المسيحية العربية بين إغراء الهجرة وخطر الانقراض
محمد عبد الحكم دياب
اقتضت زيارة البابا بندكت السادس عشر للمنطقة مؤخرا فتح ملف الكنيسة الغربية فتكشف لنا نزوعها الامبراطوري، ودورها الرديف للاستعمار والاحتلال وغزو القادمين من الشمال للاستيلاء على أراضي وثروات الجنوب والشرق، وكثيرا ما منحت، هذه الكنيسة، بركتها لمن يمارسون التطهير العرقي ضد الشعوب غير البيضاء. وهو نزوع معاكس لتوجهات المسيحية الشرقية والعربية. والاستنساخ الروماني وانتزاع المسيحية من روحها وأصولها وتربتها جعل منها دينا آخر لبى المطامح الرومانية في الماضي ويستجيب للمطامع الغربية التوسعية في الحاضر. ومعروف أن المسيحية الشرقية والعربية في عمومها تنحاز لرعيتها وشعبها، ولم يعرف عنها أنها مهدت أو باركت جحافل الغزو وجيوش الاحتلال وجماعات الاستيطان. وكثيرا ما أثبتت أنها بنت الشرق.. وفيّة لتقاليده وثقافته وروحه. وقبل الاستنساخ الغربي لها ظهرت بين عرب اليمن وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام. ووصلت إلى عُمان والبحرين، قبل ظهور الإسلام. وهذا سر التفاعل الثقافي والحضاري والوطني والاجتماعي والعسكري لسكان المنطقة باختلاف مشاربهم وعلى مر العصور. وسر التغلب على مخططات الفرقة والفتنة والتقسيم والحروب الأهلية، التي تأتي في ركاب الغزو وبفعل الاحتلال والاستيطان الأجنبي.
كانت بدايات صياغة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين مشجعة. سواء فيما ورد في ‘العهدة العُمَرية’.. أشرنا إليها في مقالنا الماضي.. أو في نهج الحكم الأموي، الذي رغم أخذه البيعة بالسيف وقتاله ‘آل البيت’ إلا أنه أبقى شؤون المال وأعمال المحاسبة في أيدي المسيحيين، وأوكل لهم بناء الأسطول البحري للدولة. فبنو أمية وقد اتخذوا بلاد الشام سكنا وموطنا، نشأوا في جزيرة العرب بطبيعتها الصحراوية البعيدة عن البحر ومجال الملاحة، وكانت خبرتهم فيه محدودة، خلافا لأهل الشام وسكان السواحل السورية، الذين ورثوا التفوق البحري واجادوا الملاحة والتعامل مع السفن والأساطيل. ويحكي المطران جورج خضر أن منصور بن سرجون، جدّ القديس يوحنا الدمشقي، أرسله البلاط الأموي إلى طرابلس الشام لينشئ أسطولاً عربيا يتصدى للبيزنطيين.
كان المسيحيون العرب شركاء في تأسيس الحضارة العربية الإسلامية من البداية، وأفاض سمير عبده في كتابه ‘ دور المسيحيين في الحضارة العربية الاسلامية ‘ في هذا الموضوع. وأزاح الستار عن حضورهم في قرون الإسلام الأولى، وساعد على ذلك الحياة المشتركة لأتباع الديانتين، بسبب الأصول القبلية والعشائرية الواحدة. وحين تم اعتماد الإسلام أساسا أيديولوجيا للدولة جعلت مهمتها الأولى القضاء على العقائد الوثنية، ومن البداية لم تكن المعارك التي خاضها سيدنا محمد (ص) وصحبه ضد المسيحية أو غيرها من الرسالات السماوية.. كانت ضد عبادة الأصنام والأوثان . وحين سار الخلفاء على نفس الدرب تركوا اثرا إيجابيا في نفوس كثير من المسيحيين العرب. ولفت ذلك نظر فردريك انجلز (رفيق كارل ماركس). فكتب يقول ‘ صَاحَب تحول الديانات انقلاب تاريخي عظيم . يعود إلى أن الديانات المحلية التي انتشرت بين القبائل والشعوب الصغيرة لم تكن ذات تأثير تعليمي او تبشيري يذكر، لذا فقدت قدرتها على الاستمرار والمقاومة فور أن وقعت هذه القبائل والشعوب تحت تأثير ديانات أقوى ‘.
