جدل الثقافة والسياسة
سربست نبي
يتعيّن علينا توقع الكثير من المصائب والويلات تنهال على رؤوسنا حينما يشْرع السياسي بإلقاء موعظة ثقافية، أو يستعير لسان المثقف ليلقن البشر دروساً في الحكمة والمعرفة، وتلكم أحد مظاهر نكبة العقل. هكذا يستخفّ المثقّف بالسّياسيّ ويترفّع عليه بوصمه جاهلاً. ولا ريب في أنّ موقف السياسيّ ليس أقلّ ازدراءً واستهتاراً وأقلّ ثقة بجدارة المثقّف وجدوى عمله. يقول إدغار موران: إنّ جميع الفنون أبدعت وأنتجت روائع، إلا السياسة، فقد خلّفت مسوخاً. والحقّ أنّ هذا الرأي، من وجهة نظر الثقافة، لا يخلو من الصواب تماماً. إنه يتّكئ على خبرة تاريخيّة مباشرة وعينية ترى في السياسة مصدراً للكثير من الكوارث والمآسي والويلات.
ترى الثقافة في السياسة علم الأبدية، والشرّ الذي لا بدّ منه، لأنّ البشر محكومون بها في شؤونهم. وهي أبعد ما يكون عن رفض السياسة. لكنها، بالمقابل، لا تخفي رفضها للسياسة القائمة، السياسة التاريخيّة- وليس السياسة النظرية بصفها علماً- وهذا ديدنها. لأنّ الأخيرة لم تستجب لحدّ الآن لمثلها الأعلى في الحياة، ولم تمثّل في أبهى صورها تحققاً له. الثقافة حين تتصوّر التاريخ، على هذا النحو، من حيث هو موضوع للسياسة، لا تجد فيه سوى البؤس والعنف والخداع والتشويه. فالصورة الميكيافلية للسياسة كانت دائماً هي الغالبة والواقعية في الممارسة السياسة تاريخياً، وقد ارتكزت على دعامتين أساسيتين هما العنف والخداع. وهي، الثقافة، حين تَُقدم على تعريف السياسيّ وتصويره، فإنّ النموذج السائد، الأكثر حضوراً في وعيها، للسياسي المؤمْثل، هو السياسي المخادع المخاتل، الأناني والمقامر، الذرائعي وقاسي القلب، الذي يملاْ الشكّ قلبه فلا يثق حتى برفاق دربه، على حدّ تعبير سارتر، إنه الكائن الذي يدوس المحرّمات بقوّة السلطة، ويكتسح القيم والفضائل متى ما حالت دون تقدّمه، ويكفر بالأخلاق، العنيف والماكر والخبيث، النهم بالسلطة الشغوف بالسيطرة، الولع بالقوّة . إذن الميكيافلية ليست اختراعاً من الثقافة، إنها واقع الممارسة التاريخيّة للسياسة، والترجمة الأكثر وضوحاً لها.
السياسة مدانة في ولادتها بصكّ الخطيئة، إذ إن منشأها سلبيّ، انبثق عن الصراع بين المصالح الفردية. ويعود إلى جذر طبيعي يتصل بغريزة حفظ الذات والتملك والسيطرة. إن الحاجة إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية الناشئة عن الحاجات الطبيعية للإنسان يشكلّ الأساس التاريخي لنشوء السياسة. وترتدي آراء المفكر الإنكلّيزي توماس هوبز أهمية خاصة، بصفته المنظّر الحقّيقي والممثل الأبرز لهذا الاتجاه في تفسير أصل السياسة. حيث عمد إلى نقض مصادرة الحالة الإغريقية- الأرسطية التي تفيد بأن الإنسان كائن سياسي بطبعه، لأن التفاوت بين البشر هو كذلك طبيعي.
تشترك الثقافة مع السياسة بكونها وسيلة، لا غاية، وهي تهدف إلى تلبية الحاجات الروحية لدى الأفراد. إنها في تعريف عدد من البحاثة كلّ مركب يشتمل على الرؤى والمعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون، التي تنبثق عن موقف الإنسان في الحياة، بصفته عضواً في المجتمع، وتعكس رؤيته للعالم. وبهذا المعنى فإنّ للثقافة نطاقاً مشتركاً، واسعاً وعميقاً مع السياسة.
