الدّعم الأجنبي للثقافة والفنون في العالم العربي: ربّ نافعــة ضــارّة!
عمر اميرالاي
إنتظر الغرب دهراً قبل أن يستفيق ويقرّر الاهتمام جديّاً بالنتاج الثقافي والفنّي للعالم العربي، لأسباب تعود إمّا لماضي بعض دول الغرب الاستعماري لمنطقتنا، أو لمصالح سياسية واقتصادية كبرى كانت ولم تزل تتحكّم مع الأسف بنظرة هذا الغرب الأحادية الجانب للعالمين العربي والإسلامي إلى يومنا هذا. اهتمام لم يتحقّق إلا بعد صراع طويل أضطرّ الغرب على إثره إلى التسليم أولاً بحقّ باقي شعوب الأرض في تقرير مصيرها السياسي بنفسها ومن ثمّ، وبشكل تدريجىّ ومتردد، قبوله بأن يكون لهذه الشعوب حقّها الطبيعيّ أيضاً في التعبير عن ذاتها حضارياً وثقافياً وفنيّاً، متخلّياً وبصعوبة عن نظرته الاستعلائية المعتادة لهذه الشعوب، والصورة النمطية التي صنعها عنها عبر قرون.
إنّ هذا الكلام وإن بدا في ظاهره أشبه بصدى رتيب لخطاب صار ممجوجاً حتّى عند عامّة الناس عندنا، والمتمثّل بتحميل الآخرين دوماً ـ أي الغرب تحديداً ـ كلّ أسباب عثراتنا ومصائبنا، بدءاً بعجزنا المشين عن احتلال مكانة ما لنا في منظومة بناء حضارة العصر الذي نعيش فيه، وانتهاءً بقصورنا المخجل وتخلفنا في صنع صورتنا المستقلة عن أنفسنا بخصائصها الحضارية والثقافية والفنية المختلفة، فإنّ هذا الكلام لا ينبغي في المقابل أن يحجب حقيقة أخرى استحدثها الغرب مؤخّراً وباتت تقلق شعوب العالم النّامي برمّته، ألا وهي ظاهرة القطبية السياسية والاقتصادية المستولدة من رحم نظام العولمة الليبرالي المهيمن اليوم إثر هزيمة القطب الآخر الاشتراكيّ، وانعكاس هذه الظاهرة على قطاعات الثقافة والإعلام بلبوسهما الجديد ما بعد الكولونيالي والاستشراقي. قطبية حاذقة مواربة ومضرة عن قصد أو غير قصد، لأنّها تقوم على الدّعم السّخي والتشجيع والرعاية الفائقين للإنتاجين الثقافيّ والفنّي في العالم العربي، على قاعدة ما هو متعارف عليه أكثر في عالم صناعة الألبسة منه في عالم الثقافة والفنّ، بمعنى أن تكون «القَصَّة» غربية، والمصنّع محليّ، والمستهلك غربي.
فإذا استثنينا المساعدات الغربية التي تلبّي في بعض الأحيان حاجات المجتمعات العربية خاصّة في قطاعات التنمية والتطور العلمي والتقني والصحّي الخ، فإنّنا سرعان ما سنُصاب بالدهشة عندما نكتشف تحت أيّ شعار وبوحي من أيّ هاجس «إيكولوجيّ سياسيّ» تقدّم لنا بعض حكومات الغرب مساعداتها لدعم الثقافة والفنون في بلداننا، ألا وهو هاجس «تجفيف منابع الإرهاب»، وذلك اعتقاداً من هذه الحكومات أنّها بإتاحتها للشباب العربيّ ـ المسلم تحديداً ـ بعض فرص أو هوامش التعبير الثقافي والفنّي الحرّ، فإنّها توفّر لهم بذلك بدائل أخرى تبعدهم عن حالة الانجرار وراء أفكار التطرّف الديني والممارسات الأصولية المتنامية في بلدانهم. لكنّ هذه الفرضية، وإنّ صحّ مبدؤها، فإنّها غالباً ما تواجه بالرفض الشديد والتنديد ليس من قبل عامّة النّاس في العالم العربيّ وحسب، وإنّما أيضاً من شريحة نافذة ومؤثرة جداً في أوساط النخبة المثقفة العربية، لأنّ أيّ اهتمام رسميّ أو شبه رسميّ آت من الغرب، وتحديداً من ما وراء الأطلسي، هو اهتمام مشبوه مشكوك بنواياه في نظر منطقتنا المصابة بعصاب الغرب المتآمر عليها أبداً، أيّاً كانت نيّات هذا الغرب الذي سيبقى محطّ ريبة وتهديد للهويتين الدينية والثقافية لهذه المنطقة حتى إثبات العكس.
