كثير من الحقائق، كثير من الأوهام:المجتمع المدني والديمقراطية العربية
إبراهيم البيومي غانم
ظهر اسم “المجتمع المدني” في الخطاب العربي قبل عقدين من الزمان تقريباً، دون أن يكون له “مسمى” واقعياً يحمل كامل حمولته المعرفية أو يترجم جميع وظائفه التحديثية؛ وإن كان يعبر عن بعض جوانب هذه الحمولة، ويؤشر على وجود بعض تلك الوظائف. وأنفق الخطاب العربي سنوات العقدين الماضين في منازعة فكرية/نظرية حول مدلول “المجتمع المدني”؛ أهو دال أصيل أم وافد؟ وإن كان أصيلاً: هل نحييه ونطوره، أم نتجاوزه ونهمله إلى ما هو حديث وعصري، وغربي تحديدا؟ وإن كان وافداً: هل نقبله لجماله ونتغاضى عما فيه من قبح أحياناً، ونستجيب لنداءاته الإيجابية مهما كانت ودون قيد أو شرط، أم نرفضه لقبحه ونتغاضى عما فيه من جمال، ونعرض عنه مهما كانت فوائده؟. وفي جميع الحالات: أهو قيمة مضافة لجهود الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، أم إنه فقط “زينة” وقشرة خارجية لا مضمون لها على أرض الواقع؟
جدل حول الماهية
نشأتان وقطاعان
شروط الخارج وقيود الداخل
علل اللاوظيفية ومداخل علاجها
جدل حول الماهية
انشغلت الأوساط الفكرية والسياسية والإعلامية بهذا الجدل، ولم يتردد البعض في استخدامه سلاحاً في الصراع السياسي بهدف إقصاء قوى بعينها، وجماعات موصوفة بأنها “دينية”؛ لا لشيء إلا لأنها “ليست من المجتمع المدني” بحسب التعريف الذي تبناه فريق العلمانيين الذين سبقوا إلى جلب هذا المفهوم، وإدخاله في الخطاب العربي في بلادنا، أو لأن هذه الجماعة أو تلك الطائفة تندرج في المجتمع المتخلف ـ بحسب تعريفهم للمدني ـ وهو “المجتمع الديني”، أو لكون هذه القوى أو تلك الجماعات إرثية، أو عشائرية، أو قبلية، أو عقائدية مناهضة للتقدم، وكاره للديمقراطية التي يكد أهل “المجتمع المدني” ويكدحون من أجلها آناء الليل وأطراف النهار!!.
ونظراً لأن الأصول الغربية لمصطلح “المجتمع المدني” جعلته ملتبساً ـ وربما غامضاً ـ عند استعماله في السياق العربي الإسلامي، فقد انقسمت الآراء بشدة بين عدد من الاتجاهات أهمها:
فريق ذهب إلى أن “المجتمع المدني” مفهوم يشير إلى مجموعة المؤسسات والتنظيمات التي تستند إلى أسس مدنية اجتماعية من وضع البشر أنفسهم؛ أي أنه نقيض مباشر لكل ما هو ديني، أو لكل ما استند إلى مرجعية دينية.
وفريق آخر ذهب إلى أنه يشير إلى تلك المؤسسات والتنظيمات التي تنبع من المجال الاجتماعي، وتعمل لصالحه وتشكل في جملتها قطاعاً منه، له ملامح خاصة به تميزه عن القطاعين الحكومي والخاص. وتستهدف مؤسسات وتنظيمات هذا القطاع، أيضاً، وضع مجموعة من الكوابح والروادع التي تحد من سلطة المجتمع السياسي، أو العسكري تجاه “المجتمع المدني”؛ وبهذا المعني يصبح المجتمع المدني نقيضاً أيضاً لكل ما هو ديني، أو ما هو عسكري، أو لكل ما هو خاص ، أو حكومي.
