النساء في ظل قوانين المسلمين
ماجدة سلمان
أتراها مغالاة في الانطباعية أن “نخلع أهمية كبيرة على وطأة الإسلام وتأثيره” ونحن نقيم جذور الاضطهاد الذي تتعرض له النساء العربيات؟ فرغم كل التحولات الاجتماعية، التي شهدها العالم العربي منذ عصر الخلافة، ما زال ضروريًا ترسيخ العلمانية وتعميمها في جميع بلدانه تقريبًا. والتشريع الذي يعالج قضايا الزواج والطلاق وأوضاع النساء (الدونية في جميع الأحوال) ما زال يستند إلى التشريع القرآني، أو يستلهمه مباشرة، في جميع الدول العربية والإسلامية. فأي دور يلعبه الإسلام، وما هي آثاره، وكيف يستخدم؟ أسئلة ستعالج هذه المقالة بعضًا منها.
الإسلام: دين دولة
تنظم النصوص المقدسة، كما وضعها القرآن، إدارة المجتمع الإسلامي، كما أن النظام الأخلاقي الذي عرضه النبي محمد يشكل قانونًا بحد ذاته. وقد وجد الدين الإسلام تعبيره في القوانين العملية التي ينبغي التقيد بها، ليس فيما يتعلق بالله فحسب، بل فيما يتعلق بالدولة الإسلامية أيضًا. وبالفعل، فإن القرآن والشريعة والأحاديث، التي لم تزل موضوعًا للجدل العنيف حتى اليوم، صاغتها هي ذاتها تجربة النبي بوصفه حاكمًا للدولة.
يكفل القانون القرآني، صراحة، تفوق الرجال على النساء. فالقرآن ذاته موجه للرجال حصرًا، لا للنساء: “الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض ….. واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن” (القرآن، سورة النساء، الآية 34). ويمكننا أن نورد عددًا لا يحصى من الشواهد الأخرى لها الطابع ذاته. وقد أدعى بعض المدافعين عن وضع النساء في الإسلام بأنه يمثل تقدمًا على الديانات التوحيدية الأخرى بتطبيقه المساواة الجنسية، إذ حرر المتعة الجنسية من كل مفاهيم الإثم والذنب. غير أن غياب الذنب ليس مرادفًا للحرية، لأنه يفيد الرجال وحدهم، ويكرس، في الواقع، دور النساء كموضوعات جنسية. وعلى سبيل المثال: “إنما نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنّا شئتم” (القرآن، سورة البقرة، آية 223).
وكما أشير من قبل: “وهكذا، فالحب ليس موجودًا كعلاقة إنسانية بل كعلاقة جنسية، كعبودية. وفي الحقيقة، فلا وجود للنساء بل للإناث وحدهن. وبنظر الرجل العربي المرأة قائمة في صفاتها المجسدة المتنوعة: العذراء، الزوجة، الأم، ولا مجال للمرأة الصديقة أو الحبيبة … والمرأة في القرآن ليست حبيبة بل زوجة. ولا وجود للحب، بل للجنس وحده … والزواج للمتعة الجنسية من جهة ووسيلة إنجاب من جهة أخرى، وبالتالي فإن صورة الزوجة تتطابق مع صورة الأم”.
غير أن هدفنا هنا ليس الدخول في نقاش مطوّل للنصوص المقدسة، فالمهم هنا أن القرآن والشريعة يشكلان أساس القانون التشريعي، وتستلهمه مباشرة جميع بلدان العالم العربي تقريبًا، لأن الإسلام هو دين الدولة فيها.
ومع ذلك، فإن كثيرًا من المناطق، التي تلتزم بتعاليم النبي، شرعت بالتكيف مع شروط العالم الحديث. فالربا، على سبيل المثال، هو من الكبائر في الإسلام، غير أن “معظم مسلمي” الطبقات الحاكمة لا يتورعون عن أخذ الفوائد التي تولدها أرصدتهم المصرفية، فالفوائد لم تعد تضبطها المعايير التي كانت سائدة في القرن السابع الميلادي. غير أن التقيد بتعاليم النبي يكون صارمًا فقط متى تعلق الأمر بالمعايير التي تتحكم بحياة النساء: الزواج، الطلاق، تعدد الزيجات، رعاية الأطفال، فرض وصاية الذكور على النساء. وبتعبير آخر، مع أن الإسلام عانى كغيره من الأيديولوجيات من تعديلات أمام ضغط التغيرات الاجتماعية التي فرضها التاريخ، فإنه يتكشف عن جمود جلي إزاء المواضيع التي تخص دور النساء في المجتمع.