ويستطرد سمير عبده بأن القبائل المسيحية ( خاصة السريانية ) ساهمت إبّان الفتح العربي في تثبيت اركان الحكم، ولم يمنع هذا من بقاء جماعات كبرى على دينها مثل اقباط مصر، وتغالبة الجزيرة، وشارك مسيحيو الشام من تغلب في الجيش العربي الإسلامي، وعملوا مع الاسطول الأموي. واستمروا في ادارة الدواوين. وقاد السريان حركة الترجمة من اللغة الاغريقية إلى السريانية ثم إلى العربية، وهم الذين جعلوا من اللغة السريانية وسيطا بين اللغتين العربية واليونانية . وترجم كبير منجمي الخليفة المهدي والد هارون الرشيد (ثاوفيل الرهاوي ) ملحمتي الالياذة والاوديسا لهوميروس من اليونانية الى السريانية. وهذا مكنهم من أن يكونوا ركناً ثقافياً وسياسياً وعسكرياً من أركان الدولة العربية، التي توسعت شرقاً حتى بلاد السند وغرباً حتى إسبانيا. وشكل المسيحيون العرب في عمومهم ركائز للنهوض القديم والحديث . لم يغيبوا عن المشهد العربي طوال القرنين التاسع عشر والعشرين.. حافظوا على اللغة العربية وآدابها.. وساهموا في إحياء العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح، وأنشأوا دور الصحف وأصدروا المجلات الفكرية والثقافية، وكونوا الفرق الفنية والغنائية والمسرحية، وذلك في أخطر مراحل التراجع العربي .
ومع نمو ثقافة التمييز الديني والتعصب. خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. بتأثير قيام الدولة الصهيونية، زادت هجرة المسيحيين العرب، ومع تردي أحوال المنطقة سياسيا واقتصاديا وقانونيا وأمنيا. غاب الأمان وتفشى الخوف بين المواطنين جميعا، مسلمين ومسيحيين، وصارت الهجرة مطلبا عاما تتصدر أولويات أغلب الشباب. ومنذ سبعينات القرن الماضي. زادت هجرة المسيحيين العرب بأعداد تجاوزت معدلها الطبيعي. ويحكي محمد عمارة عما أسماه واقع الرحيل المسيحي، حتى من البلاد التي لا تنشط فيها عمليات الأسلمة أو التعريب، في دراسة عن ‘حقيقة إسلام الشعب المصري’ أن عدد المسيحيين في تركيا انخفض من مليونين إلى ثمانين ألفا، وانخفضت النسبة في إيران من ثلاثمئة ألف في 1979 إلى مئة ألف، ونشرت مجلة ‘ نيوزويك ‘ الأمريكية أن مسيحيي مصر يرحلون عنها. وجاء ذلك ضمن تقرير أوردته عن المسيحيين العرب ذكرت فيه أن الشرق الأوسط به ما بين 12 و15 مليون مسيحي عربي ، وتوقعت هبوط العدد إلى ستة ملايين بحلول عام 2025. وأضافت أن المنطقة شهدت تحولاً ملحوظًا بداية من 1956 وقتها كان مسيحيو لبنان يمثلون 56′ من مجموع سكانه، وهم الآن في حدود 30′ وانخفض مسيحيو العراق من 1.4 مليون نسمة سنة 1987 إلى 600 ألف حاليًا . وكان 80′ من سكان بيت لحم مسقط رأس السيد المسيح مسيحيون حين تأسست الدولة الصهيونية، أما الآن فلا يزيدون عن 16’، وكانت النسبة في سورية 33′ في بداية القرن الماضي، وهم في حدود 10’ حاليا. كان نصف سكان القدس من المسيحيين وهم الآن في حدود عشرة آلاف .. و قد نسب إلى الأمير الحسن بن طلال قوله : يوجد في ‘سدني ‘ باستراليا مسيحيون من القدس أكثر من المسيحيين الذين لا يزالون يعيشون في القدس ، ونعود لمحمد عمارة فنجده يذكر أن نسبة هجرة الشباب المسيحي في مصر وصلت إلى 70′ من عدد المهاجرين، وأن عدد المسيحيين المصريين انخفض إلى أقل من 6′ من السكان.. يحصلون على 95’ من تأشيرات ‘ اليانصيب الأمريكية’، وهذا التشجيع الأمريكي هدفه إفراغ مصر، وكذا المنطقة العربية، من مواطنيها المسيحيين، الذين كانوا و ما زالوا مصدر خصوبة وثراء ثقافي وحضاري وعلمي. وبذلك تنسلخ فئة كبرى من أبناء المنطقة عن أرضها وأصولها وانتمائها الوطني والحضاري والثقافي. ويعد هذا انتصارا للغرب والكنيسة الغربية وللدولة الصهيونية. فمن مصلحة هذا الحلف مجتمعا إضعاف التماسك الوطني والقومي وتمزيق النسيج الاجتماعي والبشري للعرب. فضلا عن إغراق المسيحيين العرب في بحر المسيحية الغربية. وايعادهم عن منابع الدين الذي نزل على أرضهم وانطلق منها إلى أركان الدنيا الأربعة.
وعلينا ألا نغفل أثر اللبس، الذي يصل إلى حد التشويه، وقد أفرزته ثقافة ‘البترودولار’، التي اكتسحت المنطقة بعيد حرب 1973، حول موقف الإسلام من المخالفين في العقيدة والمذهب والرأي. وأدى إلى اهتزاز المكانة الخاصة التي أولاها القرآن الكريم للسيد المسيح وأمه البتول. وهذه الثقافة عرفت بثقافة التكفير. ولعبت دورا خطيرا في الترويع وإهدار دم المخالف في الدين أو المذهب أو الرأي، واهتزت تبعا لذلك قواعد الإيمان في الإسلام، وهي أن يكون الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. بما يعني التكامل وليس الصدام بين الأديان السماوية. وآية واحدة من سورة البقر تبين هذا المعنى تقول: ‘آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير’ – البقرة 285. وما ورد في سورة المائدة من قول: ‘اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا’، واضح فيه مدلول ‘أكملت’ واختلافه مع مدلول أقمت وأسست أو أنشأت.
والثابت أن العامل الأبرز وراء الهجرة بلا عودة هو ‘التغريب’، وما يترتب عليه من نهج انعزالي ترك أثره وبصمته على قطاع عريض من العرب.. مصريين وغير مصريين. ولأنصاره دور بالغ على الحياة الدينية.. الإسلامية والمسيحية.. بما فيها الكنيسة المصرية، ولا حظنا ذلك في محاضرة واحد من أهم رموزها، هو الأنبا توماس، التي ألقاها في الولايات المتحدة العام الماضي. وهو ممن يرفعون لواء ‘القبطية’ بديلا عن الانتماء الوطني، وينحازون للفرعونية لتحويل مصر إلى ‘غيتو’ تسكنه جالية غريبة عن المنطقة.. تعادي أهلها وتحتمى بعدوهم. وسبيلها هو التماهي في المسيحية الغربية.. المسيحية الصهيونية تحديدا. وقد قطع مسيحيون أمريكيون من أصول مصرية شوطا كبيرا في هذا المضمار. ورحيل المسيحيين عن الشرق – وليس عن مصر وحدها – وهو إن كان رحيلا عن المكان فهو رحيل عن الدين والثقافة والروح، ونجاح للتغريب والانعزالية، وإفراغ المنطقة من كتلة ضخمة من أهلها خسارة فادحة، قد لا يعلمها البعض الآن .
يرى كمال فريد اسحق أستاذ اللغة القبطية، بمعهد الدراسات القبطية أن المسيحيين المصريين سينقرضون خلال مئة عام.
والأسباب التي أوردها ثلاثة هي الهجرة إلى الغرب، واعتناق الإسلام، وضعف معدل الإنجاب، وذكر سامح فوزي أن استمرار هجرة المسيحيين يضع المنطقة العربية على شفا حالة جديدة يغيب فيها الآخر الديني، ويصبح الإسلام هو الدين الوحيد والمسلمون هم وحدهم أهل هذه البلدان. والمهم أن التطور في بناء الدولة الحديثة الذي يجعل المواطنة أساس العلاقة بين المواطنين، وبينهم وبين النظام السياسي. وهذا يلزمه منظومة قوانين تصاغ على أساس الرضا والقبول العام. تحفظ الحقوق وتحدد الواجبات، وتشمل حفظ الأبدان، وتوفير الأرزاق، وأحترام العبادات، والتسليم بحرية المعتقد، وتتيح الفرصة لحياة حرة وكريمة وآمنة ومستقرة للجميع دون تفرقة. وعلى المواطن التصدى للتمييز الديني والطائفي والاجتماعي والقبلي والمناطقي، ومواجهة التعصب والتفرقة والغطرسة. أيا كان المصدر، دون ذلك لن تنهض أمتنا حضاريا، أو تتقدم علميا، أو تستقر سياسيا، أو تأمن اجتماعيا، وعلى المواطنين، مسلمين ومسيحيين، أن يساعد كل منهم الآخر. و هذا هو قدرهم.. عليهم تحمل مسئوليته بشجاعة، فالنهوض والتقدم والتماسك يحتاج للأيدي المتشابكة أما التردي والفتن والتقسيم لا تحتاج إلا لمعاول متفرقة!!
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن
القدس العربي