تأملات في أحوال السجين السياسي ماذا في الجانب الآخر من الزنزانة؟
منذر بدر حلوم
إلـى عـارف دليلـة وميشيـل كيلـو والسجنـاء المنسييـن
كما أن السجن لا يقوم بذاته فإنه لا يقوم من أجل ذاته. وإذا كان الفعل الجسدي يقع كله على السجين، فإنّ الأخير لا يكون وحده صاحب المُلْك فيما يخص الفعل النفسي. بل، غالبا، ما يكون المجتمع هو المستهدف بهذا الفعل وذاك. فالسجن لا يرمي، كما يقول بوكوفسكي، فقط إلى «تخويف المعتقلين،
بل وأولئك الذين ما زالوا في الخارج، أي تخويف المجتمع. وبالتالي كلما أرعب المجتمع نفسه أكثر، عذّب المعتقلَ أكثر». ومهما يبدو الأمر مفارقا فإن المجتمع يستجيب للرسالة بدرجة أكبر مما يستجيب لها السجين أو المعتقل. إذ أن الداخل سرعان ما يعلن عن قوانينه وشروط اللعبة فيه بما يجعل مفاهيم كثيرة كمفهوم الحرية والكرامة والقوة والضعف والجرأة والجبن والأمانة والخيانة والمبدئية والنفعية وغيرها تكتسب أبعادا أخرى، وتقاس بوحدات ومعايير أخرى، وتشكّل معاً بوتقة يجد فيها العقل مسوغات أخلاقية للتكيف من أجل البقاء، محتفظا للروح بقيم الخارج إلى حين أزوف زمن الخارج أو عودته. لكن إذا كان من يقع عليه فعل القمع والقهر، أي المعتقل، قادرا على الانفصال عن قيم الخارج (الروحية) بحثا عن مرتكزات تُعينه على البقاء داخل السجن، فإن الخارج الموحى إليه بروح الداخل، الخارج الذي تَعبره رياح الداخل مشبعةً برائحة الموت والعذاب، سرعان ما يستبدل بقيمهِ قيماً أخرى جديدة من روح القمع، قيماً تمجّد قبول الضيم والاستسلام والخضوع. أمّا لماذا هو لا يلجأ، كالداخل، إلى مخرج الانفصال، إلى بعض للواقع وبعض للذات، محتفظا لنفسه بقيم الحرية والكرامة والعزة والرجولة؟ فلأن حالة الخارج حالة ديمومة، بخلاف حالة الداخل المؤقتة. فأيا تكن المدة التي يقضيها السجين في سجنه فثمة زمن يسعى إليه مهما حاول التهرب من آلام التفكير به، هو زمن الخارج الذي ما أن يخرج الحالم به إليه حتى يلفحه بعفونة هوائه، وهو زمن يخيّل إلى من في الداخل أنه ثابت لا يتغير، فهو زمن الأحبة والأصحاب والأحلام والمشاريع، هو زمن يتوقف عن الجريان لحظة الاعتقال ولا بد أن يعود إلى جريانه السابق لحظة الخروج. لكن هيهات! فالخارج المقموع بالداخل يعيش بقوانين زمنٍ أخرى، ويعيش زمنا آخر. ففي ظل أنظمة الاستبداد لا يبدو للزمن نهاية، بل يبدو الزمن متصلا اتصالا كريها لا فواصل فيه، يبدو زمنا دَبٍقا ما أن تلمسه حتى تعلق به فيجرفك ولا تعود قادرا على مراقبته أو انتظار غيره، يبدو زمنا لا يفيد معه التقطيع فهو زمن يكرر نفسه ويتناسخ بصورة بشعة، كل طاغية فيه ينسلخ إلى طاغية آخر، في ظل ثبات مقيت للأشياء الأخرى.