يعود إلى أفلاطون الفضل في السعي إلى جعل الفلسفة سياسية إلى أبعد مدى، وهذا ما عبّر عنه كتاب الجمهورية، إذ تطلّع إلى تأسيس السياسة طبقاً للمثل الأعلى الفلسفي. ولكن بالمقابل يتعذّر علينا أن نسجّل حالة واحدة، نوعاً ما، في تاريخ السياسة والممارسة السياسية الحديثة، لسياسيّ استطاع بنجاح أن يجعل من الفلسفة سياسية. ميكيافلّي هو النموذج الأمثل للسياسي الذي حاول أن يتفلسف، وتنكّر بعنف للأفلاطونية السياسية، إذ كان معاديا للفلسفة بقوّة وحزم، مثَله في ذلك مثَل كاتون الذي دفعه غيظه من الفيلسوفين ديوجينوس وكارنيادس سفيريْ أثينا، فأصدر أمراً بألا يجري في المستقبل القبول بوجود أي فيلسوف سفيراً في روما. كان أرسطو أوّل من قال بسياسة خالصة، مجرّدة من الفلسفة، وأفرط في تقديره للسياسي على حساب الفلسفي الأخلاقي.
بموازاة هذا النقاش. تستطيع الفلسفة أو الثقافة، ودون تكلّف، أن تتباهى فعلاً وتطري نفسها بأنها قدمت للسياسة مثقفاً سياسياً من طراز ماركس أو غرامشي، وأمثالهم كثر. لكن السياسة في ذروة مجدها وإبداعها لا تستطيع إلا أن تتمسك بأسمال ميكيافلي أو روبسبيير، أو لينين لتبرهن بأنها قدمت للثقافة أفضل ما لديها. وهذا الفارق يتجلّى في إرث كلّ منهما. فقد أراد ميكيافلي لـ( أميره) أن يكون فرداً طاغية، زوّده بكلّ التقنيات الخاصة لاغتصاب السلطة، ولممارسة الهيمنة والطغيان، كالدهاء والخديعة والحيلة، القسوة والعنف. بينما قصد غرامشي من( الأمير الحديث) أن يكون تنظيماً جمعياً واعياً بذاته، معبراً عن إرادة الكلّ وفاضلاً.
تبرز هنا وبقوة أهمية مسألة الغايات بالنسبة للمثقف وللسياسي، كلّ على حدة. ومن المؤكد أن السياسة كانت عبر التاريخ تمارس من خلال السلطة وتتكلّم بوساطتها. إن معظم مفاهيمها المركزية كالهيمنة والقوّة والطغيان تنبثق عن السلطة وتصدر عنها. والواقع أن السياسة هي فكرة السلطة بالذات، إنها ثمرة تلاقي الحاجة إلى تأكيد الهيمنة مع الرغبة في ضبط النزاعات وتنظيمها. إن السياسة، وهي ناتج هذا التلاقي، هي ممارسة السلطة وقد غدت وعياً بذاتها ولذاتها. هكذا تغدو السلطة بؤرة اهتمامات السياسة، التي لا يعود لها من مأرب سوى ازدهارها وعظمتها ورسوخها، وهذا الهدف يتجاوز الخير والشرّ معاً. فلا تعترف بأيّ مبدأ أسمى أو قانون سوى حفظ الأخيرة بالذات وبقائها.
تنبع ضرورة السلطة من ذاتها، وتقوم على رفض كلّ معيارية أخلاقية، أي ألا تكون فاضلة طالما يتعارض ذلك مع شروط وجودها. وتعني القدرة على ممارسة ذلك ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. إن القوّة والسيطرة تشكّلان حقيقة وعي السلطة بذاتها. فلا ينبغي أن تكترث بغير هذين الهدفين، وهي تبرّر المكّر والخداع لتحقيقهما، تأكيد القوّة واستمرارية السلطة. هكذا تضع السياسة العملية، موضع المعيار الغائي للوظيفة الأخلاقية المعيار البراغماتي المحض لمصلحة ديمومة السلطة وتكريسها.
