صفحات مختارة

“رأس اللغة جسم الصحراء”: أدونيس بعيداً عن الشعر

ميشال جحا
في كتابه الصادر حديثاً “رأس اللغة جسم الصحراء” عن “دار الساقي 2008” يتناول ادونيس موضوع القومية العربية ويحمل هم الأمة العربية. وهو يقول بضرورة الفصل بين الدين والدولة. لماذا سيظل الصراع عندنا على السماء بدلاً من الاهتمام بالعيش على الأرض؟!
ادونيس ليس ملحدا رافضاً للدين هو مع الدين العقلاني المنفتح على العصر. وهو يؤمن بأن التخلف ليس قدراً.
وهو يتساءل هل على العربي ان يخرج من وطنه لكي يبدع؟ العرب الذين ذهبوا الى الاندلس ابدعوا. والافراد العرب الذين يعيشون اليوم في بلاد الاغتراب يبدعون بفضل الحرية التي يمارسونها.
وهو يطرح السؤال في (ص90) حيث يقول: “هل يجب أن يخرج العرب من ديارهم لكي يكونوا مبدعين وعظماء؟ هل معناهم منحصر في “الهجرة” التي تجعل منهم “افراداً”؟ كأن العرب لا يبدعون الا بالمشاركة مع غيرهم. كأن ذاتيتهم الخلاقة لا تنشحذ الا بالآخر”.
يتحدث (ص96) عن النهضة العربية ويعرّفها على انها لقاء بين فكر جديد وعمل جديد يحققان نقلة في المجتمع، جذرية وشاملة، يجد نفسه فيها أنه يسير بشكل مترابط ومتواصل على طريق التقدم.
ويلخص ذلك في النقاط التالية:
1 – نمو التيار الأدبي – الفني الذي اسس له اللبنانيون، لكنه بقي هامشيا، ولم يغير المؤسسة، أو مدونة القيم الفنية – الجمالية الموروثة.
2 – تعثر التيار العقلاني النقدي خصوصا في جانبه العلماني، بحيث أصبح هو الآخر هامشيا.
3 – هيمنة التيار الديني، بشكليه الاصلاحي والسلفي.
4 – احتلال المنجز الصناعي، الغربي والشرقي، ساحة الحياة العربية، وعدم اهتمام العرب بالحركة العقلية والعلمية والتقنية التي حققت هذا المُنجز.
5 – التنظير لبناء الدولة العربية على اساس تصوّر طوباوي، منفصل عن الواقع والتاريخ الحي. وعلينا هنا أن نتذكر أن فرض مثل هذه الرؤية الطوباوية، كان وراء عمليات الابادة الكبرى في القرن الماضي، في دول كثيرة في العالم. كل ذلك ادى الى عدم قيام نهضة بمفهومنا الحديث وعدم بناء مؤسسات معرفية متقدمة في حقول العلم والفن والفلسفة والاجتماع والتربية و التعليم وبخاصة على المستوى الجامعي. اي عدم إحداث تغير جذري في المجتمع التقليدي يؤدي الى تأمين حرية المواطن وتحرير المرأة وبناء مستقبل افضل للانسان.
وفي (ص 99 – 100) يقول: “تنهض هذه الرؤية من الجهة الاسلامية، لكي لا اتكلم الا عليها، على القول، وحياً، ان الرسالة الاسلامية هي الرسالة الإلهية الأخيرة، التي بلّغها للبشر رسوله الأخير. وهي، بوصفها كذلك، كاملة ونهائية، وتحمل الحقائق الكاملة والنهائية، وليس للانسان، اذاً منذ ان يؤمن بها، أن يعدلها أو يضيف اليها، او يحذف منها. ليس له حتى أن يتخلى عنها الى غيرها. ليس عليه الاان يفسرها ويطبقها”.
يدعو ادونيس الى قيام مجتمع حر متحرر عقلاني يكون الأفراد فيه احراراً في معتقداتهم، لهم الحقوق نفسها والواجبات نفسها.
في لبنان سيظل الفرد يفكر ويعمل ويعيش بصفته فرداً في طائفة، لا بصفته مواطنا في مجتمع مدني. فبدلا من أن يكون التعدد مصدر غنى يصبح مصدر انشقاق وتخلف وتنابذ. واذا بهم يتناحرون ويتقاتلون ويتبادلون تهم التخوين والتكفير، بدلا من ان ينظر الى الانسان كانسان وليس بصفته انتماء طائفيا، ولكي يتحقق ذلك يجب تأمين الحرية والديموقراطية.
يركز ادونيس على الانسان كقيمة، الانسان الحر الخلاق، وليس “النظام” الذي يسحق هذا الانسان المواطن فيجعل منه تابعاً ومحازباً وكائناً مدمراً لا طاقة له على التغيير.