وهكذا يكون الخارج في ظل الاستبداد محكوما بإحدى آليتين: الأولى منهما آلية الخوف التي يتولّد عنها قبول واستسلام وخضوع وتصفيق وبالتالي مشاركة، بل تسابق إلى المشاركة في أعمال القمع والقهر؛ والثانية آلية اللامبالاة، وهي آلية بخلاف الأولى تنطوي على حالة انتظار غير معلن لزمن آخر، لكنّه انتظار عير فاعل وغير مصّرح به حتى للنفس. لذلك، كثيرا ما تكون صدمة الحرية أشد وطأة على السجين (المحرّر) من صدمة الاعتقال، خاصة حين يكون المعتقل سياسيا يعرف عدوّه وما يمكن أن يُنْتَظر منه، فيكون ما في السجن مُنْتَظَرا ومقروءا بخلاف ما خارج السجن وبعده. هذه الصدمة تأتي ليس من منطلق اختلاف نمطي الحياة بين الخارج والداخل واختلاف مقاييس المكان والزمان وقواعد الحياة اليومية، اختلافا بين أن تكون تابعا، كليّاً، لإرادة واحد ما أو أن تملك حرية التصرف بشؤونك اليومية.. إنما من منطلق أن السجين العائد إلى المجتمع يخلع زمنه مع ملابس السجن أو يحاول فعل ذلك في أقل تقدير، من منطلق ضرورة التكيّف، فإذا به يفاجئه مجتمع لبس زمن السجن وثيابه، مجتمع تكيف من أجل أن يكون سجنا آخر يستقبل العائد إليه بقواعد وقيم سجنيّة مضخمة. وفي حين يبدو الخارج، أي المجتمع، في حالة وفاق مع نفسه ومع قيمه وقواعده الجديدة فلا يعاني إي فصام، يقع السجين الخارج إليه ضحية صدمة تنتهي به إما إلى الفصام أو إلى الانفصال، أي التقوقع، أو إلى التكشّف عن أخلاق ذئبية كفيلة بالحفاظ عليه مرّة أخرى، أخلاق تسرّع من تحولات الخارج الوحشية خدمة للاستبداد.
من الحماقة الحديث في هكذا سياق عن فاعلية ذات شأن يقوم بها المُكَفَّن بسجنه في خارج منطوٍ على لامبالاته الذاتية أو منفتح على لاإنسانيته. ولكن، ما الذي يحصل حين يستبدل الخارج إلى (الحريّة) بكفن السجن كفنا آخر من قصص وروايات وحكايات تروي مأساة الروح التي تتمسك برابطة الحبر إلى أن ترى رابطة دم أدفأ؟ ثمة فجيعة تلم به حين يُواجَه بالتنكر ليس للألم البشري فقط، بل وللحقيقة. أما التنكر للحقيقة ونكرانها فسمة الناس في زمن الاستبداد، كما هي المشاركة في صنع البشاعة سمتهم، وكما هي اللامبالاة سمتهم.
القلعة الخامسة
يقول السجين عزيز محمود سعيد في (القلعة الخامسة)، مُدينا الخارج، مُعبّرا عن لا حوله ولا قوته إزاء صمته، وعن عبث المراهنة عليه: «ولكن ما الذي يمكن أن يفعله سجين مثلي، معزول عن أهله يرتدي بيجاما ممزقة ويتحدّث بقسوة عن كل شيء؟ لم أكن أشعر بأي عار ولم يكن العالم الذي أعيش في داخله يشعرني أن ثمة عارا خاصا بي يمكن أن يكون أكثر خطورة من العار الذي يعيشه هو: عار الصمت إزاء عواطف ناس يموتون». وهنا نكون أمام حالة يغدو معها السجن عدسة فاحصة تُري السجين أشياء كثيرة كانت خافية عليه، متخفية تحت صخب الحياة وأضوائها، أو تحت طبقة سميكة من تنكّرها وشقائها. فهو، أي السجين، يتفحّص، هنا، ليس فقط نفسه في علاقته بشخص كانه قبل أن تنغلق عليه الجدران، مستعيدا تصوراته عن نفسه، وعن موقعه في الحياة وعلاقته بالأشياء والقيم، وعلاقته، كذلك بالآخرين واهتماماتهم وهمومهم، بل ويتفحّص الآخرين عبر عدسة الجدران، الآخرين الذين يبدو أنّ شيئا لم يتغيّر في تصوراتهم عن حيواتهم وفي نظرتهم إلى الأشياء مع إخراجه من وسطهم إلى وسط آخر. وفي منطقة التفارق هذه يتولّد وسطٌ جديد يجد السجين المعتوق نفسه فيه، وسطٌ يكون ضد الظلم وضد الصمت على الظلم، وضد كل أشكال التواطؤ مع الظلم ومع آلة الاستبداد التي يتاح لها أن تلوك كثيرا من ضحايا الصدفة لمجرد أنّها يجب أن تلوك، لجعل حياة الآخرين تحت سطوة يد مستكبرة تديرها كيف يشاء. ولكن، في الوقت الذي يصرّح فيه شخص لم يكن له علاقة قبل اعتقاله بأي شأن عام، شخص كان يجلس في مقهى حالما بامرأة تعيد التوازن إلى جسده، شخص كان بانتظار قوّاد في مقهى يوصله إلى حضن دافئ، فاختطفه ذراع آلة الاعتقال ووضعه في حضن من الحديد واللعنات، في الوقت الذي يصرح فيه شخص كمثله معلنا اكتشافه لحال مجتمعه المريع، نجد من يُلبِس، في سجنه، المجتمعَ القناعَ الذي يضيف لهذا المجتمع معنى خاصّا يريده السجين، معنى يستمد من خلاله معنى حياته بالذات، فإذا بالصورة المتوهَّمة تنتج لصاحبها واقعا يعيد إنتاج السجن ومفرداته ويجعل له طبيعة مختلفة، طبيعة مرغوبة من حيث أنّها مصدر المعنى. ولذلك يغدو السجن ضرورة لمعارضة سلطة مستبدة كما هو ضرورة للسلطة المستبدة نفسها، بل تكاد تفوق حاجة الأولى إليه حاجة الثانية. ولذلك لا يبدو غريبا، مثلا، أن يشعر سجناء سياسيون بالشفقة حيال أشخاص من أصدقائهم لم يسجنوا، فظلّوا فاقدي معنى. يقول علي الدميني معبّرا عن طبيعة المعنى المكتسب، المحدد بالتضاد، والذي يكون بالاعتقال والسجن ولا يكون بغيره، في (زمن للسجن أزمنة للحرية)، متأسيا على حال صديقه: «ولعله كان يستشعر ألما دفينا وإحساسا بالخداع، إزاء عدم مفاتحته بموضوع الحزب، أو الانتماء إليه، رغم مشاعره الوطنية والتقدمية الصادقة، ولذا وجدتني بعد الإفراج عني في عام 83 أتمنى لو أن المباحث اعتقلته معي لكي لا يتكرّس ذلك الشعور المدمّر في أعماقه، ولكن الأمر مضى..». هذا المعنى المكتسب بالسجن يجعل للخارج طبيعة أخرى، طبيعة تصطبغ بها جميع عناصره. فإذا بالآخرين غير المعالجين في ماكينة المعنى، أي غير السجناء، أقل شأنا، وأقل حقا بمستقبل هو بمثابة المصب الذي ينتهي إليه المعنى.