وذهب فريق ثالث إلى تحديد المقصود بالمجتمع المدني بأنه يعبر عن “حالة” يكون عليها المجتمع كله، ولا يعبر عن قطاع ذي مواصفات خاصة وله وظائف محددة. وطبقاً لهذا الاتجاه فإن المجتمع يكون مدنياً عندما تسوده منظومة من قيم التسامح، والحوار، وقبول الرأي الآخر، والمساواة، وتعدد مراكز السلطة وعدم تركزها في يد أو جهة واحدة، مع الاستناد في كل ذلك إلى مرجعيات وضعية/ مدنية وليست دينية.
وأياً كان حجم الخلاف بين الاتجاهات الثلاثة السابقة، إلا إنها تشترك في مسألة جوهرية واحدة هي ” الروح الإقصائية” لكل ما يخالفها في أساس الرؤية الفلسفية أو المرجعية المعرفية التي تنطلق منها، أو تستند إليها. وهذه “الروح الإقصائية” التي تكمن خلف أطروحة “المجتمع المدني” كما قدمها دعاتها في السياق العربي المعاصرـ وليست بالضرورة كما هي في أصولها المعرفية والسياسية الغربية ـ هي بالتحديد ما يجعل “صيحة” المجتمع المدني في هذا السياق متناقضة مع محاولات الإصلاح السياسي، وغير منسجمة مع أحلام “التحول الديمقراطي”؛ بل إن هذه الروح الإقصائية في الطبعة العربية من “المجتمع المدني” تجعله يقع في خانة “أسباب تعثر التحول الديمقراطي”، وانتكاس الإصلاح السياسي بين الحين والآخر. ذلك لأن أي “إصلاح ديمقراطي” يبدأ بإقصاء هذا الفريق أو ذاك، أو يستبعد هذه الفئة أو تلك الهيئة بحجة أنها “ضد الديمقراطية”، أو أنها “غير مدنية” هو “لغو من القول”، وهو مصادرة على المطلوب وفق المنطق الصحيح للإصلاح الديمقراطي الذي يقول إنه لا يجوز أبداً شطب رأي واحد بحجة تصحيحه، لأن “الشاطب” اليوم، سيكون “مشطوباً” غداً، والديمقراطية تقوم على الإضافة لا الشطب.
ثمة علاقة إيجابية مفترضة تقول إنه كلما زادت قوة المجتمع المدني، زادت الديمقراطية قوة ورسوخاً، ولكن هل يصدق ذلك على أحوال مجتمعنا العربي أم لا؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نبحث أولاً في أصول نشأة المجتمع المدني العربي، وأن نفتش عن موقعه على محور علاقة “الدولة العربية الحديثة” بمجتمعها.
نشأتان وقطاعان
إذا ضربنا صفحاً عن “المشاحة الاصطلاحية” حول الأصول المعرفية لمفهوم “المجتمع المدني”، وأنعمنا النظر بدلاً من ذلك في مدلولاته وماصدقاته” في الواقع العربي، ستتجلى أمامنا حقيقة واضحة لا يمكن للمشاحة في الاصطلاح ـ مهما كانت عميقة نظرياً ـ أن تخفيها، ولا أن تقلل من قيمتها العملية، وهي أن ثمة قطاعين رئيسيين لما يسمى “المجتمع المدني”: الأول نشأته قديمة، ومرجعيته أصيلة، ومؤسساته موروثة ، والثاني نشأته حديثة، ومرجعيته وافدة، ومؤسساته مستحدثة.
ترجع نشأة القطاع القديم إلى اللحظة التاريخية نفسها التي ظهرت فيها دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم “الدول” التقليدية التي توارثتها وهي مستندة ـ بهذا القدر أو ذاك ـ إلى المرجعية الإسلامية. وقد تمثل هذا القطاع في عديد من المؤسسات والفعاليات التي غطت مجالات واسعة من النشاط الاجتماعي والاقتصادي والخدمي.
