التخلّف اللبناني في مرآة الانتخابات النيابية
خالد غزال
تقدم المعركة الانتخابية الجارية فصولها راهنا، والمتوقع انتهاء فصلها الأول والأهم أواخر الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) الحالي، صورة مكبرة لحقيقة الوضع اللبناني على جميع الأصعدة والمستويات، فهي تكشف حجم الانحدار والتدهور المريع في الحياة السياسية اللبنانية والقائمين على إدارتها. كما تجسد الانهيار البنيوي الكبير الذي أصاب المجتمع اللبناني وبناه كافة، وتكشف انعكاس هذا الانهيار على السلوك البشري اللبناني في علاقته بالمجموعات المكونة للمجتمع اللبناني، كما تظهر «على المكبّر» واقع الثقافة اللبنانية، السياسية منها والمدنية، والدرك الذي انزلقت إليه، ومسلك المثقفين الحاملين لهذه الثقافة.. وهي أمور يمكن تلخيصها في كلمة «التخلف اللبناني» الشامل، الذي تشكل الانتخابات الراهنة أهم مناسبة لتجلياته الخاصة والعامة.
لا يجري إلصاق تهمة التخلف على الواقع اللبناني بالمعنى القيمي أو الأخلاقي، ولا يجري استخدامه بالمعنى التنموي الاقتصادي والاجتماعي، الذي تلجأ إليه التقارير في قياس درجة، أو تقدم المجتمع، لكن من دون إنكار موقع هذه العناصر في تعيين عناصر التخلف اللبناني، فإن التركيز هنا سيطال بعض المحددات التي يجري قياس التخلف اللبناني بالنسبة إليها.
تجري عادة الإشارة إلى البلدان السائرة في طريق التقدم والحداثة، وفق مقياس تكوّن الدولة في هذا البلد، وتحقيق الاندماج الاجتماعي فيه على قاعدة تجاوز مكوناته العصبية المتمثلة بالطوائف والإثنيات والعشائر والقبائل.. لمصلحة المشترك العام الذي تمثله الدولة، ويشهد الوضع اللبناني منذ عقود مسارا معاكسا لهذه الوجهة، وصل الأمر اليوم إلى اكتساح الخاص المتمثل بالعصبيات الطائفية للعام المشترك المتمثل بالدولة، فبات البلد فيدراليات طوائف يستحيل اتخاذ قرارات أساسية في شأن أموره من دون توافق هذه الطوائف، هذا الانهيار في بنى الدولة والنتائج السلبية المنعكسة على مسار التطور يشكل أهم عناصر هذا التخلف اللبناني.
المظهر الآخر والمنبثق من هيمنة الطوائف على الحياة العامة يتصل بنمط السلوك الذي بات يسم تعاطي اللبناني مع الآخر. تفرض الطوائف ومؤسساتها أنماطا من الممارسة تقوم على شحن الجماهير الطائفية بكل أنواع التحريض والكره للآخر ورفضه، والابتعاد عن العقلانية في التعاطي العام والخاص، وإثارة مختلف أنواع الغرائز، واستحضار الرموز وإحيائها بكل ما تعنيه من تأجيج مظاهر الحقد، وبناء الكراهية بين أبناء الطوائف، تتساوى جميع الطبقات والفئات الاجتماعية، الغنية منها والمتوسطة والفقيرة، في حمل العقلية نفسها وممارسة متشابهة في جميع الميادين، ونحن أمام قولبة تفرضها الطوائف تساعدها على توجيه الفرد وفق ما تراه مناسبا لمصلحة الطائفة وتطلعاتها.
لسنوات خلت، كان البلد عنوانا لثقافة متميزة في العالم العربي، تتسم بالأفق المفتوح والرحابة والانفتاح على مجمل الثقافات العالمية، وكان تطور المستوى العلمي والثقافي أحد المظاهر الدالة على تقدم البلد وتجاوزه حدا كبير من عناصر التخلف الذي يلف المجتمعات العربية، لم تعد هذه الصورة اليوم متوافقة مع واقع الحال في ظل هيمنة الطوائف وثقافاتها.