وبالفعل، كانت هذه النزعة المحافظة قوية حتى أنها احتوت كثيرًا من القوانين والتقاليد التي اعتبرت أنها إسلامية بشكل عام، لذا تم الحفاظ عليها طيلة قرون، مع أنها في الحقيقة ليست إلا نتاجًا لردود الفعل التي أبدتها المجتمعات السابقة على الإسلام وآثاره، أو أنها ناتجة عن ضرورات محضة نشأت عند نقطة معينة من تطور هذا المجتمع أو ذاك. وأحد الأمثلة المميزة التي توضح هذه النقطة هو ارتداء الحجاب.
لقد ظهرت هذه الممارسة، على ما يبدو، كرد فعل على الإصلاح القرآني الذي كفل للنساء حق الوراثة، هذا الحق الذي غدا عامًا حينما أخذت القبائل البدوية بالاستقرار خلال السنوات الأولى من التوسع الإسلامي. “فالكتاب المقدس، إذ جعل من توريث النساء أمرًا إلزاميًا وجه ضربة موجعة للقبيلة، بذلت معها المجتمعات القبلية كل جهدها لتفاديها حتى عندما اعتنقت الإسلام بإخلاص وبدرجات متفاوتة. ويمكننا أن نلحظ اليوم أن تعميم الحجاب وعزل النساء يتصل اتصالاً وثيقًا بالنظام القرآني الخاص بمسألة توريث الإناث”.
ويبدو أن هناك سلسلة من الأحداث، كنت شاهدًا على أحدها:
الحميَّة الدينية تفرض حقوق توريث الإناث.
حقوق توريث النساء تدمر القبيلة.
القبيلة المدمرة تقبل بوجود الغرباء من خارجها.
يشرع الآباء بتحجيب بناتهم كي يصونهن لفتيان العائلة رغم كل شيء”.
في مؤلفه البنية الاجتماعية للإسلام يعرض روبن ليفي تفاصيل تتعلق بمظهر النسوة المسلمات:
إن تحجيب النساء وعزلهن أمر وثيق الصلة بموضوع الزواج في الإسلام. ففي شبه الجزيرة العربية قديمًا، يبدو أن العادات كانت متنوعة، فالنسوة اللاتي يقيمن في الصحراء كن يتنقلن سافرات دون حجاب ويختلطن بحرية مع الرجال، بينما كانت نساء المدن متحجبات.
ويشير ليفي إلى أن النسوة لم يكن عليهن ارتداء الحجاب زمن الخليفة عمر بن الخطاب (634-644).
وفي كثير من الحالات، يظل لزامًا علينا أن نحدد التاريخ الدقيق لتعميم الحجاب وتقديم مسوغاته الحاسمة، لكن الأمر المؤكد أن هذه العادة سابقة على الإسلام إلى حد معين وأن النبي محمد لم يفرضها بصورة خاصة. ومع ذلك، فما إن اعتبرت “إسلامية” حتى تبوأت مقام العادة لا بل مقام القانون في غالب الأحيان.
والخلط بين البنى الدينية وبنى الدولة، بين القانون والنصوص المقدسة، هي سمة عامة للمجتمعات التي نشأ فيها الإسلام وانتصر. كما سادت هذه السمة، مع اختلافات في الشكل، منذ عصر الفتوحات الإسلامية والخلفاء الأوليين مرورًا بالإمبراطورية العثمانية وحتى حقبة الرأسمالية.
ومع ذلك، لطالما كانت هذه الظاهرة أكثر تميزًا في كل ما يتعلق بوضع النساء في المجتمع. ولعلنا نعي بمزيد من الوضوح تأثير الإسلام في هذه المسألة بإلقاء نظرة على الحجج التي ساقها المصلحون الكبار في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (عصر النهضة العربية). فقد درس معظم هؤلاء المصلحين في الجامعات الفرنسية، وأطلقوا بعد عودتهم دعوات لتحديث الدولة (مثل سلامة موسى وقاسم أمين). ويعتبر أمين رائدًا في ميدان تحرير المرأة، وهو واحد من المصلحين العظام. ولأنه من أصل تركي، قد درس القانون في جامعة مونبلييه في فرنسا، وعمل فيما بعد مشرعًا في مصر نهاية القرن التاسع عشر، وألف عددًا من الأعمال عن وضع المرأة، ودعا في كتابه تحرير المرأة إلى مساواة النساء في الحياة الاجتماعية، وأصر على ضرورة تعليمهن. في الوقت نفسه، جاهد بدأب على تدعيم حججه باقتباسات من القرآن، فالتوافق مع القرآن كان بنظره دليلاً قاطعًا على أنه يسير على الطريق القويم، وبأنه لا يخرج عن شرعية “مجتمعنا”. وقاده ذلك إلى استطرادات دينية مسهبة تشابكت على نحو غريب مع أفكاره العقلانية الأخرى. على سبيل المثال، فبعد ذكره لمقطع من القرآن يوصي المؤمنين بما يلي: “قل للمؤمنات، ولا يبدين زينتهن (إلا ما ظهر منها) وليضربن بخمورهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن …” (سورة النور، آية 31)، يسطر أمين صفحات محاولاً إثبات أن “زينتهن” (بكلمات أخرى، “الأعضاء السرية”) لا تتضمن الوجه أو اليدين.
لقد كان ذلك في مطلع القرن العشرين، فما الحال اليوم؟ قبل ثلاث سنوات، وفي حوار طاولة مستديرة نظمته ناشطات الحركة النسوية في دار الفن في بيروت، حضر شيخ “متحرر ومتنور” ليقنع المشاهدين بأن الإسلام قد حرر النساء، وبأن علينا أن نتبع القرآن حرفيًا في جميع مسائل الأحوال الشخصية، واكتفى بأن ردد المواقف الرسمية التي عزف عليها “أنصار مساواة النسوة المسلمات” طيلة عقود، ودافع بالطبع عن شرعية الدولة الثيوقراطية.
الأيديولوجية البرجوازية في العالم العربي: هل هي أيديولوجية عربية-إسلامية؟
يبدو أن برجوازيتنا تجد في وضع قانون علماني للأحوال الشخصية خطرًا أشد من خطر التأميم، ففي بعض الدول الإسلامية، غير العربية، قامت البرجوازية في خضم نضالها لتحديث وتعزيز الرأسمالية المحلية بتحقيق العلمنة، مما يثبت أنه يجدر بنا عدم البحث عن تفسير الوضع المخزي للنساء العربيات (ومنبع الوسواس المرضي لدى الرجال العرب بالرجولة) في مضمون القرآن فقط، بل في أن الطبقات الحاكمة، ومن ورائها البرجوازيات المحلية التي تمسك بزمام السلطة الآن، تشعر بضرورة “احترام” التقاليد الإسلامية وإدارة الدولة وفق الشريعة الإسلامية (باستثناء الوضع الخاص للبنان الذي لم تقم فيه العلمانية على أية حال، وتونس التي ينبغي تحليل وضعها بشكل منفصل).
بعد الثورة التي قادها كمال أتاتورك في تركيا تمت علمنة الدولة وأحدثت الكثير من التغيرات في أوضاع النساء، ولاسيما في المدن، فلماذا لم يحاول عبد الناصر أن يقيم الدولة المصرية الحديثة المستقلة مدعومة بإعلانها دولة علمانية؟ ولماذا لم تلجأ جبهة التحرير الوطنية الجزائرية إلى هذا السلاح في مواجهة القوى الرجعية وضد ديماغوجية أنصار الإمبريالية “المتطلعين إلى المستقبل” حتى في أوج النضال ضد الإمبريالية؟ ولماذا شعر حزب البعث بأنه مجبر على مماهاة النضال في سبيل الوحدة العربية مع الهوية الإسلامية، ولماذا سارع إلى الإعلان، حالما تسلم السلطة، بأن الإسلام هو دين الدولة، في كل من العراق وسوريا؟ (المؤسس الفكري للبعث، ميشيل عفلق، المسيحي، اعتنق الإسلام قبل سنة من ذلك، معلنًا أن العروبة والإسلام لا ينفصلان). وبوسع المرء أن يضيف أشكالاً كاريكاتورية لهذه الظاهرة: “جماهيرية” السعودية العربية للقذافي، حيث يستحيل على السخرية أن تلطف من القمع الوحشي الذي يحرم النساء من أي خيار مهما قل شأنه، بما فيهن نسوة الطبقات الحاكمة.
وأحد أسباب هذا الشذوذ الظاهر هو أن رد الفعل على القمع الكولونيالي والإمبريالي في العالم العربي اتخذ شكل التقيّد بالتقاليد والإيمان المحليين استجابة للضغط الثقافي للمستوطنين.
عندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830، فإن المجتمع الذي هاجمته، بغض النظر عن نقائصه وجهله، هو جزء من حضارة قديمة لطالما تنافست مع حضارتها، ألا وهي الحضارة العربية-الإسلامية. والتحريم القرآني لزواج المرأة المسلمة من غير المسلم حمى النساء المسلمات من أن يسلمن أجسادهن للمضطهد. بيد أن هذا الرفض وضع النسوة في شمال أفريقيا، من جهة ثانية، في قبضة الرجال في مجتمعاتهن، لأن المرأة، مع كل ما يمت إلى الحياة الخاصة، أضحت رمزًا بنظر الرجال، ملاذًا ملموسًا من المهانة التي يلاقونها في ظل النظام الكولونيالي. وهذا يفسر لمَ أُكرهت النساء على العيش في محابس ضيقة، والغيرة عليهن والمبالغة في حمايتهن، حيث لعب عدم ظهورهن العلني وغياب حضورهن الملموس دور ضمانة أخيرة للكرامة الذكورية تارةً، وتارة كعذر لأولئك الذين وسموا بالتعاون مع المحتل.
ويفسر مؤلفو هذه المقالة التي أخذنا عنها هذا الاستشهاد، تباين تأثير الكولونيالية على أوضاع النساء في شمال أفريقيا والمكسيك على أساس هذا التغاير في الواقع السابق على الكولونيالية. (واجهت الكولونيالية الأسبانية في القرن السادس عشر مجتمعًا قبليًا، فأفضى ذلك إلى مزيج ثقافي و”عرقي”، وهو ما لم يكن عليه الحال في شمال أفريقيا).
كان على هذا النوع من رد الفعل، رغم تناقضه، أن يتخذ بعدًا أوسع خلال الحقبة الإمبريالية. فقد أفضى تقاسم العالم العربي من قبل قوى الإمبريالية الأوروبية إلى ظهور الوعي القومي، وهو عنصر هام تأتت عنه الرغبة في إعادة تحقيق الوحدة العربية التي حطمها “الغربيون”. ووجد هذا الوعي تعبيره في الالتزام بالعوامل الموحدة السابقة على التجزئة: اللغة، والعادات والدين التي تعاش كتقليد ثقافي. وهكذا بات الإسلام مكونًا من مكونات الوعي القومي البرجوازي. وقد عانت المرأة العربية من رد الفعل هذا، إذ عمل على تطويق التطلعات إلى تحسين منزلتها، الأمر الذي كان يمكن حدوثه بفضل الاحتكاك مع المجتمع الأوروبي وبفضل النضالات الجماهيرية للتحرر من هيمنة الإمبريالية الأوروبية.
لقد كان رد الفعل على الإمبريالية متناقضًا، مع ذلك، ولاسيما بسبب تأثير الإمبريالية على البنى الاجتماعية-الاقتصادية السابقة على الرأسمالية في العالم العربي. فمتطلبات الإمبريالية ونمط الإنتاج الجديد المفروض قضت بأن ترسل الفتيات إلى المدرسة (خاصة في المدن) وبأن تظهر شريحة النساء الموظفات في قطاع الخدمات. وفي بعض الحالات، كانت هناك أيضًا حاجة لاستغلال قوة العمل الرخيصة من النساء. وبالفعل، فإن التغيرات التي أحدثها دخول الرأسمالية والتفاوتات التي أظهرتها أطلقت أولى نضالات النسوة العربيات.