كان “المسجد” ولا يزال في مقدمة هذه المؤسسات ذات النشأة القديمة الموروثة. ووفقاً للمرجعية المعرفية لتأسيس المسجد، نجد أنه عمل أهلي/ مدني بامتياز؛ وذلك من حيث قيامه على مبادرة فردية أو جماعية سمتها الأولى هي “الطوعية”، وسمتها الثانية هي “الاستقلالية”، وسمتها الثالثة “العطاء دون مقابل مادي”، أو العمل وفق قواعد “نظام الوقف” التي تتلخص في “إلزام النفس لمصلحة الغير دون مقابل مادي”، والخروج تماماً عن العمل وفق قواعد السوق الاقتصادي ومبادلاته العادية. فإذا أضفنا إلى هذه السمات “تعددية” الوظائف التي كان يقوم بها المسجد، وأن أداء العبادة (الصلاة وإقامة الشعائر) لم تكن سوى واحدة من تلك الوظائف؛ فسيتضح ـ بما لا يدع مجالاً للجدال ـ أن انتماء المؤسسة المسجدية للمجتمع لا للسلطة، وللأمة لا للدولة، وأن هذا الانتماء الأصيل والباكر جداً في تاريخ الاجتماع السياسي العربي الإسلامي هو الذي يجعل المسجد أول وأعرق مؤسسة من مؤسسات القطاع المدني الموروث في بلداننا العربية والإسلامية قاطبة.
وحول المسجد، أو على ضفافه هنا وهناك، نشأت بالقياس عليه مؤسسات متنوعة لها نفس سمات المسجد الثلاث السابق ذكرها(الطوعية ـ الاستقلالية ـ والعطاء دون مقابل مادي)، وفي مقدمتها: المدارس التي كانت تشكل قسماً داخلياً في المساجد، وخاصة في المساجد الجامعة ثم استقلت عنها، وتطورت وأصبحت معاهد وجامعات. ونشأت كذلك العيادات الطبية، والبيمارستانات(المستوصفات والمستشفيات) وغيرها من منشآت الرعاية الصحية. كما ظهرت دور الرعاية الاجتماعية للأيتام، وذوي الخصاصة، ومنازل كبار السن، والمنقطعين، وموائل الفقراء، والذين أخنى عليهم الدهر. وامتدت مشروعات هذه المؤسسات إلى أعمال الترفيه، والثقافة والمكتبات العامة، ورعاية الطيور والحيوانات، والمحافظة على البيئة، وفق منظومة اتسمت بالتلقائية، واللامركزية في معظم مراحل تطور الدولة العربية الإسلامية القديمة.
واستمر هذا القطاع يعمل دون انقطاع منذ نشأته الأولى. ورغم أنه قد ازدهر حيناً، وتدهور حيناً آخر، إلا إنه شكل ما أسميناه “مجالاً مشتركاً” بين المجتمع والدولة، وعمل في أغلب الفترات لمصلحتهما معاً. وكان الوقف الخيري هو مصدر التمويل الأساسي لمعظم البرامج والمشروعات التي قدمتها مؤسسات هذا القطاع، ودعمتها بقية أنواع الصدقات والتبرعات في سد الاحتياجات التمويلية. وفي ظل معطيات الاجتماع السياسي القديم للدولة العربية الإسلامية، وفر هذا القطاع المدني/الأهلي مساحات من الحرية لفئات اجتماعية متنوعة، وجعلتها في مأمن ـ إلى ح كبير ـ من عسف السلطات التي استبدت بالحكم، واحتكرته في سلالاتها القبلية، أو العسكرية.
ولكن ظهور “الدولة الحديثة” ـ منذ بدايات القرن التاسع عشر ـ وزحفها التدريجي المنظم على المجتمع ومؤسساته الموروثة، قد أدي إلى تراجع أداء المؤسسات المدنية الموروثة إلى حد التوقف عن العمل بحلول منتصف القرن العشرين، وخاصة أن يد الإصلاح لم تمتد لإصلاح أو تحديث تلك المؤسسات، بل تركتها ليد الإهمال تفعل فعلها، وتوفر ذريعة للقول ببطلان الحاجة إليها . ولم تكد هذه الدولة الحديثة تستكمل أركان استقلالها السياسي بعد رحيل الاستعمار حتى أسرعت إلى استكمال الاستيلاء على ما كان قد بقي على حاله من مؤسسات القطاع الأهلي/المدني الموروث، والأهم من ذلك أنها استولت على مصادر تمويله بالكامل بوضعها نظام الوقف الخيري تحت سيطرة الإدارة الحكومية.
جاءت النشأة الثانية للقطاع الحديث من مؤسسات المجتمع المدني في ظل “الدولة العربية” حديثة الاستقلال، والتي يؤرخ لها في معظم البلدان العربية بالخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. صحيح أنه قد نشأت بعض المؤسسات المدنية الحديثة قبل استكمال استقلال الدولة الحديثة عن الاستعمار، إلا أنها كانت قليلة العدد، ومحدودة التأثير، وتابعة في تسييرها للقواعد العامة التي انتظمت مؤسسات القطاع القديم الموروث.
ولم ينفتح الباب على مصراعيه أمام نشأة “مؤسسات المجتمع المدني” الوافدة إلا بعد أن شرعت “الدولة الحديثة” في التنصل تدريجياً من سياسة الرفاه الاجتماعي التي سارت عليها من منتصف الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي تقريباً، من جهة، واضطرارها إلى إبداء قدر من الاستجابة لضغوط الداخل والخارج من أجل القيام بإصلاحات اقتصادية وديمقراطية من جهة ثانية. هنالك لاحت اللحظة المناسبة للوفود المكثف لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني؛ فالمؤسسات القديمة الموروثة ومصادر تمويلها باتت تحت سيطرة الدولة بالكامل، والدولة ذاتها باتت عاجزة عن الاستمرار في تمويل كثير من الخدمات العامة، والمبادرات الأهلية/المحلية غابت لانعدام الثقة في “الدولة”؛ مرة لأنها استولت بغير حق على القطاع المدني/الأهلي الموروث وأممت مصادر تمويله، ومرة ثانية لأنها لم تنجز وعود التنمية والرفاه الاجتماعي، أي إنها غدت عاجزة عن تبرير ما قامت به، وعاجزة عن الخروج من المأزق الذي دخلت فيه.
إذن فقد نشأت مؤسسات المجتمع المدني الحديث ـ الوافدة في أغلبها ـ في الفجوة التي خلقها تأميم مؤسسات القطاع المدني/الأهلي الموروث، وتأميم الدولة لمصادر تمويله، وتصاعدت موجة هذه المؤسسات بعد أن تعمقت تلك الفجوة بتخلي الدولة عن سياسة الرفاه وتقليص وظائفها في تمويل الموافق والخدمات العامة.
وفي مقابل شح التمويل المحلي لمؤسسات المجتمع المدني/الأهلي، ظهر سخاء التمويل الأجنبي لإنشاء وتمويل مؤسسات حديثة، وتسابق كثيرون من “دعاة المجتمع المدني/الوافد، أو الحديث”، إلى التبشير به، وتصويره على أنه ” مجمع الفضائل”، و”طوق النجاة” من كثير من أوزار التأخر والاستبداد، والتحول تجاه المدنية والحياة الديمقراطية. فالبعض ذهب إلى أن المجتمع المدني قرين الديمقراطية وعلامة على وجودها، ومن ثم إذا أردنا تحقيق الإصلاح الديمقراطي فعلينا إفساح المجال أمام تكوين وتطوير مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته لتعمل كما تعمل في المجتمعات الديمقراطية الغربية. ولكن البعض الآخر رأى أن المجتمع المدني هو بالأساس أداة لتصنيف القوى والتيارات السياسية فهي إما حديثة ومستنيرة ومتقدمة ، وإما تقليدية وظلامية ومعادية للتقدم وفي مقدمتها ـ حسب زعمهم ـ التيارات والقوى الإسلامية، ووفقاً لهذا الاستخدام جرى توظيف مفهوم المجتمع المدني كأداة لتأجيج الصراع السياسي الداخلي في بعض المجتمعات العربية والإسلامية.