وهذا ما يفسّر على الأرجح تركيز الغرب الدائم ونظام العولمة بشكل خاص على العنصر البشري الشبابيّ تحديداً، ورهان الإثنين معاً على قابلية هذا الأخير للتجاوب مع توجههما المنطلق من فرضية أنّ الشباب العرب اليوم يمثلون الطّاقة البكر التي لم يفسدها بعد لا الوعي السياسي ولا ذاكرة جيل الآباء الحاقدين أبداً على تاريخ الغرب الاستعماري لبلدانهم.
أثر سلبي
فمن جملة ما يوجّه من نقد لهذا الاهتمام الشديد والمفاجئ للغرب بثقافاتنا وفنوننا هو ما تحدثه ظاهرة المساعدات المالية السخيّة التي تغدقها دول الغرب على الثقافة والفنّون في بلادنا من أثر سلبيّ على نسيج حياتنا الإبداعية الثقافية والفنية اليومية، ونظم وآليات تطورها التدريجيّ الذاتي والطبيعيّ، وإصرار هذا الغرب على شدنا بالقوة إلى ركوب قطار ما بعد الحداثة، ونحن الذين لم يمنحنا التاريخ حتى الآن من عصر الحداثة الأولى سوى فرصة تذوّق مرّها وطالحها في أحسن الحالات، ناهيك عن الدّور الآخر الأهمّ برأيي الذي تلعبه هذه المساعدات غالباً من خلال تركيزها الشديد على مجتمعاتنا المدنية لحثّها، وبطريقة قيصريّة، على استيلاد أشكال من التنظيم المدني والاجتماعي التي لا تتوافق بالضرورة لا في الشكل ولا في المضمون مع مستوى وعي مجتمعاتنا الرّاهن ووتيرة نموّها وتطوّرها العام، وهي مساعدات تقدّم عادةً تحت مظلة مسميات مختلفة: منظمات غير حكومية، جمعيات أهلية، شبكات etwork وورشات، الخ. انطلاقاً ـ وهنا لبّ المشكلة ـ من فهم قاصر غالباً ومغلوط لواقع واحتياجات المجتمعات التي ترغب في مساعدتها، بانية على هذا الفهم تصورات مسبقة، وبرامج وخططاً عشوائية في معظمها، لا تفيد بقدر ما تسيء إلى الأهداف التي تسعى من أجلها هذه المساعدات.
إنّ من أولى مبادئ الديموقراطية التي يروّج لها الغرب هي ضرورة تقبّل الطريقة التي يعبّر بها فرد ما أو جماعة ما عن نفسها حتى ولو خالف ذلك التعبير قيماً ومفاهيم كونية سائدة متعارف عليها في الفكر كما في الفنّ وسواهما. وإذا أردنا أن نطبّق هذا المفهوم السائد للديموقراطية على الطريقة التي يتعاطي بها اليوم أغلب القيّمين على الندوات الفكرية والمهرجانات والمعارض الفنية في الغرب مع ما ينتجه العالم العربي من أفكار واتجاهات وتعبيرات مختلفة في الفنّ كما في الثقافة، لتبيّن لنا وبوضوح اعتباطية المعايير التي تتحكم بآلية انتقاء معظم المواضيع والقضايا والأعمال الإبداعية الآتية من عندنا.