كما تراجع العام الدولي لمصلحة الخاص الطائفي، وتراجعت الثقافة المشتركة الرحبة الواسعة الأفق لمصلحة ثقافات فئوية تحملها الطوائف، ويقوم عمادها على إبراز الطائفة وأيديولوجيتها في وصفها حاملة الحقيقة المطلقة، وصاحبة الرأي الأرجح، فيما تقف سائر الطوائف على طريق الضلال. تسعى كل طائفة إلى تسييد فكرها وثقافتها ومحاولة جعلها الأساس الذي تنضوي تحته سائر الطوائف، تبث الثقافة الطوائفية كل منوعات الديكتاتورية وقهر الإنسان، ومعاداة الآخر، ونبذ غير المنتمي إليها، وصولا إلى التحريض العنفي ضدها سبيلا للقضاء عليها وإفنائها إذا قيض لها أن تقوم بهذه المهمة. تنعكس ثقافة الطوائف على الجماهير وعلى المثقفين، وتحمل الجماهير الطوائفية حجما هائلا من ثقافة سقط المتاع والسوقية والابتذال، مما تشهد عليه المهرجانات الدائرة هنا وهناك، ونوع الشعارات التي يجري إطلاقها، ويعزز مثقفو الطوائف هذا الانفلات الغريزي في الثقافة السوقية لجماهير الطوائف، ويعطونها طابعا نظريا وأدلجة بما يمكنها من الانغراس في عقول الجماهير وترجمتها على الأرض على شكل فوضى وإرهاب للآخر، هذا في وقت يتنطح فيه مثقفو الطوائف لإعادة كتابة تاريخ لبنان وأحداثه القديمة منه والحديثة، وفق منظور يضع الطائفة في المقام الأول، ويهمش موقع سائر الطوائف، بل يحاول هؤلاء المثقفون إدراج الوطن بمجمله في إطار هذه الطائفة أو تلك. لا تنفرد طائفة، بمثقفيها وجماهيرها، بهذا التوصيف، فالكل سواسية في المنطلقات والأهداف والوسائل.
ليس من قبيل المبالغة والإيغال في التشاؤم القول إن الانتخابات النيابية بالأشكال الدائرة فيها راهنا، وبنمط الخطاب السياسي الجاري والمتشابه في مضمونه ووسائله، إنما تشكل مدخلا واسعا لاندلاع حروب أهلية في كل منطقة من المناطق اللبنانية، فما يجري اليوم من خطاب وممارسة يقع في صميم الحروب الأهلية، التي تعبر عادة عن عمق الانقسام في المجتمع واستحالة التوافق بين أبنائه، فالخطاب المندلع هو خطاب حرب أهلية بامتياز، لا ينقصه سوى إطلاق الرصاصة ليتحول ساخنا ومدمرا، وسط هذه الاحتدامات، يفتقد البلد إلى حد كبير، للقوى المانعة لاندلاع هذه الحروب وللوقوف سدا في وجه تداعيات الخطاب الطوائفي، وتسبب الانهيار البنيوي في اندثار موقع هذه القوى، وباتت على هامش الهامش، بعدما سحقت الطوائف معارضيها، وهو أمر دال على حجم التخلف الذي وصل إليه البلد.
قد يخدع المشهد الخارجي للبلد، من حيث حجم العمران أو حجم المؤسسات التعليمية، أو حجم الخريجين من الجامعات سنويا، في إعطاء صورة لبلد سائر في التقدم ومتجاوز لعوامل التخلف، لكن هذا المشهد الخارجي يحوي نقيضه على المستوى العقلي والفكري والسياسي، إنه يحوي مشهد شعوب وقبائل تتقاتل وترغب كل واحدة أن تلتهم الأخرى، إنه مشهد التخلف الحضاري في أعلى صوره، ينطبق عليه تعبير د.مصطفى حجازي القائل: «التخلف كهدر لقيمة الإنسان، إنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها، قدسيتها، والاحترام الجديرة به».
كاتب من لبنان