غدر السيدين سايكس وبيكو
موفق نيربية
بعد عشرة أيام تماماً من إعدام شهداء 6 أيار/ مايو 1916 في دمشق وبيروت، تمّ توقيع الاتفاق السري الأكثر شهرة في تاريخ تشكيل دول المشرق، من قبل ممثّل بريطانيا السير مارك سايكس، وفرنسا السيد فرنسوا جورج-بيكو. وأمر مدهش أن يتواقت الأمران، على الرغم من صدورهما عن جهتين متناقضين في غمار حربٍ طاحنةٍ عظمى، يتمّ التحضير من أولاهما لإعادة تشكيل إمبراطورية مريضة مقبلة على هزيمة نهائية من جهة، ودفاع ثانيتهما عن نفسها من دون أملٍ؟!
رأى العرب في الاتفاق جريمة أدت إلى تجزئة أمةٍ خالدة ثابتة، عربية عند عددٍ منهم وسورية كبرى عند آخرين، لكن أكثر من يندب حظه العاثر حتى الآن، الكرد الذين لم يجدوا لهم مكاناً على الخريطة المرفقة به. تلك الخريطة تشبه التي أرفقها أصحاب بروتوكول دمشق من جمعيتي العهد والعربية الفتاة بمطالبهم من بريطانيا عبر الشريف حسين، بألوانها وبعض توزيعاتها. لكنها تختلف عنها في الجوهر، وفي تفصيلات مثل قبول العلاقة الخاصة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ببريطانيا، في حين تتقاسم بريطانيا مع فرنسا في خريطتهما النفوذ والوجود المباشر، وتتركان لروسيا قلب الإمبراطورية الآفلة، الأمر الذي لم يتحقق شيء منه بعد الثورة البلشفية حين تبخرت المطامع في التركة العثمانية، وتنازلت عن بعض الأراضي أمام الألمان، لتضمن انتصار الاشتراكية.
تحقق الاتفاق بخطوطه العامة، من دون تطابق مع خريطته، حيث قام العراق على الحصة البريطانية بين بغداد والبصرة وامتد خارجها شمالاً إلى الموصل، وقامت سورية (ولبنان) على الحصة الفرنسية بتدخل عسكري مباشر فاض إلى المدن الأربع الكبرى التي كان يُفترض ألاّ تتعرّض لمثل ذلك. ولم تأخذ الخريطة شكلها النهائي على الأرض إلاّ بعد عامين أو أربعة، وبتأثير الشدّ والجذب بين القوى المؤثرة آنذاك.
رغم ذلك، لحظ الاتفاق أن فلسطين ستكون تحت إدارة وقرارٍ دوليين من دون إشارة إلى الطموحات الصهيونية، التي لاقاها وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور في العام التالي، قبل الثورة البلشفية بخمسة أيام فقط، حيث انفضح الاتفاق وانتشر آنذاك.
بعد ذلك بشهرين أيضاً، كتب السير سايكس- نفسه – رسالة باسم حكومته حملها المقدم ديفيد هوغارث إلى الشريف حسين في جدة، يؤكد فيها «أن الدول الحليفة مصممة على أن يُعطى العرق العربي الفرصة الكاملة ثانيةً لتشكيل أمة بين أمم العالم. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ بوحدة العرب أنفسهم، وبريطانيا العظمى مع حلفائها سوف تسلك سياسةً يكون ضمن منظورها الوصول إلى هذا الهدف النهائي».
أشارت الرسالة أيضاً إلى أخذ آمال اليهود في «العودة» إلى فلسطين بالاعتبار، وإلى «تأييد حكومة صاحب الجلالة لتحقيق هذه الآمال»، مع التصميم على البقاء بحالة توافق مع «حرية السكان الموجودين اقتصادياً وسياسياً»، و«لا عقبة سوف توضع أمام التوصل إلى هذا الهدف النبيل». رفض الشريف حسين الأمر، وقال إنه «لن يقبل بدولة يهودية مستقلة»، فلم يردّ هوغارث عليه، لأنه لم يكن يحمل توجيهات محددة بأن «ينذره أن هذه الحكومة البريطانية تفكّر في هذا الموضوع».
وبشكلٍ متوازٍ مع رسالة هوغارث، بعد وعد بلفور ونشر البلاشفة لاتفاق سايكس بيكو مباشرة، أصدر الأعيان السبعة المؤسسون لحزب الوحدة السورية في القاهرة مذكّرةً إلى الحكومة البريطانية تطلب ضماناتٍ لحصول العرب على استقلالهم الناجز، فجاء الرد الرسمي عليهم في مطلع 1918، يبيّن «أن السياسة البريطانية تنطلق من أن حكومة الأراضي العثمانية المحتلة من قبل الحلفاء سوف تتأسس على رضا وموافقة سكانها».
جرت مياه كثيرة وهائجة بعد ذلك، في ظاهر وباطن الأرض. فلم تستطع فرنسا التغلّب على شهوتها وتدخلت عسكرياً بكثافة لتوازن الانفراد البريطاني السابق في المنطقة، ولا على الوطنيين الأتراك بقيادة أتاتورك، الذين حاربوها إلى خارج حدود الخرائط المسبقة. فلم تحقق رغباتها حسب الاتفاق بالوجود المباشر شمال الحدود السورية الحالية، مع جيبٍ كبير في الوسط باتجاه الشمال، في شكلٍ يشبه الصليب من بعيد. ولم تستطع فرنسا تقسيم سورية الحالية نفسها، وارتبطت مع بريطانيا بعهود قرارات الانتداب الصادرة عن عصبة الأمم عام 1922. ساعدت الضغوط المتقابلة كلها؛ بما فيها تلك الصادرة عن الوطنيين الذين نجوا من المجزرة، وفهموا معادلات العالم الجديد وثقافته وقيمه؛ على تشكيل حدود المنطقة وكياناتها الحديثة، من دون التخلي نهائياً عن الطموحات الأكثر اتساعاً أو اتحاداً.
أصبح الأمر بعد قرنٍ حقيقةً وواقعاً لا ينفع معه التأسّي أو تهمةٌ بالغدر رغم دقتها التاريخية، لأن تاريخ الأمم الحديثة أكثر تعقيداً وتفجّراً من أن يتوقف ويتجمّد عند ذلك.
* كاتب سوري