يقوم السجين السياسي خاصة، ببناء خارج على مقاس أحلامه ومشاريعه أو أوهامه، بناء يأتي بمثابة ضرورة متعددة الأوجه؛ ضرورة سياسية، ذلك أنّ اشتغاله بالتضاد مع النظام السياسي يقوم من حيث المبدأ على وجود خارج مضاد لخارج النظام أيضا، الأمر الذي يدرك مقدار الوهم فيه سجين غير سياسي، كما هو حال عزيز (في القلعة الخامسة) في اختلافه عن سلام الوجه الآخر للسلطة بوهم امتلاكه الجماهير؛ وأمّا الضرورة الثانية فنفسية. فثمة إحساس يرضي الذات بالتضحية، وبأهمية هذه التضحية للآخرين في الخارج، وبتقدير هذا الخارج للتضحية، وباكتساب قيمة
ومعنى إضافيين من خلالها، كرصيد لمستقبل سيكون هذا الخارج ضامنا له. وبالتالي فالخارج ضامن أحلام، ولا يمكن التخلي عنه إلا بالتوازي مع التخلي عن الأحلام ذاتها، الأمر الذي يعني بالنسبة للسياسي التخلي عن ذاته السياسية، ويعني، بتعبير آخر، الانهيار والتخلي عن الأحلام أو المشاريع أو الأوهام وفق تعبير البعض، خاصة عندما يطبق الاستبداد وسطوة القمع على كل أمل بالخروج وكل حلم بالتغيير؛ وأمّا الضرورة الثالثة فهي ضرورة مقاومة ظروف السجن. فلا بد من وجود شيء في الخارج يمكن الإيمان به والسعي إليه وانتظار تحققه، وإلا فإعدام الخارج كليا، والتماهي مع عالم السجن، كعالمٍ وحيدٍ واقعي لا وجود لعالم آخر سواه.. وأمّا التعلق بفكرة أن يكون الخارج بانتظار السجين ومنشغلا به وبالدفاع عن قضية تحريره والقضية التي سجن من أجلها فتجد تعبيرات مختلفة عنها سواء في الأدب أو في شهادات السجناء السابقين عن تجاربهم الشخصية مع السجن. فها هو الداخل الأيديولوجي الذي لا يستطيع التخلي عن وهم امتلاكه الخارج، متمثلا بسلام (في القلعة الخامسة)، يقول: «لسنا وحدنا هنا، إن شعبنا كله يقف إلى جانبنا. إنه معنا في الليل والنهار، وحتى داخل غرف التعذيب..» وإذا بعزيز، معتقل الصدفة، يقول في نفسه ساخرا: «يا للبهجة. لم أكن قد انتبهت إلى ذلك..». وقد يكون للخارج معنى آخر، خاصة بالنسبة لسجين معزول كليا عن العالم الخارجي، سجين يشعر بأنّه مهمل ومنسي، كأن لا وجود له، كحالِ مليكة أوفقير وعائلتها: «سمعت اسم عائلتي. فأنا موجودة. نحن موجودون جميعا. ويمكن أن نعود إلى الحياة من جديد في يوم ما». وإذا بهذا الشعور لا يكفي لزمن طويل، فلا يلبث أن يحضر شعور بمرارة انشغال العالم الخارجي عن السجين، وإهماله إهمالا يجعل لمجرد ذكرٍ نادرٍ معنى مضخما لا يساوي شيئا مقارنة بحجم النسيان. فها هي أخبار الخارج تشكّل مصدر عذاب ممض، فما أن يطل الخارج عبر خبر ما، ويحضر زمنه ونبضه، حتى يحضر ذلك الشعور الذي عبّرت عنه مليكة: «عندئذ أشعر أنني خارج الزمن، منعزلة عن كل شيء»، ويكون ذلك أشد وطأة على أشخاص قرروا التماهي مع الداخل، مع كل ما تعنيه هذه العبارة من اختزال وشرطية. ولا يخفى حجم الخراب الذي يصيب الشخصية عندما تتكيف بإلغاء الخارج، أي إلغاء الحياة كما تكون في الحرية وبالحرية، كما لا يخفى حجم الخراب الذي يصيب الشخصية إزاء الكفر بالخارج وفقدان الأمل كليا به، ناهيك بالتشوه والوحشية التي تصيب صاحب التحوّل نحو الانسجام مع قيم السجن، أي التكيف الفعال، من شخص حر، إلى شخص يكون بالسجن، فيكون جزءا منه، كما هو بطل (أودليان أو هواء الحرية) عند غابيشي?.
القالب الجديد
ومع ذلك، فعلاقة الداخل بالخارج علاقة معقدة وإشكالية لا يجوز اختزالها بنمط سلوكي واحد أو مجموعة أنماط ثابتة. وقد يكون في التوصيف الذي وضعه فرانكل لعلاقة الشخص المعتقل واستجاباته النفسية عبر مراحل أو أطوار مختلفة مع حالة الاعتقال ثم شروط المعتقل ما يلقي الضوء على سلوكات اكتسبت درجة النمطية بتكررها وسيادتها. إلا أن الحديث عن سلوك ثابت خلال فترة الاعتقال المديد يبدو بعيدا عن الحقيقة كما تبين شهادات السجناء في محيطنا القريب وكما تبين حيوات الشخصيات الأدبية. تقدّم رواية غالب هلسا (الروائيون) دينامية وعلاقة متعددة بين الداخل والخارج تعكس الأمل وانعدامه، الاعتراف ونكرانه، الحب والكره، القبول والنفور. قال صالح: «العالم هو الذي يخفي نفسه بغشاء رقيق»، ثم يأتي ما يفيد بأن «صورة الخارج في المعتقل صورة عالم يدير للسجين ظهره، عالم تغيّرت عواطف الناس وعلاقاتهم فيه. بيوت الأصدقاء والأقارب تبدو كأنها هجرت وحل فيها أناس غرباء»، ثم نجد العالم الخارجي يختزل إلى رموز تضخّمت مدلولاتها «الرسالة القادمة من الخارج حدث مثير، تعيد صلة المعتقلين بالعالم، فينتفي ذلك الإحساس بالهجر، بعالم أدار ظهره لهم ونسيهم. وهم يقرأون الرسالة المرة بعد المرة باعتبارها رموزا وإشارات إلى أحداث وظروف بالغة الأهمية. يتم التركيز على عبارة قالها مسؤول، أو حكاية منسوبة إلى شخص مطلع، أو احتجاج صَدَرَ عن شخص ما، وكلّها تشير إلى إفراج قريب. بهذا يصبح العالم الخارجي ملخصا في مسؤولين يدرســون قضيتهم، وفي أصدقاء، لهم شأن يمارسون ضغوطا متصلة على المسؤولين. يقارعونهم بالحجة الدامغة حتى يتم الإفــراج والمســؤولين يعدون»، ذلك أنّ المعتــقلين «لا يستـطيعون أن يتصــوروا عــالما غير منشغل بهم كلّية».
ولكن صدمة السجين بالخارج تكون على قدر الأحلام ـ الأوهام التي عالج عزلته بمعونة منها، وعلى قدر تأصّل ذلك الشعور المقيت في داخله بانشغال الناس عنه ونسيانهم له، الشعور الذي يشكل فضاء الوجود في السجن، فضاء تخترقه رسالة من هنا ومقابلة من هناك كومضة سريعة تنبني عليها عوالم افتراضية بعيدة عن الواقع. فإذا كان الأهل والأبناء لا يتبرأون من ذويهم المعتقلين والمسجونين لأسباب سياسية، كما كان يفعل السوفييت كسبيل وحيد لتخفيف وطأة وصمة (عائلة عدو الشعب)، فإن الأهل هنا، في محيطنا القريب، يعيدون إنتاج ابنهم المعتقل في غيابه بما ينسجم مع الخارج وقيمه، يعيدون إنتاجه ليكون مقبولا اجتماعيا، بل مرغوبا وذا حظوة بدلا من أن يكون مخيفا يجدر الابتعاد عنه وتحاشي مجالسته، يعيدون إنتاجه على مدى سنوات اعتقاله، وإذا بهم يقدمون له شخصيته الجديدة التي عليه أن يتقمّصها بمجرد خروجه، إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجلهم هم، قطعا لدابر اللعنة. فها هو حسن الخارج من السجن في (الروائيون) يُفاجَأ بخارج يريد أن يسلخه من انتماءاته: «تناولوا عشاءهم بصمت. وبعد العشاء، ومع الشاي، بدأوا بتوجيه النصائح إليه: منذ حوالي عشرين سنة وأنت لا تفعل شيئا سوى دخول السجن والخروج منه. ماذا استفدت؟ عندك زوجة وأطفال، مسؤوليات، والطريق الذي تسير فيه لن يؤدي إلا لخراب البيت» ومرّة أخرى، قال لحسن خالُه «الناس في البلد ما يعرفوش إنّك دخلت السجن. واللي بيسألنا عنك نقول له: حسن العقبى لاولادك بقى في العالي فوق، حسن بقى ضابط في المخابرات. إي والله. تسأل أيتها واحد في البلد عن حسن يقول لك: دا بقى ضابط في المخابرات» ولذلك لا يبدو غريبا البتة أن يحن حسن إلى سجنه السابق كمكان للفهم المتبادل. وإذا صح الحديث هنا عن وحدة رغم التنوّع والاختلاف الظاهريين في استجابات الداخل لمؤشرات الخارج ورموزه، فإن مثل هذه الوحدة قائمة عند الخارج إزاء الداخل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الخارج خارجان قريب وبعيد، القريب منه يتمثل بمحيط من الأصدقاء والأقرباء ورفاق التجربة. ولذلك ترى الخارج القريب أشبه بوحدة مفصولة إن لم يكن بجدران وأقفال حديد وحرّاس، فبمعادِلاتها المعنوية والمادية التي تجعل بعض الخارج يتقوقع، فيكون من طبيعة خاصّة أقرب إلى السجن منها إلى الحرية. وربما، من منطلق تفادي الكفر بالخارج القريب، يحاول السجين تفهّم أسباب التخلي عنه. يقول عزيز لسلوى في (القلعة الخامسة): «العالم تخلى عنا. لم يعد ثمة من يحبنا، إذ علينا وحدنا أن ندفع ثمن أفعالنا، أما الآخرون الذين يريدون منا أن نقاوم من أجلهم فقد اختفوا تماما من حياتنا. لم نعد مفيدين. هذا ما تعتقدونه أنتم الأحرار، الأقارب والأصدقاء المنهمكون دائما بكل ما حرمنا منه»، ومع ذلك فإن الفهم والغفران لا يغيران في طبيعة ما يجري هنا وهناك لأن كثيرا من الفعل يقع في منطقة العقل الذي تكيف استجابة لغريزة البقاء. فها هو حسن الذي خرج من السجن يشهد على كفر عزيز بالخارج ويؤكد عليه من هناك، من حيث الناس (الأحرار) يشكلون خلايا في جسد أقرب إلى الجثة. يكتب حسن، المعلم الذي أطلق سراحه وأعيد إلى عمله في رسالة إلى عزيز: «ترى كيف يمكن أن نشعر بالانتماء إلى مجتمع أشبه ما يكون بجثة؟ إن الناس الوحيدين الذين أشعر الآن بحب تجاههم هم الناس الذين عشت معهم في المعتقل. فرغم كل رذائلهم وبؤسهم أشعر اللحظة أنهم أخوتي، لأنهم موجودون في الجانب الآخر من العالم، مع الهدامين المضطربين».
ولعل ما سأختم به يثير غضب أولئك الذين يعجبهم أنّهم ضحايا، فيدعون لديمومة من صيّرهم إلى عاجزين، فإذا بهم خارج إطار المسؤوليات، متنعّمين بلا حولهم ولا قوتهم، مرتاحين إلى فكرة أنّهم لا يستطيعون شيئا.. ولكن هل هناك حقا من لا يستطيع شيئا! أليس الصمت شكلا من أشكال التواطؤ والمشاركة؟ يقول منعم بعد إطلاق سراحه لعزيز الذي ما زال سجينا: «ماذا يمكن أن أفعل سوى أن أصمت؟ يا صديقي أريد أن أكف عن العذاب. لقد تعبت، تعبت، أعرف أننا جميعا كلاب، كل الناس كلاب. كلهم كلاب..لم أعد أحبّهم».
السفير
21- 1- 2007
(سوريا)