لبنان: الباحث عن سلامته عند خصومه
حسام عيتاني *
قابل «حزب الله» الافراج عن الضباط الاربعة الموقوفين على ذمة التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بحملة من التشكيك بالمحكمة الدولية وبقراراتها اللاحقة التي ما زالت في عالم الغيب، من جهة، وبموجة من الاحتفالات والمهرجانات والمقابلات التلفزيونية، ترحيبا بالضباط بعد اخلاء سبيلهم.
لكن الحزب بسلوكه هذا تجاهل حقيقتين: الاولى هي انه أفرط في استفزاز طائفة لبنانية يقول انه حريص أشد الحرص على عدم الانجرار الى صدام مذهبي معها او فتنة ضدها. والثانية هي انه بتصدره صفوف موجهي الاتهامات الى المحكمة، قبل اطلاقها سراح الاربعة وبعده، بالخضوع لضغوط سياسية محلية لبنانية وغير محلية، وبتقدمه ركب المطالبين بتحويل مسار التحقيق ليركز على اسرائيل، فتح ثغرة اتاحت لمعدي تقرير مجلة «دير شبيغل» الالمانية المرور منها لتوجيه ضربة قاسية الى الحزب والى امينه العام الذي اعطى بيده وبلسانه مادة دسمة لكل من يريد الاستفهام عن تلك الحماسة في التقليل من شأن المحكمة الدولية التي صب اول قرار لها في مصلحة مناهضيها انفسهم.
وفي وسع أي مراقب لاحوال لبنان التوصل الى اكتشاف بسيط عند قراءة مقالة المجلة. في معزل عن التفاصيل الامنية وخصوصا ما هو الى النميمة اقرب (اتصال احد عناصر الخلية التي اغتالت الحريري بصديقته اثر عودته من ايران)، يفتقر القسم الثاني من التقرير الى حد ادنى من الاقناع.
الدوافع التي ساقها الكاتب الالماني تدعو الى الابتسام: لقد فعل نصر الله فعلته بسبب غيرته من الحريري. من يعرف الف باء السياسات اللبنانية وخريطة الانقسام الطائفي، لن يقبل بهذا الدافع.
والحق ان نقيصة بهذا الحجم في مقالة يفترض ان توجه اصبع الاتهام الى أهم حزب لبناني لناحيتي التمثيل الشعبي والقوة العسكرية، تكفي لتقويض مصداقية التقرير تقويضا تاما ونقله من الحيز الاخباري الى حيز افتعال الاحداث.
بيد انه كان من المفترض ب«حزب الله» الضليع في لعبة الظلال في الشرق الاوسط، والمحرك لبعضها، ادراك ان رأس الذئب الاسود البارز على الحائط المضاء يمكن ان يتحول بلمح البصر الى حمامة ترفرف. وان الحقيقة هي امر ثالث غير الذئب والحمامة، الحقيقة هي يد بشرية تتقن تغيير الاشكال وتتفنن فيه بحسب الضرورات والظروف. اليد هي اليد، لكنها ايضا حمامة وذئب واشكال اخرى كثيرة، مخيفة او مطمئنة.
ويعلم «حزب الله» حجم التغييرات الاقليمية التي تجري من حوله، من مفاوضات مباشرة وغير مباشرة ومفاتحات وعروض ومساومات.
ويعلم أكثر انه ورقة ثمينة في سوق المقايضات والعرض والطلب، وان وقتا سيأتي وسيعرض على مائدة التفاوض بين كبار اللاعبين بصفته هذه، أي كورقة قابلة للصرف والدفع والقبض. ورقة باهظة الثمن ولكنها ورقة، في آخر المطاف.
والارجح انه مطلع على تاريخ القوى السياسية في لبنان ومحيطه وبداياتها وصعودها والنهايات.
واختار «حزب الله» السير في طريق مألوف لديه في تصديه للضجة التي اثارها تقرير «دير شبيغل» بالتأكيد على ان اتهامه باغتيال الحريري اسرائيلي الصنع، على الرغم من اعلان بعض الواقفين على هوامش الحزب ان مصدر الخبر لبناني. لم يجد الحزب ضرورة باتباع النصيحة التي كان يقدمها مع حلفاء له بعد عمليات الاغتيال التي هزت لبنان في الاعوام الماضية، بانتظار نتائج التحقيق. ولم يطالب المجلة بالاعتذار او التوضيح، واكتفى بدعوة لجنة التحقيق الدولية الى اتخاذ اجراء حازم ضد «دير شبيغل». وطالما ان الشيء بالشيء يذكر، فإن الحزب بدا اوسع صبراً في الحديث عن التحقيق في اغتيال قائده العسكري عماد مغنية وتعهد باعلان نتائج لم تظهر بعد.
وهذا طريق مألوف لأن الحزب لا يعترف، علنا على الاقل، بوجود تناقضات وتباينات داخلية وعربية يمكن ان تجعل جهة او جهات عدة تتبرع بالعمل ضده من دون الأخذ في الاعتبار هالة القداسة التي حاول رسمها فوق جميع انجازاته وحتى عناصره وجمهوره وناسه وهم «الأشرف» بإطلاق.
الانكى ان الحزب يوكل الى خصومه السياسيين المحليين مهمة الدفاع عنه وتحصينه امام أي هجوم سياسي او اعلامي او حتى عسكري خارجي، مثلما فعل في حرب تموز (يوليو) 2006، وذلك بعد ان يمطرهم باتهاماته ويخونهم ويجعل منهم مطيات لكل ما يمكن تخيله من مشاريع اميركية واسرائيلية وغربية. وها هو الامين العام للحـزب يلوم من اكتفى باعتبار المقالة الالمانية «كلاما صحافيا» منتظرا قول المحكمة الفصل في المسألة، بعد ايام من تأكيد الامين العام ان الهجوم على بيروت في السابع من ايار (مايو) 2008 كان «يوما مجيدا من ايام المقاومة» المتهمة الآن بالتورط في اغتيال رفيق الحريري.
يستبطن هذا السلوك قدرا من الاستعلاء على مشاعر ومصالح اللبنانيين الموزعين في حساب «حزب الله» الى عملاء ومقاومين، من جهة، وبين حاجة ملحة الى تقديم كل اللبنانيين الغطاء الامني والسياسي للمقاومة في جميع ظروفها وايامها، «المجيدة» منها والاقل مجدا.
وكأن اللبنانيين، من الطوائف المختلفة، لا عمل لهم سوى انتظار صدور التقييمات التي يمنحها لهم الحزب، النابذ لهم ولمقتضيات حياتهم العادية والساعي الى استفزازهم تيارات وجماعات في يوم، والمحتاج الى غطائهم في يوم آخر.
وفيما لا تسعى اكثرية ساحقة من اللبنانيين الى اشعال نار حرب اهلية جديدة، يظل «حزب الله» مطالبا بتهدئة روعه واعصابه وزيادة اهتمامه بحساسيات لم يعرف كيف يداريها او يداورها في الاعوام الماضية.
* كاتب لبناني.
الحياة