إن أصل الغاية ومبدأها بالنسبة للثقافة هي الحرّية، ومآلها الحقّيقة. ويتعين علينا هنا الاستدراك والتنويه بضرورة الأخذ بالتمييز، الذي اقترحه ماكس فيبر على هذا الصعيد بين الأهداف والغايات. فالسياسي يمنح الأولوية للأهداف المباشرة( الأهداف الظرفية والواقعية). أما المثقف فإنه يعنى بالدرجة الأولى بالغايات، التي لا تشكلّ موضوعاً للفاعلية السياسية مباشرة، بينما تظل مشروعاً مفتوحاً بالنسبة إليه وممكناً. وهي تنطوي على معان خصبة وسامية ومعايير تلهم الأهداف العملية. إنها إنسانية أكثر من كونها سياسية تخص هذه الجماعة أو تلك.
هنا تتجلى بقوة تعارض الغايات بين موقف المثقف المتمثل بحريته، وموقف السياسي القائل بضرورة السلطة. ومن الواضح في السياسة أنه لا يمكن الحديث عن ازدهار السلطة وضمانها دون اللجوء إلى الإكراه والعنف. أما الثقافة فلا نهضة لها إلا بالحرّية ومن خلالها. وتقوم فاعلية المثقف على دعامتين أساسيتين، الحرّية والإبداع. أو يتماه دوره، على الأقل نظرياً، مع وجوده ككائن حرّ.
إن المثقف الحقّيقي هو مثقف من خلال الحرّية، التي يحتفظ بها لنفسه، يمارسها وينافح عنها أكثر من كونه مثقفاً خلال الأفكار والمعارف، التي يقولها ويبشّر بها. وهنا تقاس كذلك قيمة وجدوى تلك الأفكار والمعارف، بدرجة حرّية الفرد المثقف على أنها ثمرة ممارساته الحرّة. وعند فيشته الثقافة هي ممارسة كلّ القوى من أجل هدف الحرّية الكاملة.
ومن المفيد هنا الإشارة، إلى أن أفضل تصوّرٍ عن السياسة المثلى وأبهاه، لم يتشكّل على يد الساسة، وإنما صاغه الفلاسفة والمثقفون. وتتصدر هنا تصورات اسبينوزا وماركس وآراؤهما كأسمى تعبير عنها. فالسياسة الأكثر ديمقراطية والأكثر الحرّية، هي الأقل جهلاً، والأكثر عقلانية ووعياً بالضرورة، وهي في الوقت نفسه الأقل عنفاً والأكثر سلامة وأمناً ومنفعة. وتبدو الحرّية والديمقراطية، مع اسبينوزا، حاجةً تلازم كلّ سلطة أو دولة لا تريد لنفسها أن تكون سلطة الضرورة اللاواعية، أي سلطة العماء والفوضى .
يزعم السياسي في معظم الأحوال أنّ الغاية الأساسية بالنسبة إليه هي الحقّ، وليست الحقيقة، التي هي غاية المثقف وشرط لمفهوم الحقّ ومبرر له. وهذا الأخير مفهومٌ نسبيّ يخضع للمساومات وللمنطق البراغماتي لدى السياسي، يطيح به عند أول اختبار بدواع عديدة يعلنها، منها المصلحة العامة، والمنفعة المشتركة والخير النوعيّ، مصلحة البلاد والعباد، فتغدو الأخيرة الغاية الوحيدة المعلنة لديه. ثم لا يلبث أن يختزلها أيضاًً لمصلحة الحفاظ على سلطته وتعزيزها. هكذا لا يجد السياسي في الغايات سوى ترسانة للمبررات التي يستعين بها لتبرير وسائله وتحقيق مآربه المباشرة. وبمقدار ما تكون الغايات سامية وعظيمة فإن السياسي يلجأ إلى شتى المعايير المتباينة، التي لا ترى الجريمة جريمة، حتى وإن استخدم أسوأ الوسائل.