ويمكننا إيجاز التناقض الناتج على هذا النحو: فمن جهة، خلق القمع والتغيرات الاجتماعية التي فرضتها الإمبريالية أسسًا موضوعية لظهور نضالات النساء ولانخراط النساء في حركة النضال العامة ضد الكولونيالية من أجل التحرر الوطني؛ ومن جهة أخرى فإن شكل الوعي القومي البرجوازي الذي ضرب بجذوره في أوساط الجماهير نتج عنه تعزيز للإسلام ضمن ذلك الوعي ذاته، فأعاق هذا الأمر قيام نضالات النساء، بل أعاق المشاركة الفاعلة للنساء في النضال من أجل التحرر الوطني. وأخيرًا، فإن الوعي القومي البرجوازي في العالم العربي، الذي تماهى تمامًا مع الأيديولوجية الإسلامية، بات سلاحًا بيد الطبقات الحاكمة المحلية التي استولت على سلطة الدولة بدل القوى الكولونيالية الأوروبية. بتعابير أخرى، إن الموقف الإسلامي من المرأة، إضافة إلى موقف الإسلام من القضايا الاجتماعية الأخرى، بات وسيلة لتأبيد الهيمنة العامة للطبقات الحاكمة العربية.
الاشتراكية العربية: الاشتراكية الإسلامية؟
لسنا نفضل الشيوعية ولا الرأسمالية، بل الاشتراكية العربية، الاشتراكية الإسلامية. لأسباب لن نتطرق لها هنا، فإن النضال من أجل التحرر الوطني في البلدان العربية، الذي بلغ أوجه في الخمسينات، تزعمته الحركات القومية. وقد جاءت هذه الحركات إلى السلطة إما بانقلاب نظمه ضباط الجيش الشباب، أو من خلال نشاط الأحزاب السياسية التي امتلكت قاعدة من البرجوازية الصغيرة أساسًا. والأنظمة البرجوازية التي أقامتها الحركات والنضالات المعادية للإمبريالية في العالم العربي كانت مكرهة غالبًا على اتخاذ إجراءات راديكالية بمواجهة الغطرسة الإمبريالية، لذا فقد كانت مجبرة على الاستناد ليس على البرجوازية الصغيرة المدينية فقط بل الاعتماد أيضًا على الفلاحين والطبقة العاملة، وحتى على تعبئة العمال والفلاحين إلى حد معين. بيد أنه كان لزامًا عليها أيضًا أن تضمن بأن تلك النزعة الراديكالية والتعبئة الشعبية لن تؤجج الصراع الطبقي، وبأن هبات الفعل الجماهيري يمكن ضبطها ضمن حدود تتلاءم مع تأبيد نمط الإنتاج الرأسمالي. وقد تم اختيار الصيغة التي تكفل قيام هذا التوازن المرهف بعناية فائقة: الاشتراكية الإسلامية، أو بصياغة أخرى: الاشتراكية من أجل الاستهلاك الشعبي، والإسلام من أجل بقاء الرأسمالية.
كل ما ظفرت به النساء من هذا الأمر هو عدد من الحقوق السياسية (كحق التصويت) والحق بالعمل كلما كانت الدولة الجديدة المستقلة بحاجة إلى قوة العمل. وكانت السلطات الدينية جاهزة دومًا لتعلن إما بأن الإسلام يسمح للنساء بأن يشاركن في النشاطات الاجتماعية أو بأن الإسلام يقضي بعزل النساء، وذلك حسبما تقتضيه اللحظة المعينة. (والنمط الأخير من التصريحات ذو قيمة خاصة، بالطبع، في فترات الاضطرابات الاجتماعية، أو تفاقم الصراع الطبقي، أو ارتفاع نسبة البطالة). وتناقضات التصريحات التي يدلي بها شيوخ الأزهر في مصر، حماة القرآن والشريعة، تثير الدهشة فعلاً.
أما في الريف، فإن تفاقم حدة الفقر هو التغير الوحيد الملموس في وضع النساء ، ولاسيما بعدما انتهت مختلف الإصلاحات الزراعية إلى الإخفاق.
وقد اعتبرت العلمانية، في جميع هذه الدول المستقلة، عامل تفجير للاستقرار الهش والقلق أصلاً. واستندت قوانين الأحوال الشخصية، في جميع هذه الدول، إلى شريعة القرآن وحكمت “تقاليد ثقافتنا الإسلامية” حياة النساء. لنأخذ مثلاً واحدًا: ما الذي عنته “الاشتراكية الإسلامية” للنساء في الجزائر المستقلة، هذا البلد الذي تقدم فيه حركة التحرر، جبهة التحرير الوطنية، كحركة غيرت ظروف النساء تغييرًا جذريًا؟
فمنذ عام 1967، والصحيفة الرسمية المجاهد لا تكف عن إسداء النصائح حول التفكير القويم مثل:
تنهض اشتراكيتنا على أركان الإسلام لا على تحرر النساء المتبرجات، ومصففي شعرهن ومستحضرات تجميلهن، اللاتي يثرن الأهواء المنفلتة والمؤذية للإنسانية.
في فصل يحمل عنوان النفاق من كتابها النسوة الجزائريات، تقتبس (ف. مرابط) من مقالة نشرت في مجلة الجيش، عام 1965:
ماذا سيحل برجولة الجزائر ومجدها، وبشيم شبيبتنا القومية العربية-الإسلامية الوطنية، وإلى أي درك سينحدر شبابنا، إن رأوا أخواتهم في أحضان الأجانب، أعدائهم وأعداء الأمة العربية برمتها؟
وفي البلدان التي يكون فيها الإسلام دين الدولة ليس هناك إلا حزب سياسي واحد وحيد هو الحزب الحاكم، وهو بدوره يضبط بإحكام جميع المنظمات الجماهيرية في القطاعات المختلفة. وهكذا، أعلن الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات في مؤتمره الأول، عام 1966:
على المؤتمر أن يكرس نفسه كاملاً لحماية وحدة الأسرة، وذلك بترسيخ البنى التي تتوافق مع الشخصية الجزائرية، ومع الثقافة العربية الإسلامية.
وفي عام 1972، قدمت المسودة الأولية لقانون الأسرة هذا الشرط في أمر الزوج:
يقضي الخطأ في الشخص أو اللجوء للعنف إلى إنهاء الزواج.
أجل، فالحجاب قد يتحايل، وزوج المستقبل (الذي دفع ثمن العروس المختارة) قد يقع ضحية خداع ويجد نفسه متزوجًا بأخرى، لأن “الخطأ في الشخص” لا يمكن اكتشافه إلا بعد الزواج، متى سقط الحجاب.
ومع أن قانون الأسرة المقترح ينهض على القانون الإسلامي، غير أنه كان عليه، بالطبع، أن يتكيف مع بعض الضرورات الحديثة فتخلى بالتالي عن بعض التشريعات المربكة بشدة، لذا تم التلاعب “بالنصوص المقدسة”. والمادة 41 من المسودة تنص على أن:
يجد مطلب الزواج الأحادي أساسه في القرآن والشريعة. وقد اعتقد ابن رشد بأنه أمر إلزامي. وكان هذا رأي الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عمر بن عبد العزيز، ومعاوية. إضافة إلى ذلك لطالما كانت هذه العادة شائعة في بلدنا، كما أن الفتوى التي قدمها أبو زكريا المغالي في القرن التاسع توضح هذا الأمر بجلاء ودقة، لذا تعتبر اللجنة أن من واجبها أن تكرس هذا العادة في مادتها الحالية.