لذلك نجد أنّ من بين أخطر مظاهر هيمنة قطبية الغرب في الثقافة والفنون على سائر أمم الأرض اليوم هو احتكار هذا الغرب السلطة المطلقة والمرجعية الأوحد في تقييم إبداعات الشعوب الأخرى بمنحه من يصطفيه هو ويتبناه صكّ الاعتراف الأمميّ والتكريس النقديّ والإعلاميّ الدولي. إذ من المؤسف أن نرى اليوم كيف يُسيء الغرب استخدام هذه السلطة التي يعرف الجميع أنّه ما كان لينتزعها أصلاً لولا تفوّقه العلميّ والتكنولوجيّ ليس إلا، وإنّه بهذه الطريقة لا يُعرض حركة الإبداع الذاتيّ لدى الشعوب الأخرى بخصائصها المتميّزة وتطورها الطبيعيّ للخطر وحسب، وإنّما أيضاً بتكريسه مفاهيم ومعايير تضفي شرعية على أعمال لا تعبّر بالضرورة عن حالة الإبداع الثقافي والفني الفعليّ في الدول الآتية منها هذه الأعمال، وهو لا يتوانى في بعض الأحيان عن فرضها على هذه الدول بشتّى الوسائل الممكنة.
الحذر المتبادل
أمّا الوجه الآخر الذي لا بدّ من التطرّق إليه في سياق ذلك الاهتمام الطارئ عند الغرب بثقافات وفنون منطقتنا وهو حالة الفساد والإفساد المالي والفنّي الناميان كالفطر على ضفاف المساعدات الغربية لبلداننا وفي صلبها أيضاً، وذلك نتيجة الفوضى العارمة المتمثلة في إدارة هذه المساعدات وسوء توزيعها واستخدامها. ويكفي أن نذكّر هنا بالمصير الغامض الذي عرفته عشرات المبادرات والمشاريع والورشات «الطيّارة» التي تهافتت على المنطقة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر المشؤومة في شتّى ميادين الثقافة والفنّ والإعلام، وهي مبادرات لا يمكن وصف معظمها إلا بالفقاعات لأنّها لم تغن ولم تسمن في نهاية الأمر إلا جيوب أصحابها الذين عودونا اختلاق المبادرات هنا وهناك ثمّ التواري فجأة ليصبحوا بعدها هم وأعمالهم أثراً بعد عين. إنّهم على الأغلب من فصيلة أولئك الوسطاء المحليين والغربيين على حدّ سواء الذين أتقنوا فنّ تفصيل المبادرات والمشاريع على مقاس المساعدات الغربية حتى قبل أن تخطر هذه المبادرات والمشاريع في بال أصحابها أحياناً. وهو أمرٌ لا يشكل ضرراً بحدّ ذاته لو أنّ تأثيره لا يتعدى حدود طرافته، لكنّ مضاعفاته مع الأسف هي أخطر من ذلك بكثير.
إذن، ما العمل والحالة هذه؟ هل علينا أن نقاطع هذه المساعدات المسمومة، ونعلن الحرب عليها، كي يدير الغرب ظهر مجنّه من جديد لعالمنا العربي، ويعلّق اهتمامه ومساعداته له بحيث نزيد بذلك القطيعة القائمة بيننا عمقاً وتوتراً، أم أن نحاول إيجاد الطرق الكفيلة لتبديد هذا التحسّس والحذر المتبادل بيننا وبينه عبر استغلال أفضل وترشيد أذكى ورقابة أكبر لمساعدات الغرب لنا؟
إنّ الغاية ممّا تقدّم ليس التشكيك المطلق بدور المساعدات الغربية في إتاحة بعض الفرص الحقيقية لعدد غير قليل من الأعمال الفنية والثقافية القيّمة كي ترى النور، إلا أنّ النزاهة تقضي أيضاً بعدم التسرّع في استنتاج أنّ ما يجري على جبهة مساعدات الغرب للثقافة والفنون عندنا يقابله وبالضرورة إحراز تقدم على جبهة التفاهم والحوار الفكريّ والثقافي الفعلي المتبادل بيننا وبينه، لأنّ حصّة الحوار الحقيقي والعميق في عملية شراكة كهذه تبقى نسبيّة جداً وهشة جداً مع الأسف، إذا ما علمنا أنّ ما يستطيع حوار كهذا إنجازه على صعيد التراكم المؤثّر، يمكن أن يمحوه وفي ثوان حماقة انتحاريّ من عندنا، أو تحريض مجّانيّ أرعن من عندهم!
(مخرج وكاتب سوري)