وجه التقنية المظلم : شكرا لصوص الإنترنت
لطفية الدليمي
قبل أسبوع اخترق (الهاكرز) لصوص الإنترنت بريدي الإلكتروني الذي هو بيت ضيافتي الافتراضي وشرفة التواصل والاتصال مع العالم الواسع، جردني اللصوص من البيت الوحيد الذي كنت أظنه غير قابل للمصادرة أو الانتهاك كما حصل لبيوتنا وحياتنا غير مرة.. شعرت بالاختناق ولازمني شعور السجين العاجز وأنا أحاول فتح بريدي الذي استعصى فتحه وكنت أشبه بطفل فقد لعبته الصغيرة التي أدمن التمتع بها..
خذلني عنواني الأليف الذي لازمني منذ نحو اثنتي عشرة سنة وصار علامة ورمزا أعرف به في فضاءات التواصل وأعتمده في مراسلاتي لوسائل النشر والصحافة والمعاملات الرسمية، وأنا في محاولاتي اليائسة للدخول اليه، هاتفني ابني من سويسرا :
فزعاً: (أمي أين أنت هل أنت حقا في لندن ؟؟؟) أخبرني بوصول رسالة اللصوص إليه فعرفت منه أن البريد مخترق وأن لعبة اللصوص بدأت في الصباح الباكر إذ قاموا بتعميم الرسالة الزائفة باسمي كوني تعرضت لظرف عصيب في لندن وفقدت أموالي وجواز سفري وموبايلي وأناشد الأصدقاء إرسال مبلغ ألفي دولار على ويسترن يونيون باسمي الكامل وانهالت مكالمات الأصدقاء للاطمئنان عليّ، وأدرك بعضهم لعبة اللصوص وانتحالهم لشخصيتي.. تحسبا لما لا أعلمه من مفاجآت التقنية كنت قد حفظت عددا كبيرا من العناوين الإلكترونية على الفلاش فأمضيت ليلتين في إرسال عشرات الرسائل للأشخاص والجهات ممن أتوقع وصول رسالة اللصوص إليهم.. ووردتني عشرات الردود الطريفة والممتعة في رسائل الوفاء والمحبة من المعارف والأصدقاء الكثر ومعظمها تقول: (شكرا للصوص الانترنت إذ أتاحوا لنا معرفة أحوالك والاطمئنان عليك) وكلهم تلقوا رسالة الاستجداء الالكتروني..
شكرا للصوص الذين كشفوا لي عن جلال الصداقة وعظمة الأصدقاء.. شكرا لهم فما يتبقى لنا لا يمكن سرقته أو اختطافه من نسيج أرواحنا.. لن تكون هذه خاتمة الأشياء، بل هي طريقة لتجديد الحياة، للتريث واكتشاف الجمال، حيث يتهاوى القبح، وتتوالد البهجة من أحزاننا العابرة.. ما أربكني في ضياع بيتي الافتراضي على الياهو –وكلمة ياهو تعني وحشا هائلا أخطبوطيا- أن الوحش التهم رسائل مهمة وتاريخ سنوات من حياتي وصورا ونصوصا لي ولأصدقاء شعراء وروائيين ومراسلات رسمية وشجون منافي ووثائق شخصية.. تأسيت لهذا العالم الجشع الذي يلاحقني أشراره على الفضاء الافتراضي كما لاحقوني في أرض البشر التي تسمى أوطانا أو منافي، فكم من مرة سرقت حياة عائلتي في عهد الدكتاتورية مابين توقيف وسجن ومنع سفر، وكم تشرد أبنائي في المنافي، وسرقت حياتي ثانية في عصر الطائفية والتطرف ولاحقني المتشددون من أجل أفكاري وكتاباتي ومواقفي ففقدت عملي وحريتي وكنت أتوقع الموت كل آونة حتى غادرت إلى المنافي، فحاولت الميليشيات المتشددة الاستيلاء على بيتي واحتلاله بالقوة وسارعت عائلة كريمة لحمايته من تخريب (المجاهدين) الذين كانوا سيحرقون مكتبتي الغنية ومقتنياتي من لوحات كبار الفنانين العراقيين، وفي المنفى سرقت حياتي وكرامتي حين تحولت إلى رقم عابر وامرأة في درجة الصفر، نكرة ومنسية في بلاد الحرية وحقوق الإنسان وتعرضت هناك لتعامل عنصري أطاح بقناعات كانت راسخة لدي عن تحضر الأوروبي وإنسانيته، وهاجمتني عصابة شبان سود ممن يمثلون الضحايا والجلادين معا في الضواحي الفقيرة لباريس وسرقوا اللاب توب ونقودي ووثائقي.. ما توقعت قط أن تطال السرقات بيتي الافتراضي وتنتهك التقنية الشريرة حياتي المدونة على أفق الكلام ويستغل أشرار الانترنت الوجه المظلم من قمر التقنية الجميل، لكنه في الأخير عالمنا بما هو عليه من خير وسوء، ومن عذوبة ومرارة وحمق وحكمة وحب وحقد وحرب وسلام..
يا بيتي الدافئ الصغير المسروق من ياهو، لم أعد آبه بك فقد مُنِحت بيوتا لا تحصى على ضفاف القلوب، وبيوتا افتراضية على مواقع عدة، وها أنا أطل من شرفة التغاضي وأصغي لهمس الأشجار وهي تبشرني بقانون الحياة الجليل وتعلمني حكمة الهدوء وبلاغة نسيان الألم في انشغالنا بصوغ الحياة من مادة أحلامنا وأعمالنا.