شروط الخارج وقيود الداخل
يدلنا تاريخ المجتمع المدني/الأهلي الموروث في البلدان العربية على أن مؤسساته ونشاطاته المختلفة قد أسهمت في التعبير عن إرادة المجتمع، بالقدر الذي أسهمت فيه بتقييد إرادة السلطة؛ وذلك على قاعدة التمويل المستقل الذي ضمنته الأوقاف الخيرية، وغيرها من مصادر التمويل الأهلية أو الذاتية. أما وقائع نشأة المجتمع المدني الحديث/الوافد فتدلنا على أن مؤسساته ومنظماته المختلفة قد ارتبطت في أغلب الحالات بجدول أعمال “وافد” هو الآخر، ومشروط بشروط جهة التمويل الأجنبية التي تقدم المساعدات المادية وغير المادية. وفي مواجهة هذا الوفود المشروط لمؤسسات المجتمع المدني نهضت “الدولة” ـ كي تحافظ على سيادتها ـ ووضعت مجموعة من القيود على تلك المؤسسات، أهمها تلك المتعلقة بتلقي التمويل من الخارج، ووجوب أن يكون بمعرفة سلطات الدولة المختصة، وبموافقتها المسبقة، ومراقبتها اللاحقة. وهكذا وجدنا أغلب الحكومات العربية تستصدر قوانين تخولها صلاحية واسعة في مراقبة تلك المؤسسات ومحاسبتها، وتوجيهها، وإغلاقها إذا اقتضى الأمر.
يجادل البعض في مسألة “الشروط” المصاحبة للتمويل والمساعدات الأجنبية التي تتلقاها مؤسسات المجتمع المدني/الحديث في كثير من الأحيان، ويرى هذا البعض أنه لا توجد شروط من أساسه، أو أن الشروط موجودة ولكنها لا تتعلق بنوعية النشاطات والبرامج التي تقوم بها هذه الجمعية أو تلك المنظمة.
وفي رأينا أن “الشروط” موجودة في كل حالات الدعم الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني العربية. وهي شروط بنسب متفاوتة بين اللين والشدة، وبدرجات مختلفة من الظهور والخفاء. فليس ثمة مساعدة عابرة للقطرية، أو للقارات، إلا وهي مشروطة، ولا توجد مساعدة أو معونة لوجه الله على هذا المستوى الذي يندرج في تفاصيل العلاقات الدولية بين الشعوب والأمم، مهما كان غطاؤها إنساني النزعة، ناهيك عن أن المساعدات والمنح الدولية مسيسة في كثير من الحالات، ومقيدة بشروط تضمن مصلحة الجهات المانحة في كل الحالات. هناك شروط عامة تخضع لها الدولة المتلقية للمساعدات وللمنح والقروض التي تمول نشاطات وأعمال مؤسسات المجتمع المدني. وهذه الشروط تمليها الجهات المانحة؛ سواء كانت دولاً، أو منظمات دولية حكومية، أو منظمات دولية غير حكومية، إضافة إلى أنها تفرض شروطها أيضاً على “المنظمات أو المؤسسات” الممنوحة بشكل مباشر أحياناً، أو غير مباشر أحيناً أخرى.
تظهر “شروط الخارج” في نوعية القضايا التي تهتم بها “مؤسسات المجتمع المدني”، وفي “أولوية” هذه القضايا التي تهتم بها؛ فليس ضرورياً أن تنسجم اختيارات وأولويات جهات التمويل الأجنبي التي تملك فرض الشروط، مع اختيارات وأولويات المجتمع المحلي واحتياجاته الحقيقية. ومن ذلك مثلاً: أن بعض الجهات المانحة تشترط تخصيص مساعداتها لمحاربة ظاهرة “ختان الإناث”، وتعطيها أولوية أسبق وأكبر من قضية “العنوسة” التي تحتل أولوية كبرى لدى المجتمع المحلي. وتعطي جهات مانحة أخرى قضية ” مشاركة المرأة في العمل السياسي”، أسبقية على مواجهة “مشكلة الأمية” التي تضرب نصف الرجال والنساء في أغلبية البلدان العربية. وبينما تشترط جهات التمويل تخصيص مساعداتها للدفاع باستماتة عن “حقوق الأقليات”، نجد أن الأقليات والأغلبيات تعاني على قدم المساواة من نفس الانتهاكات وضياع الحقوق.