رهان الثقافة هو الحقيقة، إذ يكتسب المثقف جدارته بإصراره المبدئي على التصريح بالحقّائق وإشهارها، فلا يكذب أو يوارب. وتشترط الثقافة أكثر الوسائل شرفاً وتتطلع إلى نوع من الانسجام في الطبيعة تفترضه بين الوسائل والغايات. في حين أن رهان السياسة هو الحقّ. ولكن السياسة تؤسس مفهوم الحقّ على القوّة. القوّة المادية بوصفها وسيلة السلطة ومبدأها، والإكراه مظهرها، ومقصدها الطاعة والإخضاع. وإذا كان العنف هو امتداد للسياسة، مصاحبٌ لها، متولّد عنها، فإنّ الثقافة ليس لها أن تحقق امتداداً إلا في التواصل الإنساني والتعايش، تكرّس الحوار وسيلةً، ويصاحبها التسامح وقبول الآخر مظهراً لها، وتهدف إلى الإقناع.
وهكذا، يرى السياسي في العنف جوهر كلّ تقدّم اجتماعي وسياسي، في حين يجد المثقف في الحوار محركاً للحضارة. وفي أفضل الحالات فإن أكثر السياسيين مقتاً للعنف وإنسانية لا يجد بدّاً من الإعلان أثناء الحرب إن الفضيلة العظمى تتمثل في قتل أكبر عدد من الأعداء. إن إرادة السياسي تبنى على إرادة العنف والقوّة، ولهذا السبب هي إرادة لا عقلانية ولا أخلاقية في أوقات كثيرة. وبالمقابل فإن إرادة المثقف هي إرادة عقلانية تقوم على قوة المنطق، لا العكس، ولهذا هي أخلاقية في الوقت نفسه.
تعمد الثقافة إلى الدفاع عن وجودها بالمنطق والحوار، في حين أن السياسة تستعين بأكثر الوسائل تبايناً وتلجأ إلى الدهاء والخديعة، والعنف. وإذا كانت الثقافة تشترط التفكير الحرّ والتعبير، فإن هذا الاستحقاق يمثل، من وجهة نظر السياسة تهديداً لانسجامها، وتنزع حالئذ إلى إلغاء حرّية الرأي والتعبير عنه. إن كلّ سياسي يلجأ إلى القوّة والإرغام، ويزعم في الوقت نفسه أن سلطته تقوم على المنطق والعقل.
وكثيراً ما نحت السياسة، على صعيد الممارسة، إلى جعل الإنسان موضوعاً للسلطة. في الوقت الذي كانت الثقافة تروم فيه إلى منح الإنسان السلطة على العالم والطبيعية، ليصبح سيّداً حرّاً إزاء الضرورة. ولعلّ جذر نقمة السياسي على المثقف وسخطه يقبع هنا، فإذا كان الأخير يمارس سلطته بحرّية ونديّة على عقول البشر، فإن السياسي يعجز عن ممارسة سلطته إلا على كينونتهم الجسمية بالقهر، وهذا غير نافع وغير مجدٍ في عموم الأحوال.
لا يبرر المثقف لنفسه الوصاية مباشرة والإدعاء بالحرص على مصلحة المجموع، وإن قادت جهوده إلى تحقيق ذلك. بيد أن السياسي الطامع في السلطة يتحين كلّ مناسبة للإعلان أن قدره هو تكريس نفسه لخدمة القضايا العامة، وفي المآل ينتهك كلّ قضية ومصلحة عمومية، مادامت تتعارض مع بقائه في السلطة وشغفه بها. إن الولع والشغف الشديد بالسلطة لدى السياسي يقابل هنا شغف المثقف بالحقّيقة وفضوله المستمر لمعرفة المجهول. ونظير السياسي الشغوف بالسلطة، الذي لا يلبى جشعه هذا، فإن الشغف بالحقّيقة والرغبة الفاوستية بالمعرفة تمثل جشع المثقف.
موقع الآوان