
– الأولى لسيد قطب (إسلام سياسي راديكالي)، الذي يرى أن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية، ولا منقذ لها إلا الإسلام كتصور وعقيدة وشريعة متخلِّلة جوانب الحياة كلها، متمثلةً في مجتمع لا يحكمه سوى العقيدة والمنهج الإسلامي.
– القراءة الثانية لجمال البنا (إسلام توفيقي عقلاني) الذي يسعى إلى التوفيق بين الدين كما هو وبين مقتضيات الحداثة، دون موقف نقديٍّ أو تحليل تاريخي للنصِّ الديني في حدِّ ذاته.
– القراءة الثالثة لسلمان غانم (ماركسي مسلم) الذي يتبنى منظومة معتقدات اشتراكية ثورية تؤمن بأن المجتمع يتكون من بنية تحتية، تتألف من علاقات الإنتاج وتفاعلها مع القوى المنتجة، ومن بنية فوقية تشمل المبدأ العام للفلسفة السياسية.
وأخيرًا، قدَّم الكاتب في الفصل السابع قراءة تحليلية لأحد نماذج الإسلام النقدي، متمثلاً في كتابات المفكر خليل عبد الكريم الذي يدعو إلى التمييز داخل الإسلام بين مكونين رئيسين هما: المكون العقيدي العبادي، من جهة، والمكون الدنيوي، من جهة أخرى.
إن الصراع التاريخي الطويل بين المؤسسات السياسية والمؤسسات الدينية في تاريخنا الثقافي يحتِّم علينا الوعيُ به أن نعيد النظر في أهمية استقلال المؤسسات الدينية وتحررها من سطوة السلطة السياسية؛ وهو استقلال يسمح لها أن تقوم بدورها دون أن تمارس سلطة سياسية، وخاصة فيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية والإنسانية.
*** *** ***
[1] عاطف أحمد، الإسلام والعلمنة: قراءات نقدية في الفكر المعاصر، بتقديم نصر حامد أبو زيد، دار مصر المحروسة، القاهرة: 2004.