هل ثمة حاجة حقًا للبحث عن مبررات لدى هذه الشخصيات الإسلامية الشهيرة لمجرد تقديم اقتراح بترسيخ الزواج الأحادي، خاصة وأن هذا الزواج يجد “أساسه” في القرآن، كما يقول هؤلاء المشرعون؟
الإخوان المسلمون: نسخة عربية من الفاشية
لأن البرجوازية العربية برجوازية عربية إسلامية، فمن المنطقي تمامًا أن تأتي الفاشية المحلية على صورة نسخة مغالية لهذه الهوية الدينية. وكان على حزب الإخوان المسلمين، الذي تشكل عام 1919، أن يبقى متواضعًا عدديًا حتى أواخر الأربعينات، تلك الفترة التي شهدت غليانًا اجتماعيًا وشعبيًا في الشرق الأوسط، حيث تزايدت شعبية مبادئه في أوساط البرجوازية الصغيرة أساسًا (ولاسيما في مصر وسوريا). وبالفعل، شن الإخوان حملة ضد “الرأسمال الكبير” دفاعًا عن الملكية الخاصة، وضد “الغرب” وقيمه المستوردة (مع أنهم رفضوا استعمال كلمة الإمبريالية)، وضد الشيوعيين (عدوهم الرئيس)، وفي المقام الأول ضد أي إصلاح ديني وضد العلمانية، كما شنوا حربًا شرسة وحاسمة ضد تحرر المرأة. واستندت تعبئتهم إلى شعار “الشيوعية = الإلحاد = تحرر المرأة”. وعودة ظهورهم الحالية في مصر ليست نتيجة لنزع الناصرية فقط (فقد عانى تنظيمهم قمعًا شديدًا خلال حكم عبد الناصر) إنما هو أيضًا نتيجة لتفاقم الأزمات الاجتماعية في هذا البلد وإلى رغبتهم في مواجهة الحركة العمالية المناضلة تمامًا، ولكن غير المنظمة.
وبينما عملت الفاشية في أوروبا على تقييد النساء إلى الأولاد والكنيسة والمطبخ، يطالب الإخوان المسلمون بإعادة ارتداء الحجاب، ورفض كل إصلاح لقانون الأحوال الشخصية، ورجم الزانية حتى الموت، الخ. ويشهد على ذلك نشاط الإخوان المسلمين في القاهرة عقب تمرد العمال في كانون الثاني عام 1977.
وفي لبنان عام 1970، إبان احتدام الصراع الطبقي، وزع حزب التحرير، ذراع الإخوان المسلمين، منشورًا طويلاً في أحياء البرجوازية الصغيرة السنية في بيروت، يبين أن الإسلام يحرّم اختلاط الرجال والنساء في الأماكن العامة، وبأن المدارس هي أماكن عامة، وبأن على الفتيات بالتالي أن ينسحبن من المدارس ذات التعليم المختلط. إلا أن خطر الإخوان المسلمين لا يأتي من مجرد توزيعهم للمنشورات، بل من استخدامهم للعنف، وبموافقة ضمنية من السلطات الرسمية أحيانًا وبدعم مادي سخي من السعودية والنظام الليبي. وفي الجزائر، قام الإخوان المسلمون، في السنتين المنصرمتين، وبدعم من الشرطة أحيانًا، بمهاجمة النساء اللاتي يسيرن لوحدهن ليلاً، وأساءوا إليهن جسديًا.
وبسبب هذا الوضع العام، يصعب علينا ألا نؤكد على وطأة الإسلام وتأثيره في تقييمنا للنضال من أجل تحرر المرأة العربية، كما يصعب ألا نأخذ في حسباننا القمع الجسدي المباشر الذي تعانيه النساء بسبب التقيد بالتقاليد العربية الإسلامية. وليس مصادفة أن مطالب اتحاد النساء المصريات، الذي تأسس عام 1923، غداة ثورة عام 1919، من أجل تعديل قانون الأحوال الشخصية لم تزل قائمة على جدول أعماله حتى اليوم. والاضطهاد العنيف الذي تعانيه النسوة العربيات والوصاية المباشرة لذكور العائلة، الذين يتحدد شرفهم ورجولتهم حسب سلوكهم مع زوجاتهم، لم ينتج عنها ارتفاعًا في سوية الوعي لدى النساء، إنما على العكس من ذلك تمامًا. والوطأة الدؤوبة المستمرة ما تزال حاضرة، جاهزة في خدمة الركود والثورة المضادة. ومع أن نفيها وإلغاءها يمكن أن يكون نتيجة لثورة اجتماعية فقط تستأصل جميع أشكال الاستغلال وتمكّن النساء من وضع حد للإذلال الذي عانين منه طيلة قرون، فينبغي ألا نقلل من شأن التأثير الراهن والمستقبلي لهذا الاضطهاد مطلقًا.
تموز 1998
ترجمة: معن عبد السلام