وتستخدم بعض جهات التمويل المساعدات التي تقدمها أداة للضغط ـ في بعض الحالات ـ على السلطات المحلية في البلدان المتلقية للمساعدات. وغالباً ما يكون الهدف من هذا الضغط هو إرغام تلك السلطات المحلية على الرضوخ لشروط سياسية ترى أنها مجحفة، أو لكي تضطرها للاستجابة لمطالب دولية تعتقد أنها غير عادلة، أو تنتقص من سيادتها الوطنية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتكررة، منها: انسحاب منظمات الإغاثة والمساعدات الدولية من العراق قبل أن يتعرض للغزو الأمريكي سنة2003، وتوقف عمل كثير من المنظمات المماثلة في السودان، وفي دارفور تحديداً كنوع من الضغط؛ كي تستجيب السلطات السودانية لقرار توقيف الرئيس عمر البشير.
شروط “الخارج” لا تقتصر فقط على مطالب جهات التمويل والهيئات المانحة من مؤسسات “المجتمع المدني” المتلقية للمنح والمساعدات، وإنما هناك أيضاً ضغوط “العولمة” التي تسعى ـ دون كلل ـ إلى استتباع كل التكوينات المحلية، والقومية في تيارها الجارف. وأول ضحايا هذه العولمة هي “سيادة الدولة” الوطنية بمعناها الحديث؛ وهذه “الدولة بسيادتها” وخاصة في مجتمعاتنا العربية، هي المجال الذي تتحرك فيها مؤسسات المجتمع المدني، ومع زيادة اعتمادية هذه المؤسسات على التمويل الخارجي بشروطه وضغوطاته، تزداد حساسية الدولة تجاه المجتمع المدني ومؤسساته، والحاصل هو أنه كلما أضحت “سيادة الدولة” مقيَّدة من الخارج، زاد جنوحها لفرض مزيد من القيود على المؤسسات والتكوينات الجمعوية؛ السياسية والمدنية في الداخل. وتنال هذه القيود التي تمارسها “سيادة الدولة” من حرية واستقلالية “مؤسسات المجتمع المدني” العاملة فيها، والمعتمدة أساسًا على التمويل والمساعدات الأجنبية.
حصيلة تفاعلات “شروط الخارج، وقيود الداخل” على مؤسسات المجتمع المدني العربي هي أنها تفرغه من مضمونه، وتجعله رهين المحبسين: محبس الشروط، ومحبس القيود، ومن ثم يفقد هذا “المجتمع المدني” فاعليته، ويصبح “لا وظيفياً” في علاقته بعمليات التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي.
علل اللاوظيفية ومداخل علاجها
في كل بلد من بلداننا العربية يوجد “مجتمع مدني” له مؤسسات ومنظمات متنوعة، والأهم من تنوعها هو “انقسامها” إلى قطاعين أساسيين: أحدهما موروث قديم، والآخر وافد مستحدث، وكلاهما واقع تحت التأثيرات السلبية لتفاعل شروط الخارج وضغوطاته من جهة، وقيود الدولة الوطنية وسيادتها الداخلية من جهة أخرى. والحاصل أن هكذا مجتمع مدني هو “لا وظيفي”، وفاقد لدوره كشريك فاعل في عمليات التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي، ويكاد دوره في هذا الميدان يكون محصوراً في مرحلة “التبشير” بالفكر والكلام، ومحاصراً بسلسلة من القيود التي تحد من قدرته على الحركة، وتكرس المشكلات التي يعاني منها.
ليست المشكلة في وجود أو عدم وجود “مجتمع مدني” في البلدان العربية؛ بل المشكلة ـ ويا للمفارقة ـ هي في وجود “مجتمعين مدنيين اثنين”، في كل بلد واحد!، وكل منهما ينفي الآخر، ويزدريه، ولا يكاد يعرفه، ناهيك عن أن يعترف به، أو يتعاون معه. بل إن كلاً منهما ينزع عن صاحبه صفة “المدني”؛ فالمجتمع المدني القديم الموروث ينفيها عن المجتمع المدني الوافد/المستحدث بحجة أنه “أجنبي” وليس أهلياً/ مدنياً؛ في إشارة واضحة إلى مشكلة التمويل والمنح التي تمده بأسباب الحياة، بينما “المجتمع المدني الوافد/ المستحدث” ينفي هذه الصفة عن القديم الموروث، بحجة أنه “تقليدي”، وقائم على ” ولاءات” أولية: قرابية، ومذهبية، وطائفية،غير حداثية. ويكمن أساس هذه المشكلة في “ازدواجية” المرجعية الفكرية التي تستند إليها أغلبية مؤسسات المجتمع المدني العربي ومنظماته، وهذه الازدواجية هي امتداد للانقسام المعرفي/ الفلسفي الحاد بين النخب الفكرية والثقافية والسياسية بين اتجاهات تتبنى المرجعية الإسلامية وفق اجتهاداتها الخاصة والمتنوعة، واتجاهات أخرى تتبنى مرجعية التحديث الغربية وفق تصوراتها الخاصة والمتنوعة أيضاً.
هناك مشكلات أخرى كثيرة تعوق “المجتمعين المدنيين الاثنين” الموجودين في كل بلد عربي، وقد ناقشناها في مقالة سابقة منشورة بتاريخ 3/7/2006 على موقع “الجزيرة. نت” تحت عنوان ” المشكلات السبع المعوقة للتحول الديمقراطي”، وقد حاولنا فيها الكشف عن علل الإعاقة التي تجعل “المجتمع المدني العربي” لا وظيفياً في المساعي العربية صوب “الديمقراطية”. وقد قلنا هناك إن أهم العلل التي تعوق المجتمع المدني عن أداء دوره بفاعلية في الإصلاح والتحول الديمقراطي تتمثل ـ إضافة إلى الازدواجية المعرفية ـ في: التسييس، والخلل في أولويات العمل، والفساد، وشح التمويل المحلي، وجمود القيادات والخطابات، والبيروقراطية والقيود الأمنية.
والسؤال الآن هو: كيف يمكن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني العربي في خدمة قضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي؟. والإجابة تبدأ ـ بداهة ـ بمعالجة العلل السابقة، حتى يبرأ “المجتمع المدني” منها، ويكون في ضع صحي يمكنه من أداء وظائفه بفاعلية.
تحتاج إشكالية ازدواجية المرجعية المعرفية إلى مدى زمني أطول نسبياً، وإلى جهود نظرية وفكرية مكثفة تستهدف تضييق الفجوة بين المرجعيتين على قاعدة المصلحة الاجتماعية الراجحة. وتحتاج مشكلة التسييس إلى حلول من خارج مؤسسات المجتمع المدني ذاتها؛ موروثة كانت أو وافدة، تتمثل في إصلاح الحقل السياسي وفتحه أمام القوى والتيارات المستبعدة منه؛ حتى لا تضطر إلى منافسة السلطات الحاكمة على تسييس مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني. وفي تقديرنا أنه كلما تقدم الإصلاح السياسي والديمقراطي خطوة، تراجعت حدة المشكلات التي تعوق فاعلية المجتمع المدني العربي، وتضاءلت احتمالات “تسييسه”، وتراجعت أيضاً العقبات البيروقراطية والأمنية التي تؤثر سلبياً على أدائه.
وثمة خمسة مداخل يمكن أن تسهم ـ مجتمعة ـ في مواجهة العوائق التي تحد من فعالية المجتمع المدني، وتجعله في وضع “وظيفي” بدلالة الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في البلدان العربية بشكل عام، وهذه المداخل هي:
1ـ مدخل التعليم؛ ويعني أن يتم إدماج الأفكار والمفاهيم والمهارات المتعلقة بالمجتمع المدني ومؤسساته وأدواره في مقررات جميع مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وفي الأنشطة الصفية واللاصفية، وذلك بهدف إكساب الأجيال الجديدة المعرفة العلمية الصحيحة حول هذا القطاع، وتوعيتهم بأهميته في مواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع، وكذلك الأدوار التي يمكن أن يسهم بها في التنمية الشاملة.
2ـ مدخل الإعلام؛ ويعني أن تتبنى وسائل الإعلام بمختلف أنواعها برامج متنوعة لتنوير الرأي العام ورفع وعيه بهذا القطاع المدني، وبالقيم المرجعية التي يستند إليها. على أن تكون “مادة المجتمع المدني” ومسائله وتساؤلاته موجودة بصفة دائمة على الأجندة الإعلامية، وعلى يد خبراء ومختصين في هذا المجال.
3ـ المدخل التشريعي/القانوني، وهي يستهدف مراجعة وتحديث القوانين المنظمة لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني ـ على اختلاف أنواعها؛ بما فيها قوانين الأوقاف، والجمعيات الأهلية، والنقابات، والأحزاب السياسية، والأندية الرياضية…إلخ ـ وتخليصها من العوائق التي تحول دون فاعليتها في الممارسة العملية، وفي مقدمتها طغيان سلطات الإدارة الحكومية عليها، وتدخلها المبالغ فيه في أنشطتها وبرامج عملها.
4ـ مدخل التدريب والتأهيل؛ وهو يعني الاهتمام ببرامج التدريب وإعادة التأهيل للعاملين في قطاع “المجتمع المدني” بمختلف مؤسساته ومنظماته؛ على أن تقوم جهات متخصصة وبيوت خبرة في هذا المجال تحديداً؛ لكونه يتطلب مهارات وقدرات وكفاءات خاصة تستطيع التعامل بكفاءة مع احتياجاته وتحدياته.
5ـ مدخل التمويل؛ وهو يعني ضرورة بذل جهود منظمة ومدروسة لحشد الموارد المحلية اللازمة لتمويل مؤسسات المجتمع المدني، والحد من اعتماديتها على مصادر التمويل الأجنبية، والحكومية في آن واحد، وتجعلها في غنى عن هذا التمويل، وفي منجىً من شروطه وضغوطاته. وفي رأينا أن لدى المجتمع العربي إرثاً عريقاً غير مستغل بكفاءة حتى الآن في مجال تمويل مشروعات ومؤسسات المجتمع المدني. ويشير هذا الإرث إلى وجود “هرم مدرج” من المصادر التمويلية المحلية التي تتمتع بدرجة عالية من الوفرة، ومن الاستقلالية في آن واحد. ولهذا الهرم التمويلي/الذاتي ست درجات، تختلف كل منها في مدى إلزاميتها، وفي حجم ما توفر من موارد زيادة ونقصاناً. وتأتي “الزكاة” المفروضة في الدرجة الأولى، ويليها في الثانية “الوقف” الخيري، وفي الثالثة “الهبات”، ثم “الوصايا” في الدرجة الرابعة، وتليها في الخامسة ” النذور”، وفي السادسة “الكفارات”.
ثمة ضرورة ملحة للتنبيه إلى هذه المصادر التمويلية المحلية، ولكن الضرورة الأكثر إلحاحاً هي تجديد النظر الفقهي/ والإداري في التعامل مع هذه المصادر جمعاً، توظيفاً، واستثماراً، وإدارة، وصرفاً في مجالات عمل مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته. وهذا التجديد يحتاج بدوره إلا اجتهادات أصيلة ومنفتحة على متغيرات الواقع، ومنخرطة في معركة التصدي لتحدياته.
اعتقادنا أن لدينا كثيراً من “الحقائق” وكثيراً من “الأوهام” ذات الصلة بميدان “المجتمع المدني” و”وظيفيته” الإصلاحية عامة. ولكن ما يعيب ما هنالك من “حقائق”، وما يغطي على ما هنالك من “أوهام” هو أنها ـ هذه وتلك ـ لا تزال مبعثرة، وغير متجانسة، وغير وظيفية بدلالة علاقتها الراهنة بعملية الإصلاح والتحول الديمقراطي، وتحسين نوعية الحياة، وتمكين أكبر عدد ممكن من المواطنين من حرية الاختيار، والشعور بالكرامة الإنسانية، و”العدالة”؛ ودون هذه “القيم” التي تعبر عن صميم الرسالة الإسلامية/المدنية، سيظل “المجتمع المدني بلا قلب”، وسيبقى “لا وظيفياً” في صلته بجهود الإصلاح.
_______________
أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
الجزيرة نت