ادونيس يراهن على ان يشارك الشعب بمجموعه في التحرير. يجب الا يكون التحرير وقفاً على فئة أو جماعة او طائفة بل يجب أن يشمل النضال الشعب ويرى في مقاومة غاندي للاستعمار البريطاني للهند المثل على ذلك. وهو يتعجب ويتساءل لماذا يجب ان نكون فاسدين ومفسدين، ان نمجد العنف، ونتقاتل، ان نفتقر ونهاجر ونتمزق، والى متى سوف نقوم بهذا الدور؟ ولماذا ننبذ الديموقراطية وحقوق الانسان والحرية ونرفض التقدم؟ وهو يرى ان ما يصيب العرب من تخلف وتراجع هو من صنع أيديهم فهم يتقاتلون في ما بينهم بدلا من محاربة عدوهم اسرائيل.
في رأيه ان التاريخ لا يصنعه الا التقدميون والمبدعون المتفردون كل في ميدانه. ولا خلاص للدول العربية الا في اعتناق الأنظمة البرلمانية المدنية والفصل بين الديني والسياسي. وهو يستشهد بأبي نواس الذي يقول: “ديني لنفسي، ودين الناس للناس”.
ويقول: “ليس امام السياسة التي تقوم على الدين، كيفما توجهت واينما سارت الا الهاوية”. ويرى ان مصيبة لبنان انه اسير الطائفية. وان الذي ينقذه مما يتخبط فيه اعتماد قانون مدني يساوي بين جميع المواطنين.
وفي (ص146) يرى ان اشد ما يشكو منه العالم العربي هو تحويل الدين الى “ملك شخصي” واعتبار من يخالفهم الرأي “كافرا” و”عدوا” يجب “محوه”. “ليس هناك ما هو اكثر جحيمية من ان يقتل انسان انساناً آخر لا لشيء الا لكي يدخل الجنة”.
ويرى كذلك أن الأمة العربية أمة ترفع الشعارات، هوايتها رفع الشعارات وتكتفي بأن تفعل ذلك. فجميع هذه الشعارات بقيت كذلك دون تطبيق.
يقول (ص158): “الوحدة العربية شعار قادنا الى مزيد من التجزئة، وشعار الحرية قادنا الى مزيد من التبعية والعبودية، وشعار الاشتراكية قادنا الى مزيد من الفقر والبطالة، ومزيد من السيطرة الراسمالية.
إنها مرحلة الفشل العربي الأكبر. الفشل الذي يمكن وصفه بأنه وحشيّ: تدمير للذات، تفكّك، وعنف، وقتل – في حركة من احتقار الانسان، قد لا يكون لها مثيل عند أي شعب آخر.
وهو يستشهد بقول آينشتاين الذي حطّم الذرّة: “تحطيم الرأي المُسبق أشدّ صعوبة من تحطيم الذرّة”. فما يكون الامر، اذاً، مع ثقافة تقوم على الآراء المسبقة؟ وما يكون وضع الكتابة في مثل هذه الثقافة؟”.
عانى أدونيس ويعاني من فقدان حرية التعبير في العالم العربي. هناك سيف مصلت على عنق من يريد أن يعبّر عن آرائه بحرية. هناك كاتم صوت موجه الى رأس مَن يجاهر بنقد ما لا يمس. فالى متى سنبقى خاضعين الى سيفين سيف التحليل وسيف التحريم؟!
وفي (ص173) ينتقد تبعية البلدان العربية لدول خارجية فيقول: لقد أثبتنا، نحن العرب، براعتنا التي لا مثيل لها في تاريخ العالم: تلك التي تتمثل في القدرة العجيبة على الامّحاء أمام الخارج، وعلى محو بعضنا بعضاً، أفراداً وجماعات، في الداخل. والسؤال يبقى لماذا نتسابق الى خطب ودّ الدول الكبرى المؤثرة وتركها تتدخل في شؤوننا بل وتملي علينا سياساتنا؟ لماذا هذا الاستسلام؟ بدلاً من الاعتماد على الذات وأخذ المبادرات لتحسين أوضاعنا السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وعلى جميع الصعد.
وهو يقارن بين ما فعلته بعض البلدان العربية مثل مصر والعراق وسوريا في ماضيها وبين ما حققته اليوم ويجدان هناك بوناً شاسعاً ويطرح السؤال:
“كيف يمكن أن تتخلف مثل هذه البلدان الى هذه الدرجة؟ ولكن لا يلبث أن يجيب عن سؤاله فالاسباب كامنة في فقدان الحرية وحقوق الانسان والأحكام العرفية والسجون، اضافة الى الفقر والبطالة، والاميّة وتراجع مستوى التعليم، وخاصة الجامعي، والأمن البوليسي وممارسة القمع.
وهو يرى أن الانسان هو الغاية والسياسة وسيلة لهذه الغاية. فعلى الحكومات العربية أن تكف عن اتباع سياسة القمع والسجن والنفي وترك الحرية للمواطن ليعبّر عن ذاته وطموحاته وحقوقه. فبأي حق تعتقل السلطات مواطناً بسبب آرائه وأفكاره؟
ثم يتناول “الأصولية” التي أصبحت منتشرة في بعض البلدان العربية والاسلامية حيث يطرح “الأصوليون الدينيون” أنفسهم كأنهم “وكلاء الله” على الارض، يتدخلون في حياة الناس وفي شؤونهم الخاصة.
وفي (ص188) يقول: “الشنق، الذبح، ضرب الأعناق، قطع الرؤوس، القتل الجماعي دون تمييز بين البريء والآثم، الخطف، الانتحار التفجيري باسم الدين، الذمّي، الكفر، الكافر، التكفير، السُنّة، الشيعة، “العربي”، “الكردي”… تلك هي الكلمات – المفاتيح التي تهيمن، اليوم، على الحياة العربية، وعلى “نضالنا”، وتكاد تقود “أفكارنا” – رغبة، أو رهبة”.
هل هذه الممارسات ستوصلنا الى النهوض والتقدم ومواكبة العصر؟ وهل ستحقق لنا الاستقلال والحياة الكريمة وتنشلنا من الواقع الزريّ الذي نتخبط فيه على جميع المستويات؟
والى متى سيبقى هذا الطغيان مسيطراً على المواطن المسكين المغلوب على أمره الذي يعاني من القتل والكبت والشك والخوف والاتهام والجهل والانغلاق؟!
وفي (ص208) يرد على الافغاني الذي نادى بالعودة إلى “الدولة” الاسلامية القديمة ويتساءل: أية دولة هي هذه الدولة؟ أهي “حكومة” المدينة؟ أهي “الخلافة” الراشدية؟ أم هي الدولة التي أسسها معاوية، ويدعو المسلمين الى نبذ ذلك اذا كانوا يريدون النهوض حقاً والمشاركة في بناء العالم.
أدونيس يشدّد على توفر قيم الحرية والحقيقة والعدالة والحق والمساواة في المجتمع الاسلامي والعربي لكي يتمكن هذا المجتمع من النهوض والتطور.
يوجعه أن يجد الناظر اليوم الى البلدان العربية انها تتقدم كثيراً في اكتساب حداثة الاشياء، وتتأخر كثيراً في تحقيق حداثة الانسان كما يقول في (ص227).
وأدونيس المثقف المنفتح يجد أن الثقافة عندنا باتت مسيّسة، هي ثقافة الاستهلاك بدلاً من ثقافة الابداع.
وفي (ص248) يطرح السؤال فيقول: “السؤال الملحّ في هذا الصدد هو: لماذا يسكت أهل المعرفة والحكمة في الاسلام عن مثل هذه الممارسات المتزايدة والعنفية، قولاً وعملاً، والآخذة في تحويل التجربة الاسلامية الكبرى الى مجرد تجربة سياسية، عسكرية في الحكم والهيمنة، وتحويل النص القرآني الى مجرد فقه سلطوي، وعزله، تبعاً لذلك عن الحياة والانسان، وعن الفكر والعقل؟”.
يحذّر أدونيس من السقوط المتسارع الذي تجد الأمة العربية نفسها مسوقة اليه فيقول (ص303): “منذ فترة طويلة، وضعت الأنظمة العربية شعوبها على طريق السقوط، وهو سقوط يتواصل الآن بسرعة وقوة. لم يعد هناك، أمام هذه الانظمة، أي مكان عالٍ. لم تعد هناك غير المنحدرات.
ولقد التهم الماضي، الديني على الأخص، لغتنا. وها هو آخذ في التهام أفواهنا وألسنتنا. ولم تعد، فيما يبدو، بعيدة تلك اللحظة التي يلتهم فيها وجودنا نفسه”.
يضع أدونيس اصبعه على الجرح يشخّص الداء الذي ينخر جسم الأمة العربية ويصف لها الدواء هل تتناوله؟!
أدونيس يريد انساناً عربياً جديداً يؤمن بالعقل والتطور والتقدم، ويفصل الدين عن الدولة. همه الاصلاح على جميع الصعد ومحاربة التخلف والتعصب.
أليس لافتاً ان رجال الدين المسيحيين كانوا في القرن الخامس عشر الميلادي في أوروبا يتحكمون بالعباد باسم الدين، فاذا بنا اليوم في القرن الخامس عشر الهجري – أي بعد خمسة قرون – نجد رجال الدين المسلمين يتحكمون بالناس؟!
ويبقى السؤال الى متى ستبقى الأمة العربية تنزف دمها في فلسطين وفي العراق وفي السودان وفي كل مكان؟ كم من أرواح زهقت ودماء أُسيلت وثروات أُهدرت في حروب عبثية مفروضة علينا ومفروض علينا أن نكون وقودها، لم تحقق سلاماً ولا أمناً ولا استقراراً؟ هل كتب على الانسان العربي أن يموت مجاناً وأن تبقى حياته رهينة بين القيد والسكين